أولًا: الروايات التي يستدل بها الرافضة في كتب السُّنَّة:
الرواية الأولى: ما رواه الخطيب البغدادي قال: أخبرنا الحسن بن أبي بكرٍ، أخبرنا أبو سهلٍ أحمد بن محمّد بن عبد الله بن زيادٍ القطّان، حدَّثنا عبد الله بن روحٍ المدائنيّ، حدَّثنا شبابة، حدَّثنا أبو زبرٍ، حدَّثنا القاسم بن محمّدٍ، أنَّ عمر بن الخطَّاب بلغه أنَّه قد ظهر في أيدي النَّاس كتبٌ، فاستنكرها وكرهها، وقال: «أيّها النَّاس، إنّه قد بلغني أنَّه قد ظهرت في أيديكم كتبٌ؛ فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقينّ أحدٌ عنده كتابٌ إلَّا أتاني به، فأرى فيه رأيي»، قال: فظنّوا أنَّه يريد أن ينظر فيها ويقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلافٌ؛ فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنَّار، ثمَّ قال: «أمنيةٌ كأمنية أهل الكتاب»[1].
ومثله ما رواه ابن سعد: «أخبرنا زيد بن يحيى بن عبيدٍ الدّمشقيّ قال: أخبرنا عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم يملي عليّ أحاديث، فقال: إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطَّاب فأنشد النَّاس أن يأتوه بها، فلمَّا أتوه بها، أمر بتحريقها، ثمَّ قال: مثناةٌ كمثناة أهل الكتاب. قال: فمنعني القاسم يومئذٍ أن أكتب حديثًا»[2].
والرد من وجوه:
أولًا: ليس في رواية الخطيب ما يدل على أن هذه الكتب كانت تجمع السُّنَّة النبوية، وليس فيها ما يدل على أن عمر I كان يقصد محو السُّنَّة.
ثانيًا: كلتا الروايتين ضعيفة بسبب الانقطاع بين القاسم بن محمد وعمر بن الخطَّاب I؛ فالقاسم بن محمد ولد في خلافة علي بن أبي طالب I[3]، وأما عمر بن الخطَّاب I فقد لقي ربه شهيدًا في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين[4].
فالسند منقطع بينهما، وأول شروط صحة الحديث اتصال السند، ولذلك حكم المعلمي اليماني على الحديث بالضعف، فقال: «وهذا منقطع أيضًا، إنما ولد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة»[5].
ثالثًا: وعلى فرض التسليم بالرواية، فقد أراد عمر بن الخطَّاب I أن يكون الاهتمام الأكبر بالقرآن الكريم، فأراد أن ينبههم إلى عدم الاشتغال عن القرآن بشيء آخر، وليس معنى الخبر أن عمر I أحرق الكتب؛ لأنه لا يريد أن تكتب السُّنَّة مطلقًا، وإنما أراد صرف الهمم إلى كتاب الله أولًا.
رابعًا: إذا كانت هذه الرواية تدل على أن العمل بالسُّنَّة غير مطلوب، فلماذا كان القاسم بن محمد نفسه يسمع الأحاديث من الصحابة ويعلمها تلاميذه؟!
قال أبو الزناد: «ما رأيت أحدًا أعلم بالسّنّة من القاسم بن محمّدٍ، وما كان الرّجل يعدّ رجلًا حتَّى يعرف السُّنَّة»[6].
وقال ابن المدينيّ: «له مائتا حديثٍ»[7].
بل بلغ من عنايته بالسّنة أنه كان لا يروي بالمعنى، بل يحرص على ألفاظ الحديث، قال ابن عونٍ: «كان محمّدٌ يأتي بالحديث على حروفه»[8].
الرواية الثانية: ما رواه عبد الرزاق الصنعاني، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، أن عمر بن الخطَّاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار أصحاب رسول الله H في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهرًا، ثم أصبح يومًا، وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا، فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدًا»[9].
والرد على هذه الرواية من وجوه:
أولًا: الرواية ضعيفة بسبب الانقطاع، فرواية عروة بن الزبير عن عمر بن الخطَّاب I مرسلة، قال أبو حاتم وأبو زرعة: حديثه عن أبي بكر الصديق وعمر وعلي M مرسل[10]؛ لذلك حكم أبو القاسم الحنائي على الرواية بالضعف قائلا: «وهو مرسلٌ؛ لأنّ عروة لم يلحق عمر بن الخطَّاب»[11].
وحكم عليها بالضعف المعلمي اليماني، فقال: «وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبيّ H نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما همّ بها عمر، وأشار بها عليه الصحابة، فأما عدوله عنها فلسبب آخر كما رأيت. لكن الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر»[12].
