أولًا: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس بن مالكٍ، أنه قال: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أَمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجرَّاحِ»[1].
قلت: ولا يكره الشدة في الحق إلا مبطل.
ثانيًا: إن عمر بن الخطَّاب I قد قام بفضيلة الرفق حق القيام.
قال أبو حامد الغزالي: «قال سفيان لأصحابه: تدرون ما الرفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور في مواضعها: الشدة في مواضعها، واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه؛ وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين، والفظاظة بالرفق»[2].
وقد جمع عمر بين كل تلك الفضائل في خطبة نقلها عنه سعيد بن المسيب، ويحسن بنا إيرادها كاملة في هذا السياق:
عن سعيد بن المسيّب قال: «لَمَّا ولي عمر بن الخطَّاب خطب النَّاس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: أيّها النَّاس، إنّي قد علمت أنّكم تؤنسون منّي شدّةً وغلظةً، وذلك أنّي كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عبده وخادمه، وكان كما قال الله: [e:128]، فكنت بين يديه كالسّيف المسلول إلَّا أن يغمدني أو ينهاني عن أمرٍ فأكفّ، وإلّا أقدمت على النَّاس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتَّى توفّاه الله وهو عنّي راضٍ، والحمد للّه على ذلك كثيرًا، وأنا به أسعد، ثمَّ قمت ذلك المقام مع أبي بكرٍ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وكان من قد علمتم في كرمه ودعته ولينه، فكنت خادمه، وكنت كالسّيف المسلول بين يديه أخلط شدّتي بلينه، إلَّا أن يتقدّم إليّ فأكفّ وإلّا أقدمت، فلم أزل على ذلك حتَّى توفّاه الله وهو عنّي راضٍ، والحمد للّه على ذلك كثيرًا، وأنا به أسعد، ثمَّ صار أمركم اليوم إليّ، وأنا أعلم، فسيقول قائلٌ: كان ليشتدّ علينا والأمر إلى غيره، فكيف إذا صار إليه؟! واعلموا أنّكم
لا تسألون عنّي أحدًا، قد عرفتموني وجرّبتموني، وعرفت من سنّة نبيّكم صلى الله عليه وسلم ما عرفت، وما أصبحت نادمًا على شيءٍ أكون أحبّ أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلَّا وسألته، واعلموا أنَّ شدّتي الَّتي كنتم ترون ازدادت أضعافًا؛ إذ صار الأمر إليّ على الظّالم والمتعدّي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويّهم، وإنّي بعد شدّتي تلك واضعٌ خدّي إلى الأرض لأهل العفاف والكفاف منكم والتّسليم، وإنّي لا آبي إن كان بيني وبين أحدٍ منكم شيءٌ من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر فيما بيني وبينه أحدٌ منكم، فاتّقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفّها عنّي، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإحضاري النّصيحة فيما ولّاني الله من أمركم، ثمَّ نزل.
قال ابن المسيّب: فوالله لقد وفَّى بما قال، وزاد في موضع الشدة على أهل الرَّيب والظّلم، والرّفق بأهل الحقِّ من كانوا»[3].
ثالثًا: إن من تأمل كتاب الله يجد فيه حضًّا على الرفق في موضعه، وعلى الشدة في موضعها، فلم تهمل الشريعة جانب الغلظة والشدة في محلها حيث لا ينفع غيرها، كما قال سبحانه:
[e:73]، وقال تعالى: [e:123]، وقال تعالى: [y:46]، فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين الغلظة على الكفار والمنافقين، حينما لا تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين.
والآيات، وإن كانت في معاملة الكفار والمنافقين، فإنها دالة أيضًا على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حينما يرجى نفعه، أما إذا لم ينفع، واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله، ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من إقامة حد، أو تعزير، أو تهديد، أو توبيخ؛ حتى يقف عند حده وينزجر عن باطله، ومن هنا جاءت شدة عمر I.
رابعًا: إذا عابوا على عمر I شدته، فليعيبوا على موسى S شدته على أخيه هارون، لاسيما وقد أمر الله موسى باللين حتى مع فرعون: [p:43 - 44]، ومع ذلك فقد اشتد موسى S في نصرة الحق، حتى بلغ به الحال إلى أن يشتد على هارون S.
قال الله تعالى: [c:150]، وقال تعالى: [p:92-94].
قال الطوسي: «وقوله: يعني: رماها»[4].
وقال الطبرسي: « أي: طرحها لما لحقه من الضجر؛ غضبًا لله وحميةً لدينه، قال تعالى: ، أي: بشعر رأسه لشدة ما ورد عليه من الأمر»[5].
