أولًا: اتفق أهل العلم على أنه يجب على من يتكلم في حديث أن يجمع كل ما ورد في المسألة حتى ينفي عن النصوص تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، قال الحافظ ابن حجر: «المتعيَّن على من يتكلَّم على الأحاديث أن يجمع طرقها، ثمَّ يجمع ألفاظ المتون إذا صحَّت الطُّرق ويشرحها على أنَّه حديثٌ واحدٌ، فإنَّ الحديث أولى ما فسِّر بالحديث»[1].
ومما تقرر نقول: إننا لما راجعنا روايات الباب وجدنا أن عمر بن الخطَّاب I ثبت عنه النهي عن متعة الحج، وثبت عنه القول بأن التمتع سنة النبي H .
فقد قال لرجل أحرم تمتعًا: «هديت لسنة نبيك»، فعن شقيق بن سلمة أبي وائلٍ، أنَّ رجلًا من بني تغلب يقال له: الصَّبِيُّ بن مَعْبدٍ، وكان نصرانيًّا فأسلم، فأقبل في أوَّل ما حجَّ «فلبّى بحجٍّ وعمرةٍ جميعًا»، فهو كذلك يلبّي بهما جميعًا، فمرَّ على سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فقال أحدهما: لأنت أضلُّ من جملك هذا، فقال الصَّبيُّ: فلم يزل في نفسي حتَّى لقِيت عمر بن الخطَّاب فذكرت ذلك له، فقال: هديت لسنَّة نبيِّك H »[2].
وإن قلنا بأن هذا قرانٌ وليس تمتعًا، وهو ما يتضح من هذه الرواية، فهو بلا شك من الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، فعن ابن عبّاسٍ قال: «سمعت عمر يقول: لو اعتمرت، ثمَّ اعتمرت، ثمَّ حججت فتمتَّعت»[3].
يقول الجصاص -معلقًا على الرواية-: «ففي هذا الخبر اختياره للمتعة، فثبت بذلك أنَّه لم يكن ما كان منه في أمر المتعة على وجه النهي، وإنما كان على وجه اختيار المصلحة لأهل البلد تارةً، ولعمارة البيت أخرى»[4].
فها هو عمر I يريد التمتع، ويقول لمن فعله، أو فعل قريبًا منه في مسألة الإحرام بالعمرة في أشهر الحج: «هديت لسنة نبيك»، فهل يقول عاقل: إن نهي عمر I كان تحريمًا شرعيًّا؟!
بل الصواب أن هذا النهي كان مؤقتًا لمصالح شرعية سياسية تأتي معنا في البحث، ومع ذلك فقد أخذ الشيخ الألباني من ذلك أن عمر تراجع عن فتواه في هذه المسألة.
قال الشيخ الألباني: «وقد صح عن عمر الرجوع إلى القول بها في الحج، رُوِّينَا من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطَّاب: لو اعتمرت في سنة مرتين، ثم حججت، لجعلت مع حجتي عمرة، ورُوِّينَاهُ أيضًا من طريق سفيان عن سلمة بن كهيل به، ورويناه أيضًا من طرق، فقد رجع عمر I إلى القول بالمتعة اتباعًا للسنة»[5].
قال شيخ الإسلام: «فقد صحَّ عن عمر وعثمان وغيرهما المتعة قولًا وفعلًا، فهذا عمر يروي عن النَّبي H أنَّه فعل المتعة هو وأصحابه»[6].
ثانيًا: إن من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها أن: «تصرُّف الإمام على الرعيَّة منوطٌ بالمصلحة»[7].
ولذلك قال أهل العلم: «إن الحاكم يجوز له أن ينهى عن مباح لدخول في أفضل؛ لتقريب الناس إلى الصلاح».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فقد ينهى السُّلطان بعض رعيَّتِه عن أشياءَ من المباحات والمستحبّات؛ لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حرامًا»[8].
وعلى هذا، فطالما أن النهي لم يخالف به شرعًا، بل نهاهم عن مباح لدخول في أفضل دل عليه الشرع، فهذا من سياسة الحاكم الشرعية الواجب اتباعها.
قال ابن القيم: «فقال شافعيٌّ: لا سياسة إلَّا ما وافق الشّرع. فقال ابن عقيلٍ: السياسة ما كان فعلًا يكون معه النَّاس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفَسَادِ، وإن لم