أولًا: إن عمر I لم ير إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ لعدم الحاجة لتأليفهم نظرًا لانتشار الإسلام وقوته، قال ابن تيمية: «وما شرعه النَّبي H شرعًا معلَّقًا بسبب إنَّما يكون مشروعًا عند وجود السّبب: كإعطاء المؤلَّفة قلوبهم؛ فإنَّه ثابتٌ بالكتاب والسّنّة. وبعض النَّاس ظنّ أنَّ هذا نسخ لما روي عن عمر: أنَّه ذكر أنَّ الله أغنى عن التَّألُّف، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وهذا الظّنّ غلطٌ؛ ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلَّفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه؛ لا لنسخه كما لو فرض أنَّه عدم في بعض الأوقات ابن السَّبيل والغارم ونحو ذلك»[1].
ثانيًا: هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء من قديم، فقد رأى بعضهم سقوط سهم المؤلفة قلوبهم زمن قوة الإسلام؛ لعدم الحاجة إلى تأليفهم، وإن احتاجوا إلى ذلك أعطوا من الزكاة.
قال القرطبي: «واختلف العلماء في بقائهم - يعني المؤلفة قلوبهم- فقال عمر والحسن والشعبي وغيرهم: انقطع هذا الصنف بعز الإسلام وظهوره، وهذا مشهور عن مذهب مالك وأصحاب الرأي.
قال بعض علماء الحنفية: لما أعز الله الإسلام وأهله، وقطع دابر الكافرين، اجتمعت الصحابة M في خلافة أبي بكر I على سقوط سهمهم.
وقال جماعة من العلماء: هم باقون؛ لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين.
قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخًا في ذلك، قال
أبو جعفر النحاس: فعلى هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه، ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد دفع إليه.
قال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة، وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما كان رسول الله H يعطيهم، فإن في (الصحيح): «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»[2].
ثالثًا: منع عمر I سهم المؤلفة قلوبهم في خلافة أبي بكر I واستمر على ذلك في خلافته هو، فكيف يقال: إنه خالف بذلك حكمًا ثبت بالقرآن، وتأكد بعمل الرسول؟! وكيف وافقه أبو بكر والصحابة M؟!
قال ابن الهمام: «فلم ينكر أحدٌ منَ الصَّحابة مع ما يتبادر منه من كونه سببًا لإثارة الثّائرة، أوِ ارتداد بعض المسلمين، فلولا اتِّفاق عقائدهم على حقيقته وأنّ مفسدة مخالفته أكثر منَ المفسدة المتوقّعة، لبادروا لإنكاره»[3].
ثم يتابع كلامه موضحًا أن الغاية من هذا التشريع إعزاز المسلمين، وأن إعطاء الأموال للمؤلفة في عهد رسول الله H كان وسيلة لهذه الغاية، وبعد وفاة رسول الله H وكثرة المسلمين، أصبح عدم إعطائهم هو الذي يؤدي إلى إعزاز المسلمين؛ لأن إعطاءهم في حالة الكثرة والمنفعة إذلالٌ للمسلمين، وإظهارٌ لهم بمظهر الضعف والقلة؛ لاختلاف ظروف المسلمين، فقال: «على أنَّ الآية الَّتي ذكرها عمر I تصلح لذلك، وهي قوله تعالى: ﴿ وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ ﴾ [الكَهۡف: 29]، والمراد بالعلّة في قولنا حكمٌ مغيّا بانتهاء علَّته العلَّة الغائيّة، وهذا لأنّ الدّفع للمؤلَّفة هو العلَّة للإعزاز؛ إذ يفعل الدّفع ليحصل الإعزاز فإنَّما انتهى ترتُّب الحكم الّذي هو الإعزاز على الدّفع الّذي هو العلّة.
وعلى هذا قيل: عدم الدّفع الآن للمؤلفة تقريرًا لما كان في زمنه H لا نسخًا؛ لأنَّ الواجب كان الإعزاز، وكان بالدّفع والآن هو في عدم الدّفع»[4].
فعمر I والصحابة من بعده لم يدعوا نسخ الآية، ولم يعارضوها، ولم يبطلوا العمل بها؛ لأن هناك فرقًا كبيرًا بين نسخ النص وبين تعليق العمل به، حتى يوجد من يتناوله النص.