ثانيًا: عروة بن الزبير لم يترك رواية الحديث والعمل به، قال عنه ابن سعد: «كان فقيهًا عالِمًا كثيرَ الحديثِ ثبتًا مأمونًا»[13].
الرواية الثالثة: عن قرظة بن كعب قال: «خرجنا فشيعنا عمر إلى صرار، ثم دعا بماء فتوضأ، ثم قال: أتدرون لم خرجت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا تكرمًا بذلك، قال: إن مع ذلك لحاجة خرجت لها؛ إنكم تأتون بلدة لأهلها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله H وأنا شريككم»، قال قرظة: «فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله H »[14].
وهذه الرواية ليس فيها ما يدل على أن عمر I كان ينهى عن التحديث مطلقًا، أو ينهى عن تدوين وكتابة السُّنَّة، كل ما فيها أنه كان يرى الإقلال من التحديث، وهذا مذهبٌ له ولبعض الصحابة، قال الذهبي: «هكذا هو كان عمر I يقول: أقلّوا الحديث عن رسول الله H ، وزجر غير واحدٍ من الصَّحابة عن بثّ الحديث، وهذا مذهبٌ لعمر ولغيره»[15].
ويشهد لهذا المعنى لفظ آخر لهذه الرواية: «أن عمر I قال لهم: أقلّوا الرواية عن رسول الله H وأنا شريككم»[16].
وعمر I يحمد على ذلك؛ لأنه كان يخاف من الخطأ في الحديث أو الكذب على النبي H ؛ لذا كان يأمر بالإقلال من الرواية والتثبت فيها.
لذا قال الذهبي بعدما روى مذهب عمر I في الرواية: «فبالله عليك إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه مع صدقهم، وعدالتهم، وعدم الأسانيد، بل هو غضٌّ لم يشب، فما ظنّك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا، مع طول الأسانيد، وكثرة الوهم والغلط، فبالحريّ أن نزجر القوم عنه، فيا ليتهم يقتصرون على رواية الغريب والضعيف، بل يروون -والله- الموضوعات، والأباطيل، والمستحيل في الأصول والفروع والملاحم والزّهد -نسأل الله العافية-.
فمن روى ذلك مع علمه ببطلانه، وغرّ المؤمنين، فهذا ظالمٌ لنفسه، جانٍ على السّنن والآثار، يستتاب من ذلك، فإن أناب وأقصر، وإلاّ فهو فاسقٌ، كفى به إثمًا أن يحدّث بكلّ ما سمع، وإن هو لم يعلم فليتورّع، وليستعن بمن يعينه على تنقية مرويّاته، نسأل الله العافية؛ فلقد عمّ البلاء، وشملت الغفلة، ودخل الدّاخل على المحدّثين الَّذين يركن إليهم المسلمون، فلا عتبى على الفقهاء، وأهل الكلام»[17].
فالحث على الإقلال والنهي عن الإكثار أمر، والنهي عن مطلق التحديث أمر آخر.
الرواية الرابعة: ما أخرجه ابن عساكر قال: «أخبرنا أبو بكر وجيه بن طاهر، أنا أبو حامد أحمد بن الحسن، أنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، أنا أبو حامد ابن الشرقي، نا محمد بن يحيى الذهلي، نا محمد بن عيسى، أنا يزيد بن يوسف، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله H حتى قبض عمر، قال أبو سلمة: فسألته بم؟ قال: كنا نخاف السياط، وأوما بيده إلى ظهره»[18].
وقد أورد هذا الأثر الحافظ الذهبي في «سير أعلام النبلاء»، وحكم عليه بالضعف الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه للسير فقال: «إسناده ضعيف؛ لضعف يزيد بن يوسف، وهو الرحبي الصنعاني، وشيخه فيه -وهو صالح بن أبي الأخضر- ضعيف أيضًا»[19].
الرواية الخامسة: ما أخرجه ابن عساكر أيضًا قال: أخبرنا أبو عبد الله بن البنا قراءة، عن أبي تمام علي بن محمد، أنا أحمد بن عبيد، نا محمد بن الحسين، نا ابن أبي خيثمة، نا الوليد بن شجاع، قال: حدثني ابن وهب، حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان أنَّ أبا هريرة كان يقول: «إنِّي لأحدِّث أحاديث، لو تكلّمت بها في زمن عمر، لشجَّ رأسي»[20].
وهذا الأثر ضعيف بسبب الانقطاع بين محمد بن عجلان وأبي هريرة I، قال المعلمي اليماني: «ومن قوله في ذلك: «إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشجّ رأسي». أقول: يروى هذا عن يحيى ابن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة؛ فالخبر منقطع غير صحيح»[21].
