أولًا: اختلف أهل العلم في هذه القصة على قولين:
القول الأوّل: أن عمر I لم يقطع الشَّجرة؛ لأنَّه لا يعلم مكانها أحدٌ إلَّا الله. ودليلهم:
ما رواه البخاري عن طارق بن عبد الرَّحمن قال: «انطلقت حاجًّا، فمررت بقومٍ يصلّون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشَّجرة حيث بايع رسول الله H بيعة الرّضوان! فأتيت سعيد بن المسيّب فأخبرته، فقال سعيدٌ: حدَّثني أبي أنَّه كان فيمن بايع رسول الله H تحت الشَّجرة، قال: فلمَّا خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها، فقال سعيدٌ: إنّ أصحاب محمّدٍ H لم يعلموها وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم»![1].
ما رواه البخاري أيضًا عن ابن عمر L قال: «رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منَّا اثنان على الشَّجرة الَّتي بايعنا تحتها! كانت رحمةً مِنَ الله»[2].
قال الحاكم: «ثمَّ إنَّ الشجرة فقدت بعد ذلك فلم يجدوها، وقالوا: إنَّ السِّيول ذهبت بها، فقال سعيد بن المسيب: سمعت أبي -وكان من أصحاب الشَّجرة- يقول: قد طلبناها غير مرّة فلم نجدها»[3].
وقال الإمام الطَّبري: «وزعموا أنَّ عمر بن الخطَّاب I مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: هاهنا، فلمَّا كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلّف. فذهبت الشَّجرة، وكانت سمرة إمّا ذهب بها سيل، وإمّا شيء سوى ذلك»[4].
قالوا: أمّا أثر عمر I في قطع الشَّجرة، فقد أخرجه ابن سعد في «الطّبقات» عن نافع قال: «كان النَّاس يأتون الشَّجرة الَّتي يقال لها شجرة الرضوان فيصلّون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب I، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت»[5].
ورواه ابن أبي شيبة أيضًا، قال: حدَّثنا معاذ بن معاذ قال: أنا ابن عون، عن نافع قال: «بلغ عمر بن الخطَّاب I أنَّ أناسا يأتون الشَّجرة الَّتي بويع تحتها، قال: فأمر بها فقطعت».[6]
وهذان الأثران صحيحان إلى نافع، أمّا إلى عمر فلا، فإنَّهما من قبيل المرسل؛ لأنَّ نافعًا لم يدرك عمر بن الخطَّاب I، وقد ضعّف هذا الأثر الشيخ الألباني I[7].
القول الثّاني: أنَّ مكانها معلوم لبعضهم، وأنّ عمر I قطع الشَّجرة.
ومعتمد هؤلاء ما يلي:
ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله L قال: قال لنا رسول الله H يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض»، وكنَّا ألفًا وأربعمائةٍ، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشَّجرة[8].
قال الحافظ ابن حجر: «إنكار سعيد بن المسيّب على من زعم أنَّه عرفها معتمدًا على قول أبيه: إنَّهم لم يعرفوها في العام المقبل، لا يدلّ على رفع معرفتها أصلًا، فقد وقع عند المصنّف من حديث جابر الذي قبل هذا: «لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة»؛ فهذا يدل على أنَّه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزمان الطويل يضبط موضعها، ففيه دلالة على أنه كان يعرفها بعينها؛ لأنّ الظاهر أنها حين مقالته تلك كانت هلكت إما بجفاف أو بغيره، واستمر هو يعرف موضعها بعينه»[9].
أمَّا أثر نافع فهو حقًّا مرسل، لكنَّه يتقوَّى بغيره، ومن ذلك ما أخرجه الفاكهي قال: «حدَّثنا أحمد بن سليمان قال: ثنا زيد بن المبارك قال: ثنا ابن ثور عن ابن جريج، في قوله تعالى: ﴿ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ ﴾ [الفَتۡح: 18] ، قال سمرة: كانت بالحديبية، فكانت هذه الشجرة يعرف موضعها، ويؤتى هذا المسجد، حتَّى كان عمر بن الخطَّاب I، فبلغه أنَّ النَّاس يأتونها، ويُصَلُّونَ عندها فيما هنالك، ويعظِّمونها؛ فرأى أنَّ ذلك من فعلهم حدث»[10].
وأخرج أيضًا قال: «حدَّثنا حسين بن حسن المروزي قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا ابن عون قال: بلغ عمر I أنَّ الشَّجرة الَّتي بويع عندها تؤتى، فأوعد في ذلك وأمر بها فقطعت»[11].
ولذلك صحّحه الشّيخ الألباني في «تخريج أحاديث فضائل الشّام»[12]، ومن المعلوم أنَّه I ألّفه بعد «تحذير السّاجد».
