أولًا: يجب أن يعلم أن الذي حرم المتعة تحريمًا أبديًّا -بعد أن رخص فيها- هو رسول الله H ، وقد ورد في ذلك العديد من الأحاديث في كتب أهل السُّنَّة، منها: حديث سبرة الجهني I قال: قال رسول الله H : «يا أيَّها النَّاس، إنّي قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النَّساء، وإنَّ الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنَّ شيءٌ فليخلِّ سبيله، ولا تأخذوا ممَّا آتيتموهنَّ شيئًا»[1].
وجاء عن علي بن أبي طالب I أنه قال: «إن رسول الله H حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر»[2].
وقد تنازع رواة حديث عليٍّ I هل قوله: (عام خيبر) توقيت لتحريم الخمر فقط، أم لتحريمه هو والمتعة؟
فالأول: قول ابن عيينة وغيره، قالوا: إنما حرمت عام الفتح.
قال سفيان بن عيينة: «قوله: (يوم خيبر) يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة»، وقال أبو عوانة في صحيحه: «سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث عليٍّ أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها، وإنما نهى عنها يوم الفتح»[3].
وقيل: إنها حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت، ثم حرمت مرة أخرى، وعلى وجه العموم فقد ثبت تحريمها بالاتفاق عام الفتح من فم النبيّ H ، واستقر الأمر على النهي حتى توفي رسول الله H .
ثانيًا: إن حديث جابر بن عبد الله I غاية ما فيه: أن بعضهم لم يبلغه النسخ، وهذا ليس بغريب، ولا يفهم من الحديث أن أبا بكر I كان يقرّهم على هذا، بل يفهم منه أن هذا الأمر لم يكن منتشرًا، بل كان نادرًا، وإلا لو كان معروفًا منتشرًا لنهى الصحابة الذين سمعوا تحريمه من النبيّ H في بادئ الأمر، فلما علم عمر I بالأمر نهى عنه، أي: أخبر الناس بمنع النبيّ H ، لا أنه اجتهد وحرمه استقلالًا من عنده.
قال ابن العربي: «فأما حديث جابر بأنهم فعلوها على عهد أبي بكر، فذلك من اشتغال الخلق بالفتنة عن تمهيد الشريعة، فلما علا الحق على الباطل، وتفرغ المسلمون، ونظروا في فروع الدين، بعد تمهيد أصوله، أنفذوا في تحريم المتعة ما كان مشهورًا لديهم حتى رأى عمر معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حريث
فنهاهما»[4].
وقال الحافظ ابن حجر: «ومما يستفاد أيضًا أن عمر لم ينه عنها اجتهادًا، وإنما نهى عنها مستندًا إلى نهي رسول الله H ، وقد وقع التصريح بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: «لما ولي عمر خطب فقال: إن رسول الله H أذن لنا في المتعة ثلاثًا، ثم حرمها».
وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: «صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله H »[5].
والصحابة كلهم أقروا عمر I على كلامه، ولم ينكروا عليه.
ثالثًا: إن قول عمر I: «وأنا أنهى عنهما» معناه: أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب، وهو قوله تعالى:﴿ فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَآءَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ ٧ ﴾ [المُؤۡمِنُون: 7] ، إلا أن يلزمهم الحاكم والسلطان بحكمه، ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه؛ فلذلك أضاف النهي إلى نفسه.
رابعًا: يذكر بعض علماء الرَّافضة أن سبب تحريم عمر بن الخطَّاب I ونهيه عن المتعة، هو: أن أخته عفراء أنكحت نكاح المتعة، فنهى عنها بعد ذلك.
قال المجلسي: «فتمتع سائر المسلمين على عهد رسول الله H في الحج وغيره، وأيام أبي بكر، وأربع سنين في أيام عمر، حتى دخل على أخته عفراء فوجد في حجرها طفلًا يرضع من ثديها، فنظر إلى درة اللبن في فم الطفل فأغضب وأرعد وأزبد.. فأعلموا سائر الناس أن هذه المتعة التي كانت حلالًا للمسلمين في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، قد رأيت تحريمها»[6].
وأمارات الكذب على هذه القصة الموضوعة -قبح الله واضعها- ظاهرة، فإنه لم يكن لعمر I أخت اسمها عفراء.
يقول محقق «بحار الأنوار» تعليقًا على كلام المجلسي: «لم يكن للخطاب ابن نفيل سوى عمر بن الخطَّاب، وصفية، وأميمة،... ولم يذكر النسابون في ولد الخطَّاب بنتًا اسمها عفراء، واحتمال أن تكون هي إحدى البنتين لا يمكن؛ لأنهما كانتا متزوجتين، فأين عفراء التي لم يعلم لها عمر زوج، ولا المسلمون من هاتين الأختين اللتين ذكر المؤرخون والنسابون أنهما كانتا متزوجتين ولهما أولاد؟»[7].
وقال في موضع آخر: «لم يَعْنُوهَا -يعني: عفراء- أصحاب الرجال، وإنما عنوا صفية بنت الخطَّاب كانت زوجة قدامة بن مظعون، وأظن القصة مجعولة مختلقة»[8].
خامسًا: أنه قد ورد في كتب الرَّافضة ما يدل على تحريم النبيّ H لنكاح المتعة، فقد روى الطوسي بسنده، عن علي S قال: «حرم رسول الله H لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة»[9].