وبيان ذلك أن أبا هريرة I توفي سنة ستين أو قبلها بقليل، قال الذهبي: «قال عمير بن هانئ العنسيّ: قال أبو هريرة: اللهم لا تدركني سنة ستين. فتوفي فيها، أو قبلها بقليل»[22].
وأما محمد بن عجلان فإنه ولد في خلافة عبد الملك بن مروان، قال الذهبي: «محمد بن عجلان القرشي المدني...ولد في خلافة عبد الملك بن مروان»[23].
وعليه فالأثر منقطع غير صحيح.
ثانيًا: اعترف أحد علماء الشيعة ببطلان هذا الزعم من الشيعة، وقال بأن الشواهد لا تحصى على أن عمر كان يروي الأحاديث ويهتم بسنة النبي H .
يقول حيدر حب الله: «وتوصّلت إلى أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لم يكن مؤمنًا بإسقاط حجيّة سنّة النبي بالمطلق، حتى نقول بأنّه دعا لعدم العمل بسنّة النبي، كيف والشواهد لا تعدّ ولا تحصى على روايته الحديث، وعلى أخذه الحديث من الصحابة ضمن شروط؟! فهذه المقولة التي تُنسب إليه جاءت في سياق خاصّ، ومنعه التدوين جاء في سياق موضوعات محدّدة، لا أنّه كان ينكر حجية سنّة النبي ويكتفي في كلّ شيء بالقرآن الكريم. أليس الإمام عليّ في عشرات الموارد -كما تروي الإماميّة وأهل السنّة معًا- كان يذكر لعمر بن الخطاب دليلًا على مسألة من غير القرآن الكريم، فكان يقتنع بها ابن الخطاب، وبأنّ الرسول قالها، ويقضي على وفقها؟! لو كان هذا الشخص لا يؤمن بحجيّة سنّة النبي فما معنى هذه النصوص؟!»[24].
ثالثًا: ورد في كتب الرَّافضة أن زرارة بن أعين أراد أن يحرق الأحاديث لمجرد أنه لم يفهمها، فقد روى الصفار بإسناده عن الحسن بن موسى عن زرارة قال: دخلت على أبي جعفرٍ S فسألني ما عندك من أحاديث الشِّيعة؟ قلت: إنّ عندي منها شيئًا كثيرًا، قد هممت أن أوقد لها نارًا ثمَّ أحرقها، قال: ولم؟! هات ما أنكرت منها، فخطر على بالي الأمور، فقال لي: ما كان على الملائكة؛ حيث قالت: ﴿ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠ ﴾ [البَقَرَةِ: ﵐﵓ][25].
وقال المجلسي معلقًا على هذه الرواية: «لعل زرارة كان ينكر أحاديث من فضائلهم لا يحتملها عقله، فنبهه بذكر قصة الملائكة، وإنكارهم فضل آدم عليهم، وعدم بلوغهم إلى معرفة فضله على أن نفي هذه الأمور من قلة المعرفة، ولا ينبغي أن يكذب المرء بما لم يحط به علمه، بل لا بد أن يكون في مقام التسليم، فمع قصور الملائكة، مع علو شأنهم، عن معرفة آدم لا يبعد عجزك عن معرفة الأئمة»[26].
® فهل يطعن الرَّافضة في زرارة بن أعين الذي أراد أن يحرق أحاديث أهل البيت ويضرم النار فيها، وبحسب تعبيره: «إن عندي منها شيئًا كثيرًا»، بحجة أنه لم يفهمها؟!
[2] «الطبقات الكبرى»، بيروت، دار الكتب العلمية (5/143).
[3] «سير أعلام النبلاء» (5/54).
[4] «تاريخ الإسلام» (2/138).
[5] «الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السُّنَّة من الزلل والتضليل والمجازفة»، عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني (ص51).
[6] «سير أعلام النبلاء» (5/56).
[10] «جامع التحصيل» للعلائي (1/236).
[11] «فوائد الحنائي أو الحنائيات» (1/579).
[12] «الأنوار الكاشفة» (ص50).
[13] «الكاشف»، الذهبي (2/18).
[14] «جامع بيان العلم وفضله»، ابن عبد البر (2/998).
[15] «سير أعلام النبلاء» (2/601).
[16] «جامع بيان العلم وفضله»، ابن عبد البر (2/999).
[17] «سير أعلام النبلاء» (2/601- 602)
[18] «تاريخ دمشق» (67/344).
[19] «سير أعلام النبلاء» (2/603).
[20] «تاريخ دمشق» (67/343).
[21] «الأنوار الكاشفة» (ص155).
[22] «سير أعلام النبلاء» (2/626).
[24] «إضاءات في الفكر والدين والاجتماع»، حيدر حب الله (1/174).
[25] «بصائر الدرجات» (ص236).
[26] «بحار الأنوار» (25/283).