الحاصل:
أنه يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يقال: إنّ عمر I قد قطع شجرةً، ولكن ليست هي شجرة الحديبية الَّتي تمّت عندها البيعة؛ لأنَّه لم يعد يعرف مكانها أحدٌ، ومن كان يعرف مكانها لم يقدر على بيانه للنّاس، كجابر I، ولكنّه قطع شجرة أخرى كان النَّاس يظنّون أنّها هي الشجرة الَّتي وقعت تحتها البيعة.
ولذلك، فما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك؛ حيث قال: «أمر عمر I بقطع الشَّجرة الَّتي توهّموا أنّها الشَّجرة الَّتي بايع الصَّحابة النبيّ H تحتها بيعة الرّضوان؛ لمَّا رأى النَّاس ينتابونها، ويصلّون عندها كأنها المسجد الحرام، أو مسجد المدينة»[13].
ثانيًا: هذه الشبهة التي يكررها الرَّافضة، أقرَّ أحد علمائهم المحققين المعاصرين بعدم ثبوتها.
قال جعفر السبحاني: «أمّا ما ذكره من أنَّ عمر بن الخطَّاب لمَّا بلغه أنَّ بعض الناس يذهبون إليها ويصلّون عندها، قطعها خوفًا من الفتنة بها وسدًّا للذريعة، ففيه مجال للبحث والنقاش.
أمَّا أولًا: فقد نقل هذه القصة ابن سعد في (طبقاته) في أحداث غزوة الحديبية عن نافع قال: «كان الناس يأتون الشجرة الَّتي يقال لها شجرة الرضوان فيصلّون عندها، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت».
يلاحظ عليه:
أولًا: أنَّ السند منقطع، ولم يسنده نافع إلى شيخ من مشايخه، فلا يحتج بالسند المقطوع.
ثانيًا: أنَّ هناك دلائل واضحة على أنَّ الشجرة صارت مجهولة لأصحاب الرسول H في العام التالي، فكيف يمكن أن تعرف في عهد عمر حتَّى يأتي الناس إليها ويصلّون تحتها حتَّى يأمر بقطعها؟!
ويدل على ذلك أمران:
الأول: ما رواه البخاري قال: قال ابن عمر: «رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منَّا اثنان على الشجرة الَّتي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله، فسألت نافعًا على أي شيء بايعهم؟ على الموت؟ قال: لا، بايعهم على الصبر».
وقد علَّل ابن حجر في «فتح الباري» خفاء الشجرة بقوله: إنّ الحكمة في ذلك وهو ألا يحصل بها افتتان، ثم قال: وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: «كانت رحمة من الله».
ثم قال: ويحتمل أن يكون معنى قوله: «رحمة من الله» أي: كانت الشجرة موضع رحمة ومحل رضوانه لنزول الرضا على المؤمنين عندها.
أقول: إنّ التفسير الثاني هو الصحيح، وذلك لتأنيث الفعل، فالضمير(ت) يرجع إلى الشجرة لا إلى الخفاء. وعلى كلّ تقدير فالحديث يدلّ على خفاء الشجرة في العام التالي.
الثاني: أنَّ ابن سعد ينقل أيضًا نفس هذا الموضوع، ويذكر استنكار سعيد ابن المسيّب قول من ادّعى بقاءها وتعرفه إليها. فروي عن طارق قال: «انطلقت حاجًّا فمررت بقوم يصلّون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع النبي H بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيّب فأخبرته، فقال: حدّثني أبي أنَّه كان فيمن بايع رسول الله H تحت الشجرة، فقال: فلمَّا خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. قال سعيد: إن كان أصحاب محمد لم يعلموها وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم».
فقوله: «إن كان أصحاب محمد لم يعلموها...» استنكارٌ لادّعائهم، فإذا كان أصحاب رسول الله H غير عارفين بها، فالأولى أن يكون المتأخّرون غير عارفين بها!»[14].
[1] «صحيح البخاري»، كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية (5/124) برقم (4163).
[2] «صحيح البخاري»، كتاب الجهاد والسير، باب: البيعة في الحرب أن لا يفروا (4/50) برقم (2958).
[3] «معرفة علوم الحديث»، الحاكم (ص65).
[4] «تفسير الطبري»، ابن جرير الطبري (22/226).
[5] «الطبقات»، ابن سعد (2/100).
[6] «مصنف ابن أبي شيبة»، كتاب صلاة التطوع والإمامة، باب: في الصلاة عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإتيانه (5/121) برقم (7753).
[7] «تحذير السّاجد»، الألباني (ص125).
[8] «صحيح البخاري»، كتاب المغازي، باب: غزوة الحديبية (5/123) برقم (4154).
[9] «فتح الباري»، ابن حجر (7/448).
[10] «أخبار مكَّة»، الفاكهي (5/77).
[12] «تخريج أحاديث فضائل الشّام»، الألباني (ص51).
[13] «اقتضاء الصّراط المستقيم»، ابن تيمية (1/306).
[14] «حوارات عقائدية معاصرة»، جعفر السبحاني (ص32).