أولاً: النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الغاية في الحياء، بل وهو الذي قال: "لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ"([1]).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا"([2]).
فكيف يقال بعد هذا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كشف ما لا يجوز كشفه، أو كان على هيئة لا ينبغي أن يكون عليها؟! بل لقد عصم الله نبيه من التعري حتى قبل البعثة.
عن عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أنه سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ، ذَهَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الحِجَارَةَ، فَقَالَ عَبَّاسٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ يَقِيكَ مِنَ الحِجَارَةِ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: «إِزَارِي إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ"([3]).
فهذه رعاية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى قبل البعثة، فما بالك بما بعدها؟!
إذًا الحال التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها ما يخل بالحياء أو يخرم المروءة، وهو أعلم الناس وأدراهم بعرف زمانه، وما الذي يخرم الحياء والمروءة من عدمه.
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر وعمر أصهاره وأقرب أصحابه إليه، دليل على أنه يتعامل معهما بلا تكلف، وهذا دليل حب وقرب، والمرء يتكلف مع صاحبه على حسب قربه منه، وكلما رُفع التكلف -دون خرم للحياء- كلما دلَّك على قرب الصاحب لصاحبه ومحبته له، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عثمان إنما هو من باب الفضل لا الواجب، رعاية لحال عثمان الذي تستحي منه الملائكة، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنع الحياء عثمان من طلب حاجته، فظهر من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يراعي أحوال أصحابه دون أن يخرم حياء أو يرتكب محرما -حاشاه- - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الشيعة فعندهم من الطوام في ذلك الكثير، فهم يزعمون أن إمامهم المعصوم الخامس محمد الباقر، كان يدخل الحمام ويكشف عورته أمام الناس.
فعن عبيد الله الدابقي قال: "دخلت حماما بالمدينة ... فقلت: لمن هذا الحمام؟ فقال: لأبي جعفر محمد بن علي عليه السلام. فقلت: كان يدخله؟ قال: نعم. فقلت: كيف كان يصنع؟ قال: كان يدخل يبدأ فيطلي عانته، وما يليها، ثم يلف على طرف إحليله، ويدعوني فأطلي سائر بدن، فقلت له يوماً من الأيام: الذي تكره أن أراه قد رأيته - يقصد عورته المغلظة –"([4]).
ويعلق أحد علمائهم فيقول: إن حجم الذكر يجوز النظر إليه، إذا كان ملفوفًا بشيء يظهر معه الحجم.
يقول الآراكي: "والحجم بمعنى الهيئة الحاصلة من لف الجسم بخرقة غليظة، أو بنورة كذلك، بحيث يرى كالكومة لا دليل على لزوم ستره"([5]).
وقد روى الكليني بسنده عن أبي الحسن عليه السلام قال: "العورة عورتان القبل والدبر، فأما الدبر مستور بالإليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة "([6]).
ثانيًا: أما كون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لبس مرط عائشة رضي الله عنها. فمعنى المرط: هو الكساء أو الثوب مطلقا، وليس مختصا بالنساء.
قال ابن منظور: "والمِرْط: كُلُّ ثَوْبٍ غَيْرِ مَخِيط"([7]).
قال الجوهري: "والمِرْطُ بالكسر: واحد المروطِ، وهي أكسيةٌ من صوف أو خَزٍّ كان يؤتزر بها"([8]).
فهذا كساء أشبه بالملحفة أو الغطاء العام، وبالتالي فهو كساء مشترك، ليس فيه أي معلم حتى تتميز به النساء عن الرجال.
ولمزيد من التوضيح: هذا حديث الكساء المعروف من حديث أم المؤمنين عائشة.
روى الإمام مسلم في (صحيحه): "عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ ([9])، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
فهذا نص واضح يعرفنا أن المرط لباس لا يختص بالمرأة؛ وإنما يأتزر به الرجل وتتلفع به المرأة، ويتخذ كغطاء لهما.
وأيضا فإن اللبس في قوله (لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ) كلمة تطلق في اللغة على اللبس المعروف وعلى مجرد الافتراش أيضا، وعلى غير ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: "قَوْلُهُ (مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ) فِيهِ أَنَّ الِافْتِرَاشَ يُسَمَّى لُبْسًا، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ افْتِرَاشِ الْحَرِيرِ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ"([10]).
وقال ابن رجب الحنبلي: "وقوله (قد اسود من طول ما لبس) يدل على أن لبس كل شيء بحسبه، فلبس الحصير: هو بسطه واستعماله في الجلوس عليه"([11]).
هنا مجرد افتراش، ومع ذلك سمى لبسًا، وبالتالي فاللبس الوارد في الحديث، إنما هو مجرد التحاف، وكما يلتحف الرجل بثوب مشترك بينه وبين أبناءه أو زوجته، وهو يجلس معهم وليس المقصود اللبس المعروف عند الإطلاق.
فظهر من هذا: أن المرط ثياب لا يخص المرأة ، وإنما يلبسه الرجل والمرأة بلا إشكال شرعًا ولا عرفًا.
وقد جاء في كتب الإمامية ما يدل على جواز لبس الرجل ثوب المرأة.
روى الكليني بإسناده عن العيص ابن القاسم قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلي في ثوب المرأة وفي إزارها ويعتم بخمارها، قال: نعم إذا كانت مأمونة"([12]).
وقال الحلي: "يجوز أن يصلي الرجل في ثوب المرأة إذا كانت مأمونة؛ لعدم المانع، ولرواية العيص الصحيحة عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن الرجل يصلي في ثوب المرأة في إزارها ويعتم بخمارها، قال: نعم، إذا كانت مأمونة "([13]).
