أولًا: تواتر عن عمر بن الخطَّاب I أنه حرم المتعة تبعًا لتحريم رسول الله H لها.
فقد ورد في مصنف عبد الرزاق، عن سويد بن غفلة قال: «سمعت عمر يَنْهَى عن متعة النِّساء»[1].
وفي «صحيح مسلم»: «عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آتٍ، فقال: إنَّ ابن عبّاسٍ وابن الزُّبير اختلفا في المتعتين، فقال جابرٌ: فعلناهما مع رسول الله H ، ثمَّ نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما»[2].
وفي «سنن الدارقطني» عَنِ ابنِ عبَّاسٍ: «أنَّ عمر نهى عن المتعة الَّتي في النّساء، وقال: إنَّما أحلَّ الله للنَّاس على عهد رسول الله H ، والنّساء يومئذٍ قليلٌ، ثمَّ حرّم عليهم بعد، فلا أقدر على أحدٍ يفعل من ذلك شيئًا، فتحلّ به العقوبة»[3].
ثانيًا: إن نفي تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين عن كل نص في هذه الشريعة يحتاج إلى جمع كل ما جاء في المسألة من نصوص، ثم إننا لما راجعنا مصنف عبد الرزاق الذي وردت فيه هذه الرواية، وجدنا أنه قد صرح بأن عمر إنما درأ الحد لانتفاء شرط الاختيار، فإن المرأة كانت مضطرة لذلك.
فـعن أبي الطُّفيل: «أنَّ امرأةً أصابها جوعٌ، فأتت راعيًا، فسألته الطَّعام، فأبى عليها حتَّى تعطيه نفسها، قالت: فحثا لي ثلاث حثياتٍ من تمرٍ، وذكرت أنّها كانت جهدت من الجُّوع، فأخبرت عمر فكبَّر، وقال: مهرٌ مهرٌ مهرٌ، كلُّ حَفْنَةٍ مهرٌ، ودرأ عنها الحدَّ»[4].
وعن ابن المسيّب: «أنَّ عمر بن الخطَّاب أتي بامرأةٍ لقيها راعٍ بفَلَاةٍ من الأرض وهي عطشى، فاستسقته، فأبى أن يسقيها إلَّا أن تتركه فيقع بها، فناشدته بالله فأبى، فلمَّا بلغت جهدها أمكنته، فدرأ عنها عمر الحدَّ بالضَّرورة»[5].
وعليه؛ فإن المرأة كانت مضطرة، وخافت أن تهْلِك من الجوع إن رفضت ما أعطاه الرجل إياها، وهذا بلا خلاف يدرأ الحد، بل الذنب، حتى إن المسلم يجوز له أن ينطق بكلمة الكفر عند تحقق الاضطرار، فما دون ذلك أولى.
قال تعالى: ﴿ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ ١٠٦ ﴾ [النَّحۡل: 106].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١١٥ ﴾ [النَّحۡل: 115].
يقول الشيخ محمد المختار الشنقيطي: «فإذا ثبت أن الشريعة تخفف عن المضطر، فالضرورة عند العلماء بالمصطلح الخاص: هي خوف فوات النفس، فإذا خاف الإنسان أنه إذا لم يفعل هذا الشيء فإنه سيموت فهو مضطر، مثل: من جاع ولم يجد طعامًا إلا ميتًا، فإنه إذا بقي على حكم الشرع بالتحريم فإنه سيموت، وحينئذٍ يرخص له بأكل الميتة اضطرارًا لا اختيارًا؛ لأنه لو لم يأكلها لهلكت نفسه»[6].
ثالثًا: إن كلمة «مهر» تطلق في لغة العرب على دية الفرج المغصوب، وتطلق على أجرة الزنا.
أما كونها تطلق على دية الفرج المغصوب أو أجرته، فقد قال ابن فارس: «وممَّا حمل على هذا قولهم لدية فرج المرأة عقرٌ، وذلك إذا غصبت، وهذا ممّا تستعمله العرب في تسمية الشّيء باسم الشّيء إذا كانا متقاربين، فسمِّي المهر عقرًا»[7].
قال ابن منظور: «العقر المهر، وقال ابن المظفَّر: عقر المرأة دية فرجها إذا غُصِبَت فرجُها»[8].
وعليه؛ فما أخذته المرأة يسمى مهرًا لغةً.
وأما المعنى الثاني: أن تأخذ المرأة أجرة فرجها بدون اضطرار ولا زواج.
