أولًا: هذه الرواية ضعيفة لا تصح من طريقٍ، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1- رواية (فضائل الصحابة) لأحمد بن حنبل:
قال الشيخ وصي الله بن محمد عباس محقق الكتاب: «إسناده ضعيف لانقطاعه؛ لأن شهرًا لم يدرك عمر»[1]. فرواية الفضائل فيها شهر بن حوشب، وهو لم يدرك عمر؛ لأنه ولد في خلافة عثمان، كما قال الذهبي في (السير)[2].
2- رواية الطبري:
وقد رواها من طريق أبي مخنف، وفيها: «ولو كان سالمٌ مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته، فإن سألني ربّي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالمًا شديد
الحبّ للّه»[3].
والرواية ضعيفة؛ لأنها من طريق أبي مخنف، وهو ضعيف.
قال ابن الجوزي: «لوط بن يحيى أبو مخنف، قال يحيى: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف»[4]. وقال الذهبي: «لوط بن يحيى أبو مخنف ساقط، تركه أبو حاتم، وقال الدارقطني: ضعيف»[5].
3- رواية ابن شبة:
وقد رواها من طريق أبي العجفاء، قال: قيل لعمر I: يا أمير المؤمنين لو عهدت؟ قال: «لو أدركت أبا عبيدة بن الجرّاح لولّيته، فإن قدمت على ربّي فقال لي: من ولّيت على أمّة محمّدٍ؟ قلت: سمعت عبدك وخليلك H يقول: «لكلّ أمّةٍ أمينٌ، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح»، ولو أدركت معاذ بن جبلٍ ثمَّ ولّيته، ثمَّ قدمت على ربّي فقال لي: من ولّيت على أمّة محمّدٍ؟ قلت: إنّي سمعت عبدك وخليلك H يقول: «يأتي بين العلماء يوم القيامة برتوةٍ»، ولو أدركت خالد بن الوليد ثمَّ ولّيته، ثمَّ قدمت على ربّي فسألني من ولّيت على أمّة محمّدٍ؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «سيفٌ من سيوف الله سلّه على
المشركين»[6].
وهذا الحديث فيه أبو العجفاء، قال الذهبي: «وثقه ابن معين، وقال البخاري: في حديثه نظر»[7].
وقال عنه الحافظ: «مقبول»[8]. وقال عنه أبو أحمد الحاكم: «ليس حديثه بالقائم»[9].
وعليه: فأبو العجفاء اختلف فيه، ما بين موثّقٍ ومضعّفٍ، وخلاصة القول فيه ما رجّحه الحافظ ابن حجر؛ حيث قال: «مقبول». يعني عند المتابعة، وإلا فلين الحديث.
وهذه المرتبة حديث صاحبها ضعيفٌ عند جمهور أهل العلم، فحكم حديث الراوي المقبول هو الضعف؛ لأنه كحكم حديث الراوي المجهول، والجمهور على رده وتضعيفه[10].
ومن ثمَّ؛ فالرواية ضعيفة، وخلاصة الأمر: أن روايات هذا الباب لا تثبت.
ثانيًا: لو صحت تلك الروايات لما كان فيها مطعن على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I؛ لأنه يريد أن يبين أن الأصل في الاستخلاف في شريعةِ الإسلام أن يكون للأفضل فالأفضل، ولذلك كان عمر I يعقّب بعد كل اسم يذكره بفضيلته المعروفة التي هي أظهر من فضيلة من تحته.
ففي البخاري: «.... فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحدًا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النّفر، أو الرّهط، الَّذين توفّي رسول الله H وهو عنهم راضٍ، فسمّى عليًّا، وعثمان، والزّبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرَّحمن...»[11].
فذكر عمر I فضائل هؤلاء الستة M، وأوصى بالاختيار منهم، فكلام عمر I يتعلق بتحري فضائل من يختار لتولِّي أمر المسلمين، ولهذا استعمل عمر I (لو)، فيكون كلام عمر I محمولًا على بيان فضيلة من يتولى الأمر، وتقديم أهل الفضل والتقوى في قيادة الأمة؛ ولهذا نجد أن أمير المؤمنين عمر قد جعل الخلافة شورى في ستة من المهاجرين، وفي هذا دليلٌ على اعتبار القرشية في ولي أمر المسلمين عند عمر I، وهؤلاء الستة، هم: عثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام M، وكل هؤلاء من قريش، وهم من المهاجرين، وقد شهد لهم أمير المؤمنين عمر I بأن رسول الله H قد مات وهو عنهم راضٍ.
