زعمهم قول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه عن القرآن: «ذهب منه كثير»

الشبهة: روى عبد الرزاق في «مصنفه» من طريق معمرٍ، عن ابن جدعان، عن يوسف بن مهران، أنَّه سمع ابن عبّاسٍ يقول: أمر عمر بن الخطَّاب مناديًا فنادى أنَّ الصَّلاة جامعةٌ، ثمَّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: «يا أيّها النَّاس، لا تخدعنّ عن آية الرّجم، فإنَّها قد نزلت في كتاب الله عز وجل وقرأناها، ولكنّها ذهبت في قرآنٍ كثيرٍ ذهب مع محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وآية ذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم قد رجم، وأنّ أبا بكرٍ قد رجم، ورجمت بعدهما، وإنّه سيجيئ قومٌ من هذه الأمَّة يكذّبون بالرّجم، ويكذّبون بطلوع الشّمس من مغربها، ويكذّبون بالشّفاعة، ويكذّبون بالحوض، ويكذّبون بالدّجّال، ويكذّبون بعذاب القبر، ويكذّبون بقومٍ يخرجون من النَّار بعدما أدخلوها» .

الرد علي الشبهة:

أولًا: إن هذه الرواية ضعيفة، ولا تقوم بها حجة؛ لأن في سندها راويًا ضعيفًا، وهو عليّ بن زيد بن جدعان.

وقد جمع الحافظ الذهبي أقوال المحدثين فيه، فقال: «قال أبو زرعة، وأبو حاتمٍ: ليس بقويٍّ، وقال البخاريّ وغيره: لا يحتجّ به.

وقال ابن خزيمة: لا أحتجُّ به؛ لسوء حفظه. وقال التّرمذيّ: صدوقٌ، وكان ابن عيينة يليّنه. وقال شعبة: حدَّثنا عليّ بن زيدٍ - وكان رفّاعًا- وقال مرّةً: حدَّثنا قبل أن يختلط. وقال حمّاد بن زيدٍ: أنبأنا عليّ بن زيدٍ وكان يقلب الأحاديث. وقال الفلاّس: كان يحيى بن سعيدٍ يتّقيه.

وقال أحمد بن حنبلٍ: ضعيفٌ. وروى عبّاسٌ، عن يحيى: ليس بشيءٍ. ومرّةً قال: هو أحبّ إليّ من ابن عقيلٍ، وعاصم بن عبيد الله. وروى عثمان الدّارميّ، عن يحيى: ليس بذاك القويّ. وقال العجليّ: كان يتشيّع، ليس بالقويّ. وقال الفسويّ: اختلط في كبره. وقال الدّارقطنيّ: لا يزال عندي فيه لينٌ.

قلت: قد استوفيت أخباره في (الميزان) وغيره، وله عجائب ومناكير»[1].

وقال الألباني عن الحديث: «إسناده ضعيف؛ من أجل عليّ بن زيد، وهو ابن جدعان، سيء الحفظ»[2].

ثانيًا: لو فرضنا صحة هذه الرواية، فإنها مما يندرج في باب نسخ التلاوة، بقرينة ورود العبارة بعد الكلام عن آية الرجم، ومن المعلوم أنها من منسوخ التلاوة، كما سبق بيانه.

ولا شك أن ثمَّ كثيرًا من الآيات التي نسخت تلاوتها.

يقول الطوسي: «وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها»[3].

ثالثًا: لم يترك النبي H بعد وفاته إلا ما بين الدفتين.

فقد روى البخاري في «صحيحه» عن عبد العزيز بن رفيعٍ قال: «دخلت أنا وشدّاد بن معقلٍ على ابن عبّاسٍ L فقال له شدّاد بن معقلٍ: أترك النَّبي H من شيءٍ؟ قال: ما ترك إلَّا ما بين الدّفّتين. قال: ودخلنا على محمّد ابن الحنفيّة فسألناه، فقال: ما ترك إلَّا ما بين الدّفّتين»[4].

قال الحافظ ابن حجر: «وهذه التّرجمة للرّدّ على من زعم أنَّ كثيرًا من القرآن ذهب لذهاب حملته»[5].

رابعًا: إنه لو ذهب شيء من القرآن الكريم لما سكت الصحابة أبدًا، مع ما هو معلومٌ من أنهم كانوا حريصين أشد الحرص على دين الله D.

