أولًا: إن هذا الحديث قد عرف بين أهل العلم أنَّ فيه مقالًا، فقد أعلّه بعضهم.
قال الألباني: «عدم التسليم بصحة هذه القصة؛ لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح، كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل»[1] ولم يذكر راويًا عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه -مع سعة حفظه واطلاعه- لم يحك فيه توثيقًا، فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا قول الحافظ: «بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان»؛ لأننا نقول: إنه ليس نصًا في تصحيح جميع السند، بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح، ولقال رأسًا: «عن مالك الدار... وإسناده صحيح»[2].
ثانيًا: إن هذا الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية مجهول لا يعرف، فكيف يعول في هذه القضية العظيمة على روايته، ويؤصل هذا الأصل المتعلق بأهم العبادات على تلك الحادثة التي رواها؟!
لا شك أن الاعتماد على هذه الواقعة ضربٌ من الجنون والهوس. هذا إن سلمنا بها جدلًا، فكيف وهو مخالفٌ بالإجماع المنعقد على مقتضى النصوص الواردة فيما يشرع عند وجود القحط من استغفار الله تعالى، والاستقامة على طريقه، والإيمان والتقوى، وتحكيم الشرع؟!
وقد اعترض على هذه العلة القوية باعتراض، وهو: أن هذا الرجل المذكور صحابي يدعى: بلال بن الحارث المزني، كما صرحت بذلك بعض روايات هذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر: «وقد روى سيف في «الفتوح» أن الذي رأى المنام المذكور هو: بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة»[3].
والجواب: أن هذه الرواية باطلة لا يحل الاستشهاد بها؛ وذلك لأن سيف بن عمر المتفرد بهذه الزيادة ضعيفٌ باتفاقهم، بل قيل: إنه كان يضع الحديث، وقد اتهم بالزندقة[4].
ثالثًا: إن هذه القصة منكرة المتن؛ لمخالفتها ما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء في مثل هذه الأحوال، ولمخالفتها ما اشتهر وتواتر عن الصحابة والتابعين؛ إذ لم يرد عنهم أنهم كانوا يرجعون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأموات عند نزول النوازل واشتداد القحط، يستدفعونها بهم وبدعائهم وشفاعتهم، بل كانوا يرجعون إلى الله تعالى واستغفاره وعبادته، وإلى التوبة النصوح، قال تعالى:( وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا الزُّمَر)، وقال تعالى: ( وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ )هُود وقال تعالى: ( وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ) الأَعۡرَاف.وفي كتاب «المعرفة والتاريخ» ليعقوب ابن سفيان[5] بإسناد صححه الحافظ ابن حجر في «الإصابة»[6] عن سليم ابن عامر الخبائري قال: «إن السماء قحطت، فخرج معاوية وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: «اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد، ارفع يدك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن فارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم».
وأبلغ من هذا صنيع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إذ يكون بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعدل إلى التوسل بالعباس؛ لأنه كان حيًّا قادرًا.
وهذا الأثر، مع ضعفه ونكارته، قد خالف هذه الوقائع الصحيحة الثابتة عن خير القرون بأجمعهم. فلو كان ما تضمنه هذا الأثر صحيحًا لفعلوه ولو مرة؛ بيانًا منهم للجواز، ومن المعلوم أن المضطر يتعلق بأدنى ما يجده لكشف ضره، فلما لم يفعلوا ذلك مع وجود الدافع، تبين بطلان هذا الأثر وسقوطه[7].
قال الشيخ ابن باز: «هذا الأثر -على فرض صحته كما قال الشارح- ليس بحجة على جواز الاستسقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته؛ لأن السائل مجهول، ولأن عمل الصحابة رضي الله عنهم على خلافه، وهم أعلم الناس بالشرع، ولم يأت أحد منهم إلى قبره يسأله السقيا ولا غيرها، بل عدل عمر عنه لما وقع الجدب إلى الاستسقاء بالعباس، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، فعلم أن ذلك هو الحق، وأن ما فعله هذا الرجل منكر ووسيلة إلى الشرك، بل قد جعله بعض أهل العلم من أنواع الشرك»[8].
رابعًا: إنه بتقدير صحة هذه القصة -وقد علم أنها ليست صحيحة- فإن مدارها على رؤيا، والرؤى ليست مصدرًا من مصادر التشريع.
وعلى فرض صحتها؛ فإن قوله: «إنكم مستسقون، فعليك الكفين» إرشاد إلى عمل مشروع، وهو الاستسقاء، أي: اذهبوا فاستسقوا أنتم، فإنه ليس في (الرؤيا) أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء، أو قال: «اللهم اسق أمتي».
خامسًا: إنه قد ورد في كتب الرَّافضة ما ينقض عقيدتهم في التوسل والاستغاثة بالأموات، وبما يدل على أن الوسيلة هي الأعمال الصالحة لا غير.
قال عليٌّ رضي الله عنه: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله عز وجل: الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله فإنَّه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنَّها الفطرة، وإقام الصَّلاة فإنَّها الملَّة، وإيتاء الزَّكاة فإنَّها فريضةٌ واجبةٌ، وصوم شهر رمضان فإنَّه جنّةٌ من العقاب، وحجّ البيت واعتماره فإنَّهما ينفيان الفقر، ويرحضان الذّنب؛ وصلة الرّحم فإنَّها مثراةٌ في المال ومنسأةٌ في الأجل، وصدقة السّرّ فإنَّها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنَّها تدفع ميتة السّوء، وصنائع المعروف فإنَّها تقي مصارع الهوان»[9].
وهذا بينٌ ظاهرٌ من تعريف الوسيلة التي أمر الله بها في كتابه؛ فإن الوسيلة هي الطاعات والأعمال الصالحة التي يفعلها العبد.
قال الطبرسي: «الوسيلة: كل ما يتوسل به إليه من الطاعات وترك المقبحات»[10].
وقال الطباطبائي: «وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، وإذ كانت نوعًا من التوصل وليس إلا توصلًا واتصالًا معنويًّا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية، وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابه تعالى، فهذه هي الوسيلة الرابطة»[11].
[1] «الجرح والتعديل» (4/1-213).
[2] «التوسل أنواعه وأحكامه»، الألباني (ص118).
[3] «فتح الباري» (2/496).
[4] «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» (2/256).
[5] «المعرفة والتاريخ»، يعقوب بن سفيان (2/280).
[6] «الإصابة»، ابن حجر (10/382).
[7] «الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية»، سليمان بن سحمان (ص173).
[8] «فتح الباري» مع تعليقات ابن باز (2/495).
[9] «نهج البلاغة»، الشريف الرضي (ص163).
[10] «تفسير جوامع الجامع»، الطبرسي (1/496).
[11] «الميزان في تفسير القرآن»، الطباطبائي (5/328).