أولًا: إن غاية ما في هذه الرواية أنه وقع خلاف بين أبي بكر وعمر L في مسألة التولية على وفد بني تميم، واختلفت آراؤهما في المسألة، ووصل الحد إلى أن ارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية معلمةً وموضحةً للصحابة وللأمة من بعدهم.
ثانيًا: ورد في الرواية نفسها أن ابن أبي مليكة قال: قال ابن الزّبير: «فكان عمر بعد، ولم يذكر ذلك عن أبيه[1] يعني أبا بكرٍ[2]، إذا حدّث النَّبي H بحديثٍ حدَّثه كأخي السِّرَارِ لم يسمعه حتَّى يستفهمه»[3].
وفي هذا دليل: على أنهما L ما عادا لمثل هذا الفعل أبدًا حتى بعد نزول الآية.
قال عليٌّ القاري: «كأخي السِّرار -بكسر السين المهملة-، أي: إلَّا مشابهًا لصاحب النجوى والمساررة، والمعنى: لا أكلمك إلَّا سرًّا، وأنّ عمر I -كما في البخاري -: (كان إذا حدَّثه) أي: كلمه (حدَّثه كأخي السِّرار) أي: في خفض صوته، كما بينه بقوله: (ما كان يُسْمِع رسول الله H ) بضم الياء وكسر الميم، (بعد هذه الآية)، أي: بعد نزولها، (حتَّى يستفهمه) أي: النبي H من عمر عما ساروه به لكمال إخفائه»[4].
ثالثًا: ورد في كتب الرَّافضة ما يدل على أنَّ الثقة الجليل عندهم «زرارة بن أعين» رفع صوته في حضرة الإمام الباقر، ومع ذلك برر علماء الرَّافضة صنيعه، واعتذروا له باعتذارات شتى.
فقد روى الكليني بسنده عن زرارة قال: «دخلت أنا وحمران -أو أنا وبكير- على أبي جعفر S قال: قلت له: إنا نمد المطمار، قال: وما المطمار؟ قلت: التر، فمن وافقنا من علوي أو غيره توليناه، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عز وجل: ﴿ إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا ٩٨ ﴾ [النِّسَاء: 98] أين المرجون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا؟ أين أصحاب الأعراف أين المؤلفة قلوبهم؟!
وزاد حماد في الحديث: «قال: فارتفع صوت أبي جعفر S وصوتي حتى كان يسمعه من على باب الدار».
وزاد فيه جميل عن زرارة: «فلما كثر الكلام بيني وبينه قال لي: يا زرارة، حقًّا على الله أن [لا] يدخل الضلال الجنة»[5].
فهذه الرواية تبين أن زرارة كان يجادل الإمام، بل وصل به الحال أن رفع صوته بحضرته حتى كان يسمعه من على باب الدار.
يقول المجلسي عن الحديث: «الحديث الثالث: حسن كالصحيح»[6].
ثم يعلق المجلسي فيقول: «هذا مما يقدح به في زرارة، ويدل على سوء أدبه، ولما كانت جلالته وعظمته ورفعة شأنه وعلو مكانه مما أجمعت عليه الطائفة، وقد دلت عليه الأخبار المستفيضة، فلا يعبأ بما يوهم خلاف ذلك.
ويمكن أن تكون هذه الأمور:
- في بدو أمره قبل كمال معرفته.
- أو كان هذا من طبعه وسجيته، ولم يمكنه ضبط نفسه، ولم يكن ذلك لشكه وقلة اعتنائه.
- أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب مع المخالفين.
- أو كان لشدة تصلبه في الدين وحبه لأئمة المؤمنين؛ حيث كان لا يجوز دخول مخالفيهم في الجنة»[7].
فبعد أن أقر المجلسي بأن الرواية دالة على سوء أدب زرارة مع الإمام الباقر، حاول الاعتذار لفعله، وذكر جملة من الاحتمالات.
ومن باب الإلزام: يمكن أن يقال كذلك: إن ما صدر من عمر I كان من طبعه وسجيته، وأنه لم يمكنه ضبط نفسه، أو أن نقول مثلًا: إن هذا كان لشدة تصلبه في الدين، أم أنكم تجعلون هذه التبريرات حكرًا على أصحاب الأئمة دون أصحاب رسول الله H ؟!
وقال المازندراني أيضًا: «قال زرارة: فارتفاع صوت أبي جعفر S وصوتي حتى كاد يسمعه من على باب الدار، يدل على سوء أدب زرارة وانحرافه، والحق أنه من أفاضل أصحابنا وأنه منزه عن مثل ذلك، وكأن قوله هذا كان قبل استقراره على المذهب الصحيح، أو كان قصده معرفة كيفية المناظرة في هذا المطلب وتحصيل المهارة فيها؛ ليناظر مع الخوارج وأضرابهم، ورأى أن المبالغة فيها
لا تسوؤه S بل تعجبه، والله يعلم»[8].
ويلاحظ أن المازندراني اعترف بقلة أدب زرارة، وزاد على ذلك انحرافه، لكنه كسابقه حاول الترقيع لصنيعه، وإيجاد مخرج له ولو تكلفًا.
وقد علق محقق الكتاب -الشعراني- على هذا الموضع قائلًا: «قوله: (على سوء أدب زرارة وانحرافه)، أما سوء الأدب فهو كذلك، وأما الانحراف فلا يدل كلامه عليه؛ إذْ ربَّ محب يطيش فيخرج عن الأدب لا عن الحب، وليس كل أحد معصومًا عن الزلل، أما رأيت ولدًا برًّا بوالديه قد يتفق عند الغضب أن يخشن الكلام ويهجر الوالد، ثم يندم من قريب ويعتذر؟
وروي عن ابن عباس أشد من ذلك بالنسبة إلى أمير المؤمنين S، وكان تابعًا وليًّا له من أول عمره إلى آخره، بعد ذاك العتاب وقبله، بل يدل هذا الحديث على أن زرارة كان مفرطًا في الولاية، مبالغًا فيها، زائدًا متجاوزًا عن الحد الذي كان يرضى به الإمام S، وكان يرى أنَّ كل متخلف عن أهل البيت كافر، وردعه عنه الإمام S بأن المستضعفين من الضلال في الجنة»[9].
فالمحقق، وإن نازع في دلالة الحديث على انحراف زرارة، لكنه لم يجد بُدًّا من الاعتراف بقلة أدبه، ورغم ذلك، وكما صنع من سبقه، حاول التبرير لفعل زرارة، والعجيب أنه جعل قلة الأدب هذه دليلًا على المدح، وعلامة على فرط المحبة والولاية لأهل البيت.
وما أجمل ما قال: «وليس كل أحد معصومًا عن الزلل»؛ وهذا عين ما نقوله في حق أصحاب رسول الله H .
® فما المانع الذي يحجز الشيعة عن القول بمثل هذا في حق أبي بكر وعمر L؟!
[1] قوله: «(لم يذكر ذلك) يعنى أن عبد الله بن الزبير لم يذكر ما حصل لعمر في انخفاض صوته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم (عن أبيه) يريد جده لأمه أسماء (يعنى أبا بكر) واطلاق الأب على الجد مشهور» انظر: «الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني» (18/279)
[2] «قال السندي: قوله: فكان عمر: لعله خصَّه بالذكر لأنه كان جهير الصوت بخلاف أبي بكر، L»، انظر: هامش «مسند أحمد» (26/56 ط الرسالة).
[3] «صحيح البخاري»، كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنة، باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم (9/97) برقم (7302).
[4] «شرح الشفا»، علي القاري (٢/٦٧).
[6] «مرآة العقول» (١١/١٠٦).
[7] «مرآة العقول» (١١/١٠٧ -١٠٨).
[8] «شرح أصول الكافي»، الملا صالح المازندراني (١٠/٥٤).