وهل يتخيل أن قومًا بلغ بهم الحرص والدقة إلى أنهم كانوا يعدّون الشعرات البيضاء في لحية رسول الله H يسكتون على ضياع شيء من القرآن الكريم؟!

كما يلزم من ذلك الطعن في عليّ بن أبي طالب I الذي أقر هذا التحريف والنقص في كتاب الله D.

يقول جعفر السبحاني: «وهناك نكتة أخرى جديرة بالإشارة، وهي أنَّ تطرّق التحريف إلى المصحف الشريف يعدّ من أفظع الجرائم التي لا يصحّ السكوت عنها، فكيف سكت الإمام أمير المؤمنين S وخاصّته، نظير: سلمان، والمقداد، وأبي ذر وغيرهم، مع أنّا نرى أنَّ الإمام وريحانة الرسول H قد اعترضا على غصب فدك، مع أنَّه لا يبلغ عشر ما للقرآن من العظمة والأهمية؟!... فلو كان هناك تحريف كان ردّ الآيات المزعوم حذفها من القرآن إلى محالّها أوجب وألزم.
نرى أنَّ عليًا
S بعدما تقلّد الخلافة الظاهرية اعترض على إقامة صلاة التراويح جماعة، كما اعترض على قراءة البسملة سرًّا في الصلوات الجهرية إلى غير ذلك من البدع المحدثة، فعارضها الإمام، وشدّد النكير عليها بحماس، فلو صدر أيّام الخلفاء شيء من هذا القبيل حول القرآن، لقام الإمام بمواجهته، وردّ ما حذف بلا واهمة»[6].

خامسًا: إن من يقول بوقوع نقص كثير في كتاب الله تعالى، هي كتب الرَّافضة ومروياتهم، وما أكثرها في هذا الباب!

فمن ذلك: ما رواه الكليني بسنده، عن أبي عبد الله S قال: «إن القرآن الذي جاء به جبرئيل S إلى محمد H سبعة عشر ألف آية»[7].

يقول المجلسي عن الحديث: «موثق. وفي بعض النسخ عن هشام بن سالم موضع هارون بن مسلم، فالخبر صحيح، ولا يخفى أن هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريح في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسًا، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة، فكيف يثبتونها بالخبر؟»[8].

وهذا يفيد أنه قد ضاع وذهب قريبٌ من ثلثي القرآن، بحسب هذه الرواية.

ويقول المازندراني: « كان الزائد على ذلك مما في هذا الحديث سقط بالتحريف، وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى، كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها»[9].

وقال نعمة الله الجزائري: «وليس هو أول قارورة كسرت في الإسلام، كيف لا؟ وقد سئل S عن الربط بين الجزاء والشرط في قوله تعالى: ﴿ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ ٣﴾ [النِّسَاء: ٣] ؛ إذ الربط منتف ظاهرًا، فقال S: قد سقط بينهما أكثر من ثلث القرآن، وأخبارنا متواترة بوقوع التحريف والسقط منه بحيث لا يسعنا إنكاره»[10].

فها هم الشيعة يقرون بتحريف القرآن، ويعتبرون الأخبار الواردة في ذلك من النصوص المتواترة، فما هم ونحن إلا كما قال القائل: «رمتني بدائها وانسلت».

ونحن وأمير المؤمنين عمر I وجميع أهل السُّنَّة نؤمن أنه لم يعتر كتاب ربنا -أبدًا- سقطٌ أو تحريف أو تبديل، بل هو محفوظ بحفظ الله له، نؤمن بذلك كله.

 

[1]   «سير أعلام النبلاء» (5/207).

[2]   «ظلال الجنة في تخريج أحاديث السُّنَّة» (ص151).

[3]   «تفسير التبيان» (1/394).

[4]   «صحيح البخاري» كتاب فضائل القرآن، باب: من قال: لم يترك النبي H إلا ما بين الدفتين (4/1917) برقم (4731).

[5]   «فتح الباري» (11/251).

[6]   «المناهج التفسيريّة في علوم القرآن» (ص199).

[7]   «الكافي» (2/634).

[8]   «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» (12/525).

[9]   «شرح الكافي» (11/76).

[10]  «نور الأنوار في شرح الصحيفة السجادية» (ص63).