أولاً: القصة في أصلها صحيحة، وقد ردت في أحاديث عدة وسياقات يكمل بعضها بعضاً:
روى البخاري في صحيحه عن الإمام الأوزاعي قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِي أَي أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ).
وروى البخاري عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَبِى أُسَيْدٍ قَالاَ: (تزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ)، أي: ثياب من كتان بيض طوال.
وروى أيضا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضى الله عنه قَالَ: (ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي، فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ، قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْقِنَا يَا سَهْلُ، فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ).
ثانيًا: لماذا استعاذت المرأة الجونية من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يمكن توجيه ذلك ببعض الأجوبة الآتية:
1- قد يقال إنها لم تكن تَعرِف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، بدليل الرواية الأخيرة من الروايات المذكورة أعلاه، وفيها: (فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ. قَالُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ).
يقول الحافظ ابن حجر: "وقال غيره: يحتمل أنها لم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فخاطبته بذلك. وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال.
نعم سيأتي في أواخر الأشربة من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد – فذكر الرواية الأخيرة، ثم قال: "فإن كانت القصة واحدة فلا يكون قوله في حديث الباب: (ألحقها بأهلها)، ولا قوله في حديث عائشة: (الحقي بأهلك) تطليقاً، ويتعين أنها لم تعرفه. وإن كانت القصة متعددة، ولا مانع من ذلك، فلعل هذه المرأة هي الكلابية التي وقع فيها الاضطراب".([1])
2- ويذكر بعض أهل العلم أن سبب استعاذتها من النبي صلى الله عليه وسلم ما غرها به بعض أزواجه صلى الله عليه وسلم، حيث أوهموها أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذه الكلمة، فقالتها رغبة في التقرب إليه، وهي لا تدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سيعيذها من نفسه بالفراق إن سمعها منه، وجاء ذلك من طرق ثلاثة:
الطريق الأولى: يرويها ابن سعد في "الطبقات"([2])، والحاكم في "المستدرك"([3]) ، من طريق محمد بن عمر الواقدي، وهو ضعيف في الحديث.
والطريق الثانية: يرويها ابن سعد في "الطبقات"([4]) بسنده عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: (الجونية استعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل لها: هو أحظى لك عنده، ولم تستعذ منه امرأة غيرها، وإنما خدعت لما رؤي من جمالها وهيئتها، ولقد ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حملها على ما قالت لرسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهن صواحب يوسف).
الطريق الثالثة: رواها ابن سعد أيضا في "الطبقات"، قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح، عن بن عباس قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان، وكانت من أجمل أهل زمانها وأشبهم، قال فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج الغرائب قالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنا. وكان خطبها حين وفدت كندة عليه إلى أبيها، فلما رآها نساء النبي صلى الله عليه وسلم حسدنها، فقلن لها: إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه إذا دخل عليك. فلما دخل وألقى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك. فقال: أمن عائذ الله! الحقي بأهلك). ([5])
وروى أيضًا قال: أخبرنا هشام بن محمد، حدثني ابن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد الساعدي، عن أبيه - وكان بدرياً – قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان الجونية، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلن، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول أعوذ بالله منك. فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك. فقال بكمه على وجهه فاستتر به وقال: عذت معاذاً، ثلاث مرات. قال أبو أسيد ثم خرج علي فقال: يا أبا أسيد ألحقها بأهلها ومتعها برازقيتين، يعني كرباستين، فكانت تقول: دعوني الشقية).
وهذه الروايات لا تصح إسنادًا؛ قال ابن الصلاح: "وقوله (فعلمتها نساؤه) زيادة لم أجد لها أصلاً ثابتاً، وحديث المستعيذة ثابت في صحيح البخاري، وغيره، بدون هذه الزيادة البعيدة، وقد رواها محمد بن سعد في "طبقاته" لكن بإسناد ضعيف". ([6])
3- وذكر آخرون من أهل العلم أن سبب استعاذتها هو تكبرها، حيث كانت جميلة وفي بيت من بيوت ملوك العرب، وكانت ترغب عن الزواج بمن ليس بِمَلِك، وهذا يؤيده ما جاء في الرواية المذكورة أعلاه، وفيها: (فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَبِي نَفْسَكِ لِي، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ، قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا).
يقول الحافظ ابن حجر: "(السُّوقة) قيل لهم ذلك؛ لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه، ويصرفهم على مراده، وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي. قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكا نبيا، فاختار أن يكون عبدا نبيا، تواضعا منه لربه، ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها، معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها".([7])، وقد أشار إلى هذا الأمر، أحد علماء الرافضة.
قال الطبرسي: "وتزوّج مليكة الليثيّة، فلمّا دخل عليها قال لها: «هبي لي نفسك»، فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى بيده يضعها عليها فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: «لقد عذت بمعاذ» فسرّحها ومتّعها".([8])
ثالثًاً: لو صح أن هذا الأمر صدر عن عائشة رضي الله عنها أو إحدى زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم، فالدافع له كما هو ظاهر إنما هو الغيرة التي تكون بين الزوجات.
قال ابن الملقن: "واستبعد بَعضهم صُدُور هَذَا القَوْل من نسَاء رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ شرفهن بِصُحْبَتِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بالقوى؛ فَإِن الْغيرَة وَالْحب لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم والحرص عَلَى عدم مشاركتهن فِيهِ قد تحملهن عَلَى قريبٍ من ذَلِك؛ إِذْ جَاءَ فِي «الصَّحِيح» تواطؤ عَائِشَة وَصفِيَّة وَسَوْدَة عَلَى أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا دخل عَلَيْهِنَّ يَقُلْنَ لَهُ: «أكلتَ مَغَافِير...» الحديثَ".([9])
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
5- "الطبقات"- ابن سعد - (8/145).
6- شرح مشكل الوسيط- ابن الصلاح- (3/ 513).
8- إعلام الورى بأعلام الهدى- الطبرسي- (ص 279).
9- البدر المنير- ابن الملقن- (7/ 455).