أولاً: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا"([1]).
وقد أجمع أهل العلم على أن الحسد هنا هو الغبطة، قال الحافظ: "وَمَعْنَى الْغِبْطَةِ تَمَنِّي الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَظِيرُ مَا لِلْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَسَدِ الَّذِي أُطْلِقَ فِي الْخَبَرِ"([2]).
وَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ الْغِبْطَةُ، وَأَطْلَقَ الْحَسَدَ عَلَيْهَا مَجَازًا، وَهِيَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ، وَالْحِرْصُ عَلَى هَذَا يُسَمَّى مُنَافَسَةً، فَإِنْ كَانَ فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ مَحْمُود، وَمِنْه فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَمِنْهُ: (وَلَا تَنَافَسُوا) وَإِنْ كَانَ فِي الْجَائِزَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ أَعْظَمُ أَوْ أَفْضَلُ مِنَ الْغِبْطَةِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْن.([3])
قال الطاهر بن عاشور: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ"، أَيْ لَا غِبْطَةَ، أَي: لَا تحق الْغِبْطَةُ إِلَّا فِي تَيْنِكَ الْخَصْلَتَيْنِ".([4])
وقد اعترف الشيعة بذلك:
يقول عبد الله شبر: "وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه الله على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس فسمى الغبطة حسداً كما قد يسمى الحسد منافسة".([5])
قال الراغب في (الذريعة إلى مكارم الشريعة): "قيل عنى هنا الغبطة، وقد تسمى بالحسد من حيث إنهما الغم الذي ينال الانسان من خير يناله غيره".([6])
ونقل علي النمازي عن العيون فقال: "عيون أخبار الرضا (عليه السلام): عن الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها: فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال: كل ذلك حق قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟
فقال: يا أبا الصلت، إن شجرة الجنة تحمل أنواعًا، فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب، وليست كشجر الدنيا - ثم ذكر عرفانهما فضل محمد وآله الطيبين، وأنه لولاهم ما خلق الله شيئا، وقوله تعالى: (فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم، فتسلط الشيطان عليه حتى أكل من الشجرة، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد).
والمراد بالحسد الغبطة التي لم تكن تنبغي له، ويؤيده قوله: وتمنى منزلتهم".([7])
فانظر إلى تفسير النمازي الحسد هنا بالغبطة، وهذا معلوم عند العرب، لكن في هذا الموضع الذي في رواية (عيون أخبار الرضا) لا يمكن حملها على الغبطة؛ لأن الغبطة فاعلها محمود لا يعاقب ولا يُهدد على فعلها وهو ما حدث في هذه الرواية!
قال الشهيد الثاني: "وإذ قد عرفت أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان:
إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسدًا، والثانية: ألا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكنك تشتهي لنفسك مثلها، وهذا يسمى: غبطة، وقد يخص باسم المنافسة، قال الله تعالى: {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} [سورة القلم: 50]. وقد تسمى المنافسة حسدا والحسد منافسة"([8]).
وعليه فالحسد طلبًا لخير مع عدم تمني زوال النعمة، مطلوب شرعا ولا يذم فاعله.
ثانيًا: كل رواية صحت عن أم المؤمنين في ذلك فإنما هي غيرة على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنافسة في خير عظيم، وسعي في إسعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وقد رووا عن الصادق قال لقمان لابنه: «للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة".([9])
ولم يكن هذا حال أم المؤمنين، بل كانت بفضل الله تروي مناقب أمهات المؤمنين وعلى رأسهم خديجة التي كانت تغار منها وهي ميتة من كثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وكانت تروي مناقب فاطمة وفي هذا ألف أحد علماء الشيعة كتاب "السيدة فاطمة الزهراء على لسان عائشة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" جمع وتبويب وتعليق العلامة الشيخ جعفر الهادي، هذا الكتاب جمع فيه مؤلفه أربعين رواية نقلت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فضائل لفاطمة بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعليه فالحسد من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها،كان هو الحسد المحمود، لا تمني زوال النعمة من الغير.
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
[1]- أخرجه البخاري في "صحيحه" (1 / 25)، ومسلم في "صحيحه" (2 / 201).
[2]- فتح الباري لابن حجر- (1/166).
[3]- فتح الباري لابن حجر- (1/ 167).
[5]- كتاب الاخلاق- (2/ 77).
[6]- الذريعة إلى مكارم الشريعة (183)، منية المريد- الشهيد الثاني- (ص 102).
[7]- مستدرك سفينة البحار- (5/ 358).
[8]- هامش كتاب الاخلاق- لعبد الله شبر- (2/ 77).
[9]- ميزان الحكمة- محمد المحمدي الريشهري- (1/ 631).