وقال الطباطبائي: «ما فعله موسى بأخيه من أخذ رأسه يجره إليه كأنه مقدمة لضربه؛ حسبانًا منه أنه استقل بالرأي، زاعمًا المصلحة في ذلك وترك أمر موسى، فما وقع منه إنما هو تأديب في أمر إرشادي، لا عقاب في أمر مولوي، وإن كان الحق في ذلك مع هارون؛ ولذلك لما قص عليه القصص عذره في ذلك، ودعا لنفسه ولأخيه بقوله: [c:151]... إلخ»[6].
فمن لم يميز بين الموضع الذي يجب فيه الرفق، والموضع الذي يجب فيه اللين، وقع في الاعتراض على الشرع.
خامسًا: وأما ما ورد من أن عمر بن الخطَّاب I ضرب النساء بالدرة، فلا يصح.
الرواية الأولى: روى عبد الرزاق: «عن ابن المسيّب قال: لَمَّا مات أبو بكرٍ بكي عليه، فقال عمر: إنّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ»، وأبوا إلَّا أن يبكوا، فقال عمر لهشام بن الوليد: قم فأخرج النّساء، فقالت عائشة: إنّي أخرجك، قال عمر: ادخل فقد أذنت لك، فقال: فدخل، فقالت عائشة: أمخرجي أنت أي بنيَّ؟! فقال: أمّا لك فقد أذنت، قال: فجعل يخرجهنّ عليه امرأةً امرأةً، وهو يضربهنّ بالدّرّة حتَّى أخرج أمّ فروة، فرّق بينهنَّ، أو قال: فرَّق بين النَّحويّ»[7].
فهذا الأثر منقطعٌ لا يصح، وذلك لأن سعيد بن المسيب لم يدرك الحادثة، ولم يذكر واسطته في رواية هذا الأثر.
قال الإمام الذهبي في ترجمته: «ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر I، وقيل: لأربعٍ مضين منها بالمدينة»[8].
قال ابن أبي حاتم: «حدَّثنا صالح بن أحمد بن حنبلٍ، نا عليّ بن المدينيّ، قال: قلت ليحيى بن سعيدٍ: سعيد بن المسيّب عن أبي بكرٍ؟ قال: ذاك شبه الرّيح»[9].
وفي «الكفاية» للخطيب البغدادي: «قال الشَّافعي: وإرسال ابن المسيّب عندنا حسنٌ. قال الخطيب: اختلف الفقهاء من أصحاب الشَّافعي في قوله هذا: منهم من قال: أراد الشَّافعي به أنَّ مرسل سعيد بن المسيّب حجّةٌ؛ لأنَّه روى حديثه المرسل في النّهي عن بيع اللّحم بالحيوان، وأتبعه بهذا الكلام، وجعل الحديث أصلًا إذ لم يذكر غيره، فيجعل ترجيحًا له، وإنَّما فعل ذلك؛ لأنّ مراسيل سعيدٍ تتبّعت فوجدت كلّها مسانيد عن الصَّحابة من جهة غيره.
ومنهم من قال: لا فرق بين مرسل سعيد بن المسيّب وبين مرسل غيره من التّابعين، وإنَّما رجّح الشَّافعي به، والتّرجيح بالمرسل صحيحٌ، وإن كان لا يجوز أن يحتجّ به على إثبات الحكم، وهذا هو الصّحيح من القولين عندنا؛ لأنّ في مراسيل سعيدٍ ما لم يوجد مسندًا بحالٍ من وجهٍ يصحّ»[10].
الرواية الثانية: عبد الرزاق: «عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، قال: لَمَّا مات خالد بن الوليد اجتمع في بيت ميمونة نساءٌ يبكين، فجاء عمر، ومعه ابن عبّاسٍ، ومعه الدّرّة، فقال: يا أبا عبد الله، ادخل على أمّ المؤمنين فأمرها فلتحتجب، وأخرجهنّ عليّ، قال: فجعل يخرجهنّ عليه، وهو يضربهنّ بالدّرّة، فسقط خمار امرأةٍ منهنّ، فقالوا: يا أمير المؤمنين، خمارها، فقال: دعوها ولا حرمة لها».. وكان معمرٌ يعجب من قوله: «لا حرمة لها»[11].
وهذا الأثر منقطع أيضًا ولا يصح، والانقطاع فيه بين عمرو بن دينار وعمر I؛ وذلك لأن عمرو بن دينار قد ولد في خلافة معاوية I، أي: بعد موت أمير المؤمنين عمر I بأكثر من عشرين سنة.
