أولًا: هذه القصة رواها ابن قتيبة الدينوري، فقال: «قال المدائني: بينا عمر بن الخطَّاب I على المنبر؛ إذ أحسَّ من نفسه بريح خرجت منه، فقال: أيّها النَّاس، إنّي قد مثلت بين أن أخافكم في الله تعالى، وبين أن أخاف الله فيكم، فكان أن أخاف الله فيكم أحبّ إليّ، ألا وإنّي قد فسوت، وها أنا نازلٌ أعيد الوضوء»[1].
وهذه القصة غير ثابتة لأمرين:
1- لا نعرف لها إسنادًا عن المدائني.
2- الانقطاع بين المدائني وعمر بن الخطَّاب I.
قال الذهبي في ترجمة المدائني: «ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائة»[2].
ومن ثمَّ فالقصة ضعيفةٌ لا يحتج بها.
ثانيًا: على فرض التسليم بها، يكون هذا الأمر قد حصل اضطرارًا من عمر بن الخطَّاب I لا عمدًا، فنزل عن المنبر؛ ليعيد الوضوء، وهذا ما يفهم من قوله: «فكان أن أخاف الله فيكم أحبَّ إليَّ».
وهذا أمر طبيعي يحصل لجميع البشر، فما وجه الشناعة والقبح فيه؟!
ثالثًا: إن أهل الفطر السوية والقلوب السليمة يرون في هذا الموقف فضيلةً لعمر ابن الخطَّاب I ويلمسون فيه هضمه لنفسه، وزجرها عن الكبر.
قال الماوردي: «وربّما أحسَّ ذو الفضل من نفسه ميلًا إلى المراءاة، فبعثه الفضل على هتك ما نازعته النَّفس منَ المراءاة، فكان ذلك أبلغ في فضله، كالّذي حكي عن عمر بن الخطَّاب I أنَّه أحسَّ على المنبر بريحٍ خرجت منه فقال: أيُّها النَّاس، إنّي قد مثلت بين أن أخافكم في الله تعالى، وبين أن أخاف الله فيكم، فكان أن أخاف الله فيكم أحبَّ إليَّ، ألا وإنّي قد فسوت، وها أنا نازلٌ أعيد الوضوء، فكان ذلك منه زجرًا لنفسه لتكفَّ عن نزاعها إلى مثله»[3].
لكنَّ القوم قد انتكست فطرهم، وانقلبت فهومهم؛ حتى أضحى الواحد منهم يرى في كل منقبةٍ مثلبةً!
رابعًا: إن كان فعل عمر بن الخطَّاب I مستقبحًا ومستنكرًا، فماذا يقولون في صنيع زرارة الذي ضرط في لحية الإمام بلا حياء ولا خجل؟!
روى الكَشي بسنده، عن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله عن التشهد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قلت: التحيات الصلوات. قال: التحيات والصلوات، فلما خرجت قلت: إن لقيته لأسألنه غدًا، فسألته من الغد عن التشهد. فقال كمثل ذلك، قلت: التحيات والصلوات. قال: التحيات والصلوات، قلت: ألقاه بعد يوم لأسألنه غدًا، فسألته عن التشهد فقال كمثله، قلت: التحيات والصلوات. قال: التحيات والصلوات، فلما خرجت ضرطت في لحيته، وقلت: لا يفلح أبدًا»[4].
فما حكم زرارة -وهو الثقة الجليل عند القوم- الذي ضرط في لحية الإمام؟! وأيهما أعظم: آلفساء على المنبر، أم الضراط في لحية المعصوم؟!
وحتى يخرج علماء الرَّافضة من هذه الورطة، حاول بعضهم تحريف متن الرواية، ولكنه تحريف سخيف للغاية.
فقد ذكر الرواية التُسْتَري بلفظ: «... فلمَّا خرجت ضرطت فِي لِحْيَتِي، وقلت: لا يفلح أبدًا»[5].
وهذا التحريف من أسخف ما يكون، فكيف يعقل أن الإنسان يضرط في لحية نفسه؟!
خامسًا: أيهما أشنع وأقبح، هذا الأمر الذي وقع من عمر I -على فرض ثبوته- أم سبُّ شخص لامرأة في المسجد بأقبح الأوصاف وأشنع العبارات؟!
روى المفيد بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: كنا وقوفًا على أمير المؤمنين بالكوفة وهو يعطي العطاء في المسجد؛ إذ جاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، أعطيت العطاء جميع الأحياء ما خلا هذا الحي من مراد لم تعطهم شيئًا، فقال: اسكتي يا جريئة، يا بذية، يا سلفع، يا سلقلق، يا من لا تحيض كما تحيض النساء...»[6].
وفي رواية: «يا التي على هنها شيء بيّنٌ مدلى»[7].
فهل يجوز أن تصدر هذه الكلمات القبيحة في المسجد وأمام الناس جميعًا؟!
وأيهما أقبح، انتقاض الوضوء على المنبر -وهو أمر غير اختياري- أم التفحش بالقول في المسجد؟!
[1] «عيون الأخبار»، ابن قتيبة الدينوري (1/267).
[2] «سير أعلام النبلاء»، الذهبي (10/400).
[3] «أدب الدنيا والدين»، الماوردي (ص106).
[4] «رجال الكَشي»، الطوسي (ص159).
[5] «قاموس الرجال»، محمد تقى شوشتري (4/433).
[6] «الاختصاص»، الشيخ المفيد (ص304 -305).
[7] «بحار الأنوار»، المجلسي (41/293).