أولًا: نقول: إن موافقات عمر لربه D من القطعيات الثابتة بالأسانيد الصحيحة، ولسنا في حاجة إلى اختلاق المكذوبات كما يختلق الشيعة من الفضائل ما لا يحصر، حتى قال الحافظ أبو يعلى الخليليّ في كتاب «الإرشاد»: «وضعت الرَّافضة في فضائل عليٍّ I وأهل البيت نحو ثلاث مئة ألف حديثٍ».
وعلق ابن القيم قائلًا: «ولا تستبعد هذا، فإنَّك لو تتبّعت ما عندهم من ذلك لوجدت الأمر كما قال»[1].
ثانيًا: لم ينفرد عمر بذلك دون الصحابة، فقد ذكر السيوطي في (الإتقان) تحت عنوان: «النّوع العاشر: فيما أنزل من القرآن على لسان بعض الصَّحابة، هو في الحقيقة نوعٌ من أسباب النّزول، والأصل فيه موافقات عمر، وقد أفردها بالتّصنيف جماعةٌ»[2].
ثم ذكر بعض الصحابة الآخرين، الذين كان ينزل القرآن موافقًا لكلامهم، كزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وامرأة من الأنصار، ومصعب بن عمير، وغيرهم.
ثالثًا: إن هذه الموافقات لا يستنكرها إلا جاهل بكون القرآن ينزل منجمًا حسب الأحداث، فكان الصحابة يبدون رأيهم في تلك الأحداث، فينزل القرآن موافقًا لرأي بعضٍ، ومخالفًا لرأي آخرين، وهذا بديهي جدًّا مع الآيات التي نزولها سببي لا ابتدائي، ولذلك عدّ العلماء هذه الموافقات من باب أسباب النزول، وقد اختص عمر I بكثرة موافقاته للقرآن؛ لما رزقه الله من العلم والفقه في الدين، مع الفراسة الصادقة، والسبب في زيادة تلك الكرامة لعمر بن الخطَّاب I ما ثبت عن النبي H في بيان
علمه وفضله.
عن ابن عمر L أنَّ رسول الله H قال: «إنّ الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه»[3].
وعن أبي هريرة I أن رسول الله H قال: «إنه كان قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطَّاب»[4].
بل ثبت عن علي I بإسناد قوي، عن وهبٍ السّوائيّ قال: خطبنا عليٌّ فقال: «من خير هذه الأمّة بعد نبيّها؟ فقلت: أنت يا أمير المؤمنين، قال: لا، خير هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكرٍ، ثمَّ عمر، وما نبعد أنَّ السّكينة تنطق على لسان
عمر»[5].
رابعًا: إن مرتبة المحدّث -الذي لا يكون نبيًّا- متفق عليها بين السُّنَّة والشيعة؛ يقول العلامة الأميني: «اتفقت الأمة الإسلامية على أن في هذه الأمة لِدَةَ الأمم السابقة أناس محدثون، على صيغة المفعول، وقد أخبر بذلك النبي الأعظم، كما ورد في الصحاح والمسانيد من طرق الفريقين: «العامة والخاصة»، والمحدث من تكلمه الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه، فوجود من هذا شأنه من رجالات هذه الأمة مطبق عليه بين فرق الإسلام»[6].
وقال أيضًا -بعدما ساق روايات الشيعة-: «هذه جملة من أخبار الشيعة في الباب، وهي كثيرة مبثوثة في كتبهم وهذه رؤوسها، ومؤدى هذه الأحاديث هو الرأي العام عند الشيعة سلفًا وخلفًا، وفذلكته: أن في هذه الأمة أناسًا محدثين كما كان في الأمم الماضية، وأمير المؤمنين وأولاده الأئمة الطاهرون، علماء محدثون وليسوا بأنبياء. وهذا الوصف ليس من خاصة منصبهم ولا ينحصر بهم، بل كانت الصديقة كريمة النبي الأعظم محدثة، وسلمان الفارسي محدثًا»[7].
