أولاً: لابد من إيراد الحديث كاملا ليتضح المقصود، فقد روى الإمام البخاري بسنده عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ، فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْ إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ» فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لِأُصِيبَ مِنْكِ خَيْر.([1])
فكل ما في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بأن يخلفه في الصلاة أبو بكر رضي الله عنه، فقالت عائشة رضي الله عنها إن أبا بكر رجل أسيف -كثير الأسف، كثير الحزن، متصل العبرة- إذا بكى لا يتبين الناس قراءته من البكاء. فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
(صواحب يوسف): عائشة خشيت أن يتشاءم المسلمون بـأبي بكر؛ لأنه هو الذي خلف النبي عليه الصلاة والسلام فيتشاءموا به، فأرادت أن تجنب والدها هذا الشعور الذي تشعر به، فقال: إنكن صواحب يوسف: أي تقلن غير الذي في بطونكن.
قال ابن حجر: "والمراد أنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إن هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به واحد، وهي عائشة فقط كما أن صواحب صيغة جمع، والمراد زليخا فقط. ووجه المشابهة بينهما في ذلك: أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرحت هي فيما بعد ذلك، فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا الحديث".([2])
وكلام الحافظ هذا يندفع به إيراد البعض من كون صواحب يوسف عليه السلام لم يقع منهن إظهار خلاف ما في الباطن.
قال الشريف المرتضى: "وقد علمنا أن صويحبات يوسف لم يكن منهن خلاف على يوسف، ولا مراجعة له في شيء أمرهن به، وإنما افتتن بأسرهن بحسنه". ([3])
فالجواب ما تقدم من كون المراد بصواحب يوسف عليه السلام إنما هي زليخا، وقع منها ما ذكره الحافظ مما هو شبيه بما وقع من أم المؤمنين رضي الله عنها.
ثانيًا: قد نقلت بعض كتب القوم هذا المعنى.
قال الطريحي: "و(إنكن صواحب يوسف) أراد تشبيه عائشة بزليخا وحدها، وإن جمع بين الطرفين، ووجه أنهما أظهرا خلاف ما أرادتا، فعائشة أرادت أن لا يتشأم الناس به وأظهرت كونه لا يسمع المأمومين، وزليخا أرادت أن ينظرن حسن يوسف ليعذرنها في محبته وأظهرت الإكرام في الضيافة".([4])
قال حسين البيرجندي: "وعن النبي صلى الله عليه وآله: «إنكن صويحبات يوسف»([5]). أراد تشبيه عائشة بزليخا وحدها وإن جمع في الطرفين، ووجهه: أنهما أظهرتا خلاف ما أرادتا؛ فعائشة أرادت ألا يتشأم الناس به، وأظهرت كونه لا يسمع المأمومين، وزليخا أرادت أن ينظرن حسن يوسف ليعذرنها في محبته وأظهرت الإكرام في الضيافة، أو أراد: أنتن تشوشن الأمر عليَّ كما أنهن يشوشن على يوسف. ويقال: معناه: إنكن صواحب يوسف؛ أي في التظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكن".([6])
ثالثًا: قد يحمل الحديث على غير ما تقدم.
قال الملا علي القاري: "ولا يبعد _بل هو الظاهر الأنسب مبنى_، والأقرب معنى أن المراد بـ (صويحبات يوسف): نساء المدينة، فإنه سبحانه وتعالى قال { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}، وقد قال بعض المفسرين: وإنما سماه مكرًا؛ لأنهن قلن ذلك وأظهرن المعايبة هنالك توسلاً إلى إراءتها يوسف لهن، وكان يوصف حسنه وجماله عندهن.
ثم قد يقال: الخطاب لعائشة وحفصة وجمع إما تعظيما لهما، أو تغليبا لمن معهما من الحاضرات، أو الحاضرين أو بناء على أن أقل الجمع اثنان.
ويعضده: أن هذا الحديث أي: أغمي إلى آخره، روى الشيخان أيضا بعضه، ومنه قوله: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وأن عائشة أجابته، وإن كرر ذلك فكررت الجواب، وأنه قال: (إنكن صواحب يوسف، أو صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت لها حفصة: ما كنت لأصيب منك خيرًا). ويحتمل: أن يقال المراد بصواحب يوسف: مثلهن من جنس النساء الوارد في حقهن "إن كيدكن عظيم" والله بكل شيء عليم".([7])
رابعاً: الحديث يهدم دين الرافضة، حيث أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المراجعة في تقدم أبي بكر رضي الله عنه لإمامة المسلمين في الصلاة.
قال ابن تيمية: "فدل هذا على أن تقديم غير أبي بكر في الصلاة من الباطل الذي يذم من يراود عليه كما ذم النسوة على مراودة يوسف".([8])
ومن باب أولى أن يذم من عارض خلافته أو رأى عدم شرعيتها.
خامساً: يشبه هذا - أي إظهار شيء وإرادة شيء آخر- ما يقوله القوم عن فاطمة رضي الله عنها من أنها اتخذت مطالبتها بأرض فدك ذريعة للمطالبة بإمامة علي بن أبي طالب - صلى الله عليه وسلم -.
قال المسعودي: "ثالثاً: استهدفت الزهراء من مطالبتها الحثيثة بفدك، فسح المجال أمامها للمطالبة بحق زوجها المغلوب على أمره"([9]).
وقال هاشم معروف الحسني: "إن فاطمة الزهراء لم تكن تطالب ببقعة من أرض أو بإرث مادي، بل كانت تطالب بالحق الذي جعله الله لعلي في خلافة رسول الله (ص)". ([10])
والحمد الله رب العالمين
[1] صحيح البخاري، (1/136).
[2]- فتح الباري، ابن حجر، (2/ 153).
[3]- الشافي في الإمامة، الشريف المرتضي، (2/ 159).
[4]- مجمع البحرين، فخر الدين الطريحي، (2/ 584).
[5]- بحار الأنوار، للمجلسي (28/162).
[6]- غريب الحديث في بحار الأنوار، حسین حسيني البيرجندي، (2/ 338).
[7]- جمع الوسائل في شرح الشمائل، الملا على القاري، (2/ 212-213).
[8]- منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، (8/564).
[9]- الأسرار الفاطميّة، محمد فاضل المسعودي، (ص 507).
[10]- سيرة الأئمة الاثني عشر(ع)، هاشم معروف الحسني، (1/ 114).