ثالثًا: إن اشتراط القرشية مختلفٌ فيه بين العلماء، ومحل النزاع: موقفهم من حديث: «الأئمّةُ من قريشٍ» أصحيحٌ هو أم ضعيف؟ والحديث صححه الألباني بمجموع طرقه[12].
وقد نقل بعض أهل العلم الإجماع على العمل به، لكن طعن في هذا الإجماع بعضٌ آخر منهم الحافظ ابن حجر؛ حيث قال: «حديث (الأئمَّةُ من قريشٍ) عمل المسلمون به قرنًا بعد قرنٍ، وانعقد الإجماع على اعتبار ذلك قبل أن يقع الاختلاف.
قلت -أي: ابن حجر-: قد عمل بقول ضرارٍ من قبل أن يوجد من قام بالخلافة من الخوارج على بني أميّة كقطريٍّ -بفتح القاف والطّاء المهملة- ودامت فتنتهم، حتَّى أبادهم المهلّب بن أبي صفرة أكثر من عشرين سنةً. وكذا تسمّى بأمير المؤمنين من غير الخوارج ممّن قام على الحجَّاج كابن الأشعث، ثمَّ تسمّى بالخلافة من قام في قطرٍ من الأقطار في وقتٍ ما فتسمّى بالخلافة، وليس من قريشٍ كبني عبّادٍ وغيرهم بالأندلس؛ كعبد المؤمن وذرّيّته ببلاد المغرب كلّها، وهؤلاء ضَاهَوُا الخوارج في هذا، ولم يقولوا بأقوالهم، ولا تمذهبوا بآرائهم، بل كانوا من أهل السُّنَّة داعين إليها...
ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك، فقد أخرج أحمد عن عمر، بسندٍ رجاله ثقاتٌ أنَّه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حيٌّ استخلفته، فذكر الحديث، وفيه: فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة، استخلفت معاذ بن جبلٍ. الحديث.
ومعاذ بن جبلٍ أنصاريٌّ لا نسب له في قريشٍ، فيحتمل أن يقال: لعلّ الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًّا، أو تغيّر اجتهاد عمر في ذلك، والله أعلم»[13].
ومن ثمَّ؛ فهذا الحديث اختلف في صحته، وإن كان الجمهور على القول به والعمل به، ولا يطعن على عمر I بما اختلف فيه، سيما أن له مخارج أخرى.
رابعًا: إن بعض أهل العلم حملوا هذا الحديث على إمامة الصلاة، وليس الإمامة العامة، ومعلومٌ أن إمامة الصلاة لا يشترط فيها القرشية، كما أجمع على ذلك أهل السُّنَّة، والشيعة أيضًا. قال ابن قتيبة: «ونحن نقول: إنّه ليس في هذا القول تناقضٌ، وإنَّما كان يكون تناقضًا لو قال عمر: «لو كان سالمٌ حيًّا ما تخالجني الشَّك في توليته عليكم، أو في تأميره».
فأمَّا قوله: «ما تخالجني الشَّك فيه»: فقد يحتمل غير ما ذهبوا إليه، وكيف يظنّ بعمر I أنَّه يقف في خيار المهاجرين، الَّذين شهد لهم رسول الله H بالجنّة، فلا يختار منهم، ويجعل الأمر شورى بينهم، ولا يتخالجه الشَّك في توليته سالمًا عليهم M؟!
هذا خطأٌ من القول، وضعفٌ في الرَّأي، ولكنّ عمر لمَّا جعل الأمر شورى بين هؤلاء، ارتاد للصّلاة من يقوم بها أن يختاروا الإمام منهم، وأجّلهم في الاختيار ثلاثًا، وأمر عبد الله ابنه أن يأمرهم بذلك، فذكر سالمًا فقال: لو كان حيًّا ما تخالجني فيه الشَّك، وذكر الجارودُ العبديُّ فقال: «لو كان أعيمش بني عبد القيس حيًّا لقدّمته».
وقوله: «لقدَّمته» دليلٌ على أنَّه أراد في سالمٍ مثل ذلك، من تقديمه للصَّلاة بهم، ثمَّ أجمع على صهيبٍ الرّومي فأمره بالصّلاة، إلى أن يتّفق القَومُ على اختيار رجل منهم[14].
خامسًا: إنّ الشيعة قد رووا هذا الحديث، واعتقدوا وجوب العمل به.