رابعًا: إن الرَّافضة الذين يعيبون على عمر I إيقاف سهم المؤلفة بالتقرير الذي سبق بيانه، هم أنفسهم يقررون أن أئمتهم مشرعون.
يقول السيستاني: «هناك بعض الروايات التي تدل على أنه كل ما فوض للنبي H قد فوض للأئمة Q، ما عدا النبوة، من جملة ما فوض له H حق التشريع الدائم، إذًا فحق التشريع الدائم ثابت للأئمة Q، وقد سبقت الإشارة لهذه الفكرة في بعض الروايات السابقة.
ولكن توجد روايات أُخرى مقابلة لهذه الروايات، تدل على أن كل ما يفتي به الأئمة Q إنما هو على وفق الكتاب والسُّنَّة، فليس هنا رأي وفتوى فيما وراء الكتاب والسُّنَّة، بل بعضها ذكر فيها أن علمهم أصول علم ورثها كابر عن كابر، إلا أنها معارضة بطائفة كبيرة من الروايات، التي يظهر منها أن هناك بعض الأحكام التي لا توجد في الكتاب والسُّنَّة، وأن الأئمة كانوا موفقين في أقوالهم وآرائهم فيها»[5].
بل ويجوز للأئمة -عندهم- أن ينسخوا أحكام الشريعة، التي جاءت في الكتاب والسُّنَّة.
قال السيستاني: «النسخ: وتحدثنا فيه عن إمكان صدور النسخ من قبل أهل البيت للآية القرآنية والحديث النبوي والحديث المعصومي السابق، وأقسام النسخ من النسخ التبليغي الذي يعني: كون الناسخ مودعًا عندهم من قبل الرسول لكنهم يقومون بتبليغه في وقته، والنسخ التشريعي، وهو عبارة عن صدور النسخ منهم ابتداءً، وهذا يبتني على ثبوت حق التشريع لهم كما كان ثابتًا للرسول، وقد طرحنا هذا الموضوع أيضًا ضمن بحث النسخ»[6].
فيجوز للإمام أن ينسخ القرآن والسُّنَّة، لا نسخًا تبليغيًّا عن رسول الله H ، بل نسخًا تشريعيًّا صادرًا عنهم بالأصالة؛ بناء على ثبوت حق التشريع لهم، فكيف لمن يعتقد بهذا أن ينكر على الفاروق عمر I وسائر الصحابة إيقافهم لسهم المؤلفة مراعاةً لمصلحة اقتضت ذلك؟!
خامسًا: إنه قد ورد في كتب الرَّافضة أن المهدي سيحول قبلة الصلاة إلى كربلاء، وينسخ الأمر القرآني: ﴿ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ ﴾ [البَقَرَةِ: 150].
روى المجلسي بسنده، عن المفضل بن عمر قال: قال الصادق: «كأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة، وحوله أصحابه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلًا عدة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكام الله في أرضه على خلقه، حتى يستخرج من قبائه كتابًا مختومًا بخاتم من ذهب عهد معهود من رسول الله فيجفلون عنه إجفال الغنم، فلا يبقى منهم إلا الوزير وأحد عشر نقيبًا كما بقوا مع موسى بن عمران، فيجولون في الأرض فلا يجدون عنه مذهبًا، فيرجعون إليه، والله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به»[7].
يعلق السبزواري على هذه العبارة فيقول: «والله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به، قائلًا عن بعض الوعاظ المطلعين إن هذا الكلام هو قوله: اجعلوا كربلاء قبلة وصلوا إليها»[8].
ويقول أيضًا: «سمعت من بعض المشايخ أن كربلاء تجعل قبلة في زمان خروج المهدي»[9].
فكيف جاز للمهدي أن يعطل هذا الحكم الشرعي الذي ثبت في القرآن بنص واضح قاطع، وتتابع عليه عمل المسلمين منذ زمان الرسول H ؟! أتشريع بعد رسول الله؟!
[1] «مجموع الفتاوى»، ابن تيمية (33/94).
[2] «تفسير القرطبي» (8/181).
[3] «فتح القدير» الكمال بن الهمام (2/260).
[5] «اختلاف الحديث من محاضرات علي السيستاني»، هاشم الهاشمي (ص20-21).
[6] «الرافد في علم الأصول محاضرات علي السيستاني»، منير عدنان القطيفي (ص26).
[7] «بحار الأنوار»، المجلسي (52/326).
[8] التعليق على «بحار الأنوار»، السبزواري (1/414).