وقال أيضاً: "مسألة: قال الشيخ - رحمه الله تعالى - يجوز للرجل أن يصلي في ثوب المرأة إذا كانت مأمونة. وعد ابن البراج في المكروه ثوب المرأة للرجل، وأطلق.
لنا: الأصل براءة الذمة من كراهة وتحريم، وما رواه العيص بن القاسم في الصحيح قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يصلي في ثوب المرأة وفي إزارها ويعتم بخمارها، قال: نعم إذا كانت مأمونة "([14]).
وقال الخوئي: "قال (عليه السلام): إني لأكره أن يتشبه بالنساء، وفي رواية أخرى: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينهى المرأة أن تتشبه بالرجال في لباسها، فإنه يستفاد منهما تحريم التشبه في اللباس.
وفيه: أنه ليس المراد من التشبه في الروايتين مجرد لبس كل من الرجل والمرأة لباس الآخر، وإلا لحرم لبس أحد الزوجين لباس الآخر لبعض الدواعي كبرد ونحوه، بل الظاهر من التشبه في اللباس المذكور في الروايتين هو أن يتزي كل من الرجل والمرأة بزي الآخر، كالمطربات اللاتي أخذن زي الرجال، والمطربين الذين أخذوا زي النساء، ومن البديهي أنه من المحرمات في الشريعة، بل من أخبث الخبائث وأشد الجرائم وأكبر الكبائر.
على أن المراد في الرواية الأولى هي الكراهة، إذ من المقطوع به أن جر الثوب ليس من المحرمات في الشريعة المقدسة.
وقد تجلى مما ذكرناه أنه لا شك في جواز لبس الرجل لباس المرأة لإظهار الحزن وتجسم قضية الطف وإقامة التعزية لسيد شباب أهل الجنة (عليه السلام)، وتوهم حرمته لأخبار النهي عن التشبه ناشئ من الوساوس الشيطانية، فإنك قد عرفت عدم دلالتها على حرمة التشبه"([15]).
وممن تخفى في زي النساء من الشيعة: أيوب بن السيد محسن بن محمد بن فلاح الموسوي المشعشعي وأخوه السيد علي، هؤلاء تزيوا بزي النساء.([16])
ثالثًا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ"
والجواب على هذا الاعتراض المتهافت جدا؛ بأن نقول إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين:" اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ"
هو أمر لها بأن تأخذ المرط "الغطاء الجامع بينهما فوق الملابس" الذي عليه - صلى الله عليه وسلم -، وليس في الحديث أي شيء يوحى بأنها رضي الله عنها كانت متكشفة وحاشاها، بل حاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت على منكر، وبالتالي فالأمر إنما هو لأخذ المرط الذي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأجل أن يعتدل النبي - صلى الله عليه وسلم - في جلسته فقط.
وقد ورد في كتب الشيعة بأسانيد صححوها؛ أن فاطمة كان يدخل عليها الأجنبي في غياب زوجها فيراها متكشفة فكانت تقول له "جفوتني" فيرد عليها حبيبتي أأجفاكم؟
روى المجلسي في (بحار الأنوار) رواية طويلة وفيها: "قال علي عليه السلام: يا سلمان أئت منزل فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها إليك مشتاقة، تريد أن تتحفك بتحفة قد أتحفت بها من الجنة، قلت لعلي عليه السلام، قد أتحفت فاطمة عليها السلام بشيء من الجنة، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم بالأمس، قال سلمان الفارسي: فهرولت إلى منزل فاطمة عليها السلام بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هي جالسة وعليها قطعة عباء إذا خمرت رأسها انجلى ساقها وإذا غطت ساقها انكشف رأسها، فلما نظرت إلي اعتجرت ثم قالت: يا سلمان جفوتني بعد وفاة أبي - صلى الله عليه وسلم -قلت: حبيبتي أأجفاكم ؟"([17]).
وقد صحح المجلسي هذه الرواية في كتابه "حلية المتقين في الآداب والسنن والأخلاق"، حيث قال:" والتمسوا من هذا العبد الحقير أن يكتب رسالة في بيان محاسن الآداب، المستوحاة من الطريقة الصحيحة والمستقيمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) بالأسانید المعتبرة، فتوكلت على الله وحررت هذه الرسالة ببضاعتي القليلة لينتفع بها المؤمنون"([18]).
والحمد الله رب العالمين
[1]- موطأ مالك (2/905)، وصححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، (3/5).
[2]- صحيح البخاري (4/190)، صحيح مسلم، (4/1809).
[3]- صحيح البخاري، (5/41).
[4]- الكافي، الكليني، (6/508).
[5]- شرح نجاة العباد، آخوند ملا أبو طالب الأراكي ، (1 /158).
[7]- لسان العرب، ابن منظور، (7/402).
[8]- الصحاح تاج اللغة، وصحاح العربية، (3/1159).
[9]- صحيح مسلم، (4/1883).
[10]- فتح الباري لابن حجر، (1/490).
[11]- فتح الباري، ابن رجب، (3/15).
[12]- الكافي، الكليني، (1/402)، وصححه المجلسي في مرآة العقول، (15/317).
[13]- تذكرة الفقهاء، (2/510).
[14]- مختلف الشيعة، الحلي، (2/91).
[15]- مصباح الفقاهة، الخوئي، (1 / 338).
[16]- أعيان الشيعة، (3/525).
[17]- بحار الأنوار، المجلسي، (43/66)؛ (92/37)؛ (94/226)؛ (95/37) ؛ منازل الآخرة والمطالب الفاخرة، عباس القمي، (ص 299)، نفس الرحمن في فضائل سلمان، للنوري الطبرسي، (ص 337)، مهج الدعوات، (ص7).
[18]- حلية المتقين في الآداب والسنن والأخلاق، المجلسي، (ص14)، ثم ذكر الرواية في (ص 389).