الرواية الأولى: قوله: «والله لو أنَّ لي طلاع الأرض ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله D قبل أن أراه».
والرد من وجوه:
أولًا: إنّ هذه الآثار المذكورة تدل على شدة خوف عمر I من الله تعالى وتعظيمه لربه، وهذا من كمال فضله، وعلو شأنه في الدين؛ ولهذا أثنى الله في كتابه على عباده الخائفين منه، المشفقين من عذابه، في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ﴾[النَّازِعَات:40]
ثانيًا: إنّ هذا الكلام قاله عمر I بعد الطعن مباشرة، ولم يكن حال معاينة الموت، وهو من أعظم مناقبه الدالة على شدة خشيته وخوفه من الله.
ولا يدخل هذا الذي روي عن عمر I فيما حكاه الله D عن الكفار يوم القيامة؛ حيث قال: ﴿ وَلَوۡ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦ مِن سُوٓءِ ٱلۡعَذَابِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مَا لَمۡ يَكُونُواْ يَحۡتَسِبُونَ ٤٧ ﴾ [الزُّمَر: ] فهذه الآية خبرٌ عن حال الكفار يوم القيامة، بعد أن يروا مقامهم من النار، وأما ما ورد عن عمر بن الخطَّاب I فهو من باب الخوف من النار في الدنيا، وهذا من صفات عباد الله المؤمنين.
فالكافر هو الذي لا يخاف الله، ولا لقاءه وعذابه، ولا يأمن مكره، كما قال تعالى: ﴿ كـَلَّاۖ بَل لَّا يَخَافُونَ ٱلۡأٓخِرَةَ ٥٣ ﴾ [المُدَّثِّر: 53] فأين هذا من ذاك؟!
ثالثًا: إنّ كتب الرَّافضة قد ورد فيها ما يدل على أن الأئمة كان يصيبهم مثل هذه الأحوال عند الموت، ولم يقل أحدٌ منهم: إن هذا كان جزعًا منهم، أو شكَّكَ بمثله في مقامهم.
فقد روى الصدوق بسنده عن الحسين بن علي R قال: لما حضرت الحسن بن علي الوفاة بكى، فقيل له: «يا بن رسول الله، أتبكي ومكانك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانك الذي أنت فيه؟! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك ما قال، وقد حججت عشرين حجة ماشيًا، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل وبالنعل. فقال: إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع، وفراق الأحبة»[1].
فهل يقال: إن بكاء الحسن I عند موته دليلٌ على جزعه، وشهادةٌ على نفسه بعدم النجاة وهو أحد الأئمة المعصومين عند الرَّافضة؟
وقد ورد أيضًا في مناجاة السجاد، أنه كان يتمنى لو لم يولد أصلًا.
قال محمد تقي المدرسي: «أولم تسمع مناجاة الإمام السجاد علي بن الحسين S: ليت شعري، أللشّقاء ولدتني أمّي، أم للعناء ربّتني؟ فليتها لم تلدني، ولم تربّني، وليتني علمت أمن أهل السّعادة جعلتني وبقربك وجوارك خصصتني، فتقرّ بذلك عيني وتطمئنّ له نفسي؟»[2].
ومثل هذا الكلام مما لا إشكال فيه عند أهل الفهم السوي، والفطرة المستقيمة.
بل هذه الصديقة مريم، يقول عنها الله تبارك وتعالى: ﴿ فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا ٢٣ ﴾ [مَرۡيَم: 23] ، فهل يتجرأ الرَّافضة على الطعن في مريم P أو في الإمام السجاد، كما صنعوا مع الفاروق عمر I؟!
الرواية الثانية: قوله: «ليتني كنت كبش أهلي يسمّنونني».
والرد من وجوه:
أولًا: إن هذا الأثر رواه هنّاد بن السري، قال: حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك قال: مر أبو بكر بطير واقع على شجرة، فقال: «طوبى لك يا طير؛ تقع على الشجر وتأكل الثمر، ثم تطير وليس عليك حساب ولا عذاب، يا ليتني كنت مثلك؛ والله لوددت أن الله خلقني شجرة إلى جانب الطريق، فمر بي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني، ثم ازدردني، ثم أخرجني بعرًا، ولم أك بشرًا»، قال: وقال عمر: «يا ليتني كنت كبش أهلي، سمنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون، زارهم بعض ما يحبون، فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا، ثم أكلوني، فأخرجوني عذرة، ولم أك بشرًا»، قال: وقال أبو الدرداء: «يا ليتني كنت شجرة تعضد، ولم أك بشرًا»[3].
وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ فجويبر قال عنه النسائي: «جويبر بن سعيد الخراساني: متروك الحديث»[4].
والضحاك لم يسمع من ابن عباس، فضلًا عن الصديق أو الفاروق؛ قال شعبة: قلت لمشاش: الضحاك سمع من ابن عباس؟ قال: «ما رآه قط». وقال عبد الملك بن ميسرة: «الضحاك لم يلق ابن عباس، إنما لقي سعيد بن جبير بالريّ، فأخذ عنه التفسير» ذكرهما الطبري في تفسيره[5].
ثانيًا: على فرض صحتها، يجاب عنها بما سبق في الرواية الأولى، من كونه محمولًا على الخشية والخوف من الله تبارك وتعالى، فيكون هذا دليلًا على المدح
لا على الذم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٢٨ ﴾ [فَاطِر: 28].
ثالثًا: إن هذه الرواية نفسها قد وردت في كتب الرَّافضة عن الصحابة المنتجبين عندهم، ومن ذلك ما رواه ابن طاووس: «لما نزلت هذه الآية: ﴿ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٤٣ لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنۡهُمۡ جُزۡءٞ مَّقۡسُومٌ ٤٤ ﴾ [الحِجۡر: 43-44] بكى النبي صلى الله عليه وسلم بكاءً شديدًا وبكت صحابته لبكائه... فسمع سلمان فقال: يا ليتني كنت كبشًا لأهلي فأكلوا لحمي، ومزقوا جلدي ولم أسمع بذكر النار، وقال أبو ذر: يا ليت أمي كانت عاقرًا ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار، وقال عَمَّار: يا ليتني كنت طائرًا في القفار، لم يكن علي حساب ولا عقاب، ولم أسمع بذكر النار، وقال علي S: يا ليت السباع مزقت لحمي، وليت أمي لم تلدني، ولم أسمع بذكر النار»[6].
فهل يقال: إن أبا ذر وسلمان L -وهما من الصحابة المنتجبين عند الرَّافضة- قد جزعا، وشكَّا في كونهما من أهل الجنة؟ ناهيك عن أنها كانت أمنية علي وعَمَّار L.
فجميع ما تقدم يدل على أن عمر I لم يقل هذا الكلام قنوطًا أو يأسًا من رحمة الله، وإنما قاله ورعًا وخشيةً منه D وإلا فعمر يعلم أنه مبشّرٌ بالجنة، فكيف يقنط من رحمة الله تعالى؟!
[1] «عيون أخبار الرضا» (2/271).
[2] «من هدي القرآن» (12/192).
[4] «الكامل في ضعفاء الرجال» (2/340).
[5] «تفسير الطبري» (1/86).
[6] «الدروع الواقية» (ص285: 286)، «بحار الأنوار» (٤٣/٨٨، ٨/٢٠٢).