ثم حاول الطوسي أن يجد مخرجًا للرواية؛ إذ هي مخالفة لما استقر عليه علماؤهم من إباحة المتعة، وعدم نسخها، فقال: «فالوجه في هذه الرواية أن نحملها على التقية؛ لأنها موافقة لمذاهب العامة، والأخبار الأولى موافقة لظاهر الكتاب وإجماع الفرقة المحقة على موجبها، فيجب أن يكون العمل بها دون هذه الرواية الشاذة»[10].
وقال أيضًا: «فإن هذه الرواية وردت مورد التقية، وعلى ما يذهب إليه مخالفو الشيعة»[11].
فحمْلُ الرواية على التقية مع استلزامه الكذب على رسول الله H على لسان علي بن أبي طالب I -وحاشاه- غيرُ مسلَّم، فإن مرجع الرَّافضة السيستاني يقرّر أن أحاديث المتعة لا تقية فيها؛ حيث قال: «إن الملاحظ في الروايات الصادرة عنهم S عدم التقية في مجال الأصول العقائدية الخاصة بالمذهب، فترى الروايات كثيرة في العصمة وعلم الغيب والمعاجز والفضائل والمطاعن على الآخرين لا تقية ولا خوف أصلًا، وكذلك في الفروع الواقعة محل النزاع الشديد كالمتعة، والمسح على الخفين، والعول، والتعصيب، فإن الأحاديث صدرت فيها بلا تقية أصلًا، بل ألفت فيها الكتب، أمثال: أعلام الشيخ المفيد، والانتصار للسيد المرتضى، فإذا كانت هذه الموارد الحساسة التي يختص بها المذهب دون غيره من المذاهب، لا يتقي فيها الأئمة أحدًا، مع أنها مورد النزاع، فكيف بالموارد الجانبية كبعض الوضوء، وأحكام الشك والسهو، تكون صادرة على نحو التقية مع أنها محل الخلاف حتى بين العامة أنفسهم، فمن لا يتقي في أصول الفكر ومهمات المسائل، كيف يتقي في المسائل الفرعية الجانبية؟!»[12].
وما رواه الكليني في «الكافي» بسنده، عن معمر بن خلاد قال: «سألت أبا الحسن الرضا S عن الرجل يتزوج المرأة متعة فيحملها من بلد إلى بلد؟ فقال: يجوز النكاح الآخر، ولا يجوز هذا»[13].
والحديث قال عنه المجلسي: «صحيح، وظاهره أنه سأل السائل عن حكم المتعة، وأجاب S بعدم جواز أصل المتعة تقية»[14].. والجواب عن كلام المجلسي بمثل ما تقدم في الرواية السابقة.
سادسًا: إن القول بأن المتعة حرمت فقط بأمر من الخليفة عمر بن الخطَّاب I ينقضه عمل الإمام علي I الذي أقر التحريم في مدة خلافته، ولم يحكم بالجواز، وعمل الإمام حجة عندهم، لا سيما عند بسط يد سلطانه ونفوذ أمره، ومع ما زعموه من أن عليًّا I اشترط في قبول الخلافة أن يسير بكتاب الله وسنة رسول الله H لا بسيرة الشيخين، فإقراره على التحريم والأمر كذلك، يعني: أن المتعة كانت محرمة منذ عهد
رسول الله H ، ولولا ذلك لعارض تحريمها، وبيَّن حكم الله فيها.
سابعًا: يعتقد الرَّافضة أن عمر بن الخطَّاب I هو أول من نهى أو حرم المتعة، وجعلوا هذا من أدلة معارضته لأحكام الشريعة، ولكنهم في الوقت نفسه يبيحون للمرجع أو الفقيه أن يحرم نكاح المتعة وينهى عنها إذا رأى مصلحة في ذلك.
فقد سئل السيستاني: «هل يحق للفقيه تعطيل زواج المتعة أو تحريمه، إذا اقتضت الضرورة ذلك؟ الفتوى: يجوز»[15].
فكيف جاز للفقيه أو المرجع أن يحرم الحلال وينهى عنه؟ وكيف يكون ذلك سائغًا له محرمًا على غيره؟!
[1] «صحيح مسلم»، كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة (4/134) برقم (1406).
[2] «صحيح البخاري»، كتاب المغازي، باب: غزوة خيبر (4/1544) برقم (3979)، «صحيح مسلم» كتاب النكاح، باب: نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ، ثم أبيح ثم نسخ، واستقر تحريمه إلى يوم القيامة (2/1027) برقم (1407).
[3] «فتح الباري»، ابن حجر (9/73).
[4] «عارضة الأحوذي» (3/51).
[6] «بحار الأنوار» (100/303 -304).
[7] «السابق»، هامش رقم (1).
[8] «بحار الأنوار» (53/28) هامش رقم (2).
[11] «تهذيب الأحكام» (7/251).
[12] «اختلاف الحديث من محاضرات سماحة آية الله علي السيستاني»، هاشم الهاشمي (ص109).
[13] «الكافي»، ط. الإسلامية (5/467).
[14] «مرآة العقول» (20/257).
[15] «المصدر شبكة السراج»ـ رقم الفتوى (203).
http://www.alseraj.net/ar/fikh/2/?TzjT8odmvl1075094365&181&210&7