يقول حسين المنتظري: «فلنذكر بعض الأخبار المتعرضة لوصف القرشية في المقام مع بيان المراد منها:
1- ما في (البحار) عن العيون، عن الرضا، عن آبائه قالوا: «قال النبي H : «الأئمة من قريش».
2- ما في (نهج البلاغة): «إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم»[15].
هذا، مع أنهم لم يلتزموا بهذا العموم، بل قصروه على الاثني عشر فقط.
لكننا نقول: كيف لأنصح الناس للناس، وهو النبي H أن يضيعنا، فيقول: من قريش، وهو يريد عليًّا وأبناءه؟! فلو كان النبي H يريد أن يقتصر الأمر على عليٍّ وأولاده لنصّ على ذلك، لكنه قال: «من قريش» مما يدل على أنه لم يرد أن يكون الأئمة من فرعٍ واحدٍ، بل من فروع متعددة، وإن كانوا يشتركون جميعًا في كونهم من قريش.
ومع ذلك، فقد أسقط الشيعة هذا الحديث برمته، واعتقدوا أن الحكومة العامة تكون لأي أحد، رغم أن الحديث -عندهم- في الاثني عشر فقط.
يقول المنتظري: «فلا دلالة في الحديث على اعتبار القرشية في الفقيه العادل المنتخب في عصر الغيبة؛ إذ الجملة ترتبط بالاثني عشر، فلا تدل على اعتبار القرشية في غيرهم»[16].
فلا تشترط القرشية في الحاكم عندهم الآن!
ولذلك كان فقهاؤهم القدامى يتمنَّون الخلافة.
يقول محقق كتاب «الانتصار» للشريف المرتضى: «فأما إعظام الوزير للشريف الرضى، وتبجيله له أكثر من أخيه المرتضى، فواضحٌ لكل من وقف على سيرة الشريفين، وعرف نفسية كل من الشخصين وسلوكهما ونزوعهما في الحياة. فالشريف كان -ولا ريب- ينزع إلى الخلافة، ويمني نفسه بها، بل كان يترقبها صباحًا ومساءً، وكان يعتقد أنه سينالها ما بقي له جنان يخفق أو لسان ينطق، بعد أمدٍ قصيرٍ أو طويل»[17].
بل وكان الحلي يدعو أن تدوم دولة محمد خدابنده.
قال: «السلطان الأعظم، مالك رقاب الأمم، ملك ملوك طوائف العرب والعجم، مولى النعم، ومسند الخير والكرم، شاهنشاه المعظم، غياث الحق والملة والدين، أولجايتو محمد خدابنده محمد، خلد الله سلطانه، وثبت قواعد ملكه، وشيد أركانه، وأمده بعنايته وألطافه، وأيده بجميل إسعافه، وقرن دولته بالدوام إلى يوم القيامة»[18].
إذًا فأين اعتقاد هؤلاء بأن الأئمة من قريش، وأن الإمامة حقٌّ للاثني عشر فقط؟!
وعليه؛ فكل طعن يقدحون به في أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I ينقلب عليهم.
[2] «سير أعلام النبلاء»، الذهبي (4/372 – 378).
[3] «تاريخ الطبري»، الطبري (3/292).
[4] «الضعفاء والمتروكون»، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (3/28).
[5] «المغني في الضعفاء»، محمد بن أحمد الذهبي (2/535).
[6] «تاريخ المدينة»، عمر بن شبة (3/886).
[7] «الكاشف»، الذهبي (2/443).
[8] «تقريب التهذيب»، ابن حجر (ص658).
[9] «المغني في الضعفاء»، الذهبي (2/797).
[10] مصطلح «مقبول» عند ابن حجر وتطبيقاته على الرواة من الطبقتين الثانية والثالثة في كتب «السنن الأربعة»، محمد راغب راشد الجيطان، رسالة ماجستير 2010م (ص277).
[11] «صحيح البخاري»، كتاب المناقب، باب: قصّة البيعة والاتّفاق على عثمان بن عفّان (5/15).
[12] «إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل» (2/298).
[13] «فتح الباري»، ابن حجر (13/119).
[14] «تأويل مختلف الحديث»، ابن قتيبة الدينوري (ص191- 192).
[15] «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» (1/374).
[17] «الانتصار في انفرادات الإمامية»، الشريف المرتضى (ص17).
[18] «منهاج الكرامة في معرفة الإمامة»، الحلي (ص29).