ما ثبت في «الصحيحين» عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ I: «أنَّ رسول الله H نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن»[9].
وفي كتب «الشيعة» سمى المعصوم أجرة الزنا مهرًا، ففي «الخصال» للصدوق: «عن الحسين بن علي Q قال: لما افتتح رسول الله H خيبر دعا بقوسه فاتكأ على سِيَتِهَا، ثم حمِد الله وأثنى عليه، وذكر ما فتح الله له ونصره به، ونهى عن خصال تسعة: عن مهر البغي...»[10].
وفي «علل الشرائع»: «قال عليٌّ: إنّي لأكره أن يكون المهر أقلَّ من عشرة دراهم؛ لئلّا يشبه مهر البغيّ»[11].
رابعًا: أنه قد ثبت في كتب الشيعة أن علي بن أبي طالب درأ الحد عن الزاني المكره.
روى الكُلَيني بسنده عن أبي جعفر S قال: «أُتِي عليٌّ S بامرأة مع رجل قد فَجَر بها، فقالت: استكرهني والله يا أمير المؤمنين، فدرأ عنها الحد، ولو سئل هؤلاء عن ذلك لقالوا: لا تصدق، وقد فعله أمير المؤمنين S»[12].
ولذلك نص علماء الشيعة على أن المرأة: «إذا ادعت الإكراه على الزنا قبلت»[13].
خامسًا: إن الرواية التي هي أصل هذه الشبهة قد وردت في كتب الشيعة، ولكن مع جعل الذي حكم بإسقاط الحد هو علي بن أبي طالب، وليس عمر.
روى الكليني بسنده عن أبي عبد الله قال: «جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: إني زنيت فطهرني، فأمر بها أن ترجم فأخبر بذلك أمير المؤمنين S فقال: كيف زنيت؟ فقالت: مررت بالبادية فأصابني عطش شديد فاستسقيت أعرابيًّا فأبى أن يسقيني إلا أن أمكنه من نفسي، فلما أجهدني العطش وخفت على نفسي سقاني فأمكنته من نفسي، فقال أمير المؤمنين S: تزويج ورب الكعبة»[14].
وعلق المجلسي على هذه الرواية فقال: «ولعلَّ المرادَ والمعنيَّ بهذا الخبر أن الاضطرار يجعل هذا الفعل بحكم التزويج، ويخرجه عن الزنا»[15].
وفي «الوسائل» بسنده: «... قالت: كنت في فلاة من الأرض فأصابني عطش شديد، فرفعت لي خيمة، فأتيتها فأصبت فيها رجلًا أعرابيًّا، فسألته الماء فأبى عليَّ أن يسقيني إلا أن أمكنه من نفسي، فوليت منه هاربةً، فاشتد بي العطش، حتى غارت عيناي وذهب لساني، فلما بلغ مني أتيته فسقاني، ووقع عليَّ، فقال له عليٌّ S: هذه التي قال الله D: ﴿ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ١٧٣ ﴾ [البَقَرَةِ: 173] ، هذه غير باغية ولا عادية إليه، فخلى سبيلها»[16].
ومن ثمَّ؛ فكل تشغيب على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I فهو مقلوب عليهم بما رووه عن علي بن أبي طالب I، وحاشاه من افتراءاتهم!
[1] «مصنف عبد الرزاق»، الصنعاني (7/505).
[2] «صحيح مسلم»، كتاب الحج، باب: التقصير في العمرة (2/914) برقم (1249).
[3] «سنن الدارقطني» (/383).
[4] «مصنف عبد الرزاق»، الصنعاني (7/406).
[6] «شرح زاد المستقنع»، محمد المختار الشنقيطي (20/352).
[7] «مقاييس اللغة»، ابن فارس (4/92).
[8] «لسان العرب»، ابن منظور (4/595).
[9] «صحيح البخاري»، كتاب البيوع، باب: ثمن الكلب (3/84) برقم (2237)، «صحيح مسلم»، كتاب المساقاة، باب: تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن (3/1198) برقم (1567).
[10] «الخصال»، الصدوق (1/417).
[11] «علل الشرائع»، الصدوق (2/501).
[12] «الكافي»، الكليني (7/196)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (23/299): «صحيح».
[13] «القضاء والشهادات»، الخوئي (2/357)، «منهاج الصالحين»، محمد إسحاق الفياض (3/280).
[14] «الكافي»، الكليني (5/467).
[15] مرآة العقول (٢٠/٢٥٧).
[16] «وسائل الشيعة»، الحر العاملي (28/112).