خامسًا: إذا كان مجرد موافقة عمر I لربه في نزول بعض الآيات يوجب كونه معصومًا أو مشاركًا للنبي H في النبوة، فيقال لكم: قولوا مثل ذلك في حق سلمان الفارسي I فإن القرآن كان ينزل موافقًا لقوله في كتب الشيعة، ففي كتاب «الاحتجاج» للطبرسي: وهي رواية طويلة، والشاهد منها قوله: «قال سلمان: فإني أشهد أنه من كان عدوًا لجبرئيل، فإنه عدو لميكائيل وأنهما جميعًا عدوان لمن عاداهما، مسالمان لمن سالمهما، فأنزل الله تعالى عند ذلك موافقا لقول سلمان: ﴿ قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ ﴾ [البَقَرَةِ:97 ] [8].
بل أثبتوا النبوة لأئمتكم الذين قلتم: إنهم يوحى إليهم وإنهم محدّثون، فقد جاء في كتاب «الاعتقادات في دين الإمامية» للصدوق، تحت عنوان [باب: الاعتقاد في عدد الأنبياء والأوصياء Q]: «ونعتقد أنهم Q لم ينطقوا إلا عن الله تعالى وعن وحيه»[9].
وعن أبي الحسن الأول موسى S قال: «مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابرٍ، وحادثٍ، فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا»[10].
وعن عمار الساباطي قال: «قلت لأبي عبد الله S: بما تحكمون إذا حكمتم؟ قال: بحكم الله وحكم داود، فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا تلقانا به روح القدس»[11].
فهذا روح القدس الذي كان ينزل على الأنبياء، بإقرار جعفر سبحاني؛ حيث قال: «الظاهر أن المراد من الملك في هاتيك الروايات: هو جبرئيل»[12].
يقول صدر الدين الشيرازي بأن جبريل هو روح القدس: «جبرائيل: هو المسمى بروح القدس»[13].
ثم ادعى أن الإمام يسمع كلام الله تعالى بواسطة روح القدس، أي: بواسطة جبريل، فقال: «قوله: (والإمام) هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص، أي: يسمع كلام الله بواسطة الروح القدسي، سماعًا في اليقظة لكن بصورة الألفاظ، ولا يرى الواسطة متمثلة متشخصة لا في اليقظة ولا في النوم أيضًا»[14].
وأثبت نزول الوحي صراحة عدد من مراجع الشيعة، منهم: محمد جميل حمود في كتابه «الفوائد البهية»[15]، والدكتور عبد الهادي الحسني في كتاب «العصمة»[16]، والميرزا الخوئي في كتابه «منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة»[17].
فهذه نبوة عملية لا شك فيها؛ ولذلك قال المجلسي: «ولا نعرف سببًا لعدم اتصافهم بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وآله، ولا تصل عقولنا إلى فرق بين النبوة والإمامة»[18].
وهذا يثبت أن هؤلاء -عندهم- أنبياء وليسوا مجرد أئمة؛ ولذلك قال عليّ الميلاني: «كان علي شريكًا لرسول الله في رسالته»[19].
والخلاصة: أن ادعاء الإمامية أن هذه الموافقات تعتبر دليلًا على أن عمر يشارك النبي H في الوحي، أو أنه معصوم، أو غير ذلك من التشغيبات، كله مردود في وجوههم، وقد أثبتنا أنها فريةٌ ما فيها مريةٌ!
[1] «المنار المنيف في الصحيح والضعيف»، ابن القيم (ص116).
[2] «الإتقان في علوم القرآن» (1/127).
[3] رواه الإمام أحمد في «مسنده» (2/152) برقم (5123)، والترمذي في «سننه» (5/576) برقم (3682)، وصححه ابن حبان في «صحيحه» (15/318) برقم (6895)، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (3682)، و«صحيح الجامع» (1736).
[4] «صحيح البخاري» كتاب الأنبياء، باب: بَابُ حَدِيثِ الغَار، برقم (3469)، والترمذي في «سننه» (5/581) برقم (3693).
[5] «مسند أحمد»، ط الرسالة (2/210).
[6] «موسوعة الغدير» (5/42).
[8] «الاحتجاج»، الطبرسي (١/٦٠).
[9] «الاعتقادات في دين الإمامية» (ص92).
[10] «الكافي» (1/264)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (3/136): «صحيح على الظاهر».
[11] «الكافي» (1/398)، وقال المجلسي في مرآة العقول (4/303): «موثق».
[12] «مفاهيم القرآن» (4/390).
[15] «الفوائد البهية» (2/102).
[17] «منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة» (12/42- 43).
[18] «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» (2/290).
[19] «محاضرات في الاعتقاد» (1/49).