قال الإمام الذهبي في ترجمة عمرو بن دينار: «ولد في إمرة معاوية، سنة خمسٍ، أو ستٍّ وأربعين»[12]، وعليه؛ فالرواية لا تصح.
سادسًا: أما عيب الرَّافضة على عمر بن الخطَّاب I أنه كان يضرب بالدرة، فهو جهلٌ منهم بما ورد في كتبهم، فقد ورد أن عليًّا I كان يضرب بها تأديبًا وزجرًا.
ففي «الكافي» بسنده: «عن أبي عبد الله قال: إنّ أمير المؤمنين رأى قاصًّا في المسجد، فضربه بالدّرّة وطرده»[13].
وفي «روضة المتقين»: «وفي القوي عن رزين قال: كنت أتوضأ في ميضاة الكوفة، فإذا رجل قد جاء فوضع نعليه، ووضع درته فوقها، ثمَّ دنا فتوضأ معي، فزحمته، فوقع على يديه فنهض، ولم ينطق حتى توضأ، فلما فرغ ضرب رأسي بالدرة ثلاثًا، ثمَّ قال: إياك أن توقع، فتكسر، فتغرم، ثمَّ خرج، فقلت: من هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين S: فذهبت أعتذر إليه، فمضى ولم يلتفت إلي»[14].
وقال أيضًا: «وفي القوي عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله، قال: إن أمير المؤمنين S أتي برجل عبث بذكره، فضرب يده حتى احمرت، ثمَّ زوجه من بيت المال... ما رواه الشيخ في الموثق كالصحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر، قال: أتي عليٌّ برجل عبث بذكره حتى أنزل، فضرب يده بالدرة حتى احمرَّت»[15].
وفي «الكافي»: «عن أبي صادقٍ، قال: دخل أمير المؤمنين سوق التّمّارين، فإذا امرأةٌ قائمةٌ تبكي وهي تخاصم رجلًا تمّارًا، فقال لها: ما لك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، اشتريت من هذا تمرًا بدرهمٍ، فخرج أسفله رديًّا ليس مثل الّذي رأيت، قال: فقال له: ردّ عليها، فأبى حتَّى قالها ثلاثًا، فأبى، فعلاه بالدّرّة حتَّى ردّ عليها، وكان عليٌّ صلوات الله عليه يكره أن يجلّل التّمر»[16].
ومن هذا يتبين أن أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I كانت درته لخفق رؤوس الضلال، وتأديب المبتدعة، وما ارتكب بها محرمًا ولا مكروهًا، بل تميز بتلك المنقبة، لكنّ أهل الباطل لا يعجبهم من يقيمهم على الحق بالحق.
[1] «سُنن الترمذي»، أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، باب: مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي عبيدة بن الجراح (6/127) برقم (3790)، و«سنن النسائي الكبرى»، كتاب المناقب، باب: أبي بن كعب (7/345) برقم (8185) باب: زيد بن ثابت (7/363) برقم (8229)، قال الشيخ الألباني عن الحديث: «صحيح لغيره» «المشكاة» (6111)، «الصحيحة» (1224)، «التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان» (10/212).
[2] «إحياء علوم الدين» (3/186).
[3] «تاريخ دمشق»، ابن عساكر (44/264).
[4] «التبيان»، الطوسي (4/549).
[5] «تفسير جوامع الجامع»، الطبرسي (1/706).
[6] «تفسير الميزان»، الطباطبائي (8/251).
[7] «المصنف»، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (3/556).
[8] «سير أعلام النبلاء»، الذهبي (4/217).
[9] «المراسيل»، عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ص4).
[10] «الكفاية»، الخطيب البغدادي (1/404-405).
[11] «المصنف»، عبد الرزاق بن همام الصنعاني (3/556).
[12] «سير أعلام النبلاء» (5/300)
[13] «الكافي»، الكليني (7/263)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (23/410) عن الرواية: «حسن»،
[14] «روضة المتقين»، محمد تقي المجلسي (10/223).
[16] «الكافي»، الكليني (5/230، 288-289)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (١٩/٣٨٦) عن الرواية صحيح، و«من لا يحضره الفقيه»، الصدوق (3/27). وقد وردت روايات أخرى في ذلك، انظر: «وسائل الشيعة»، الحر العاملي (23/262- 263)، «الحدائق الناضرة»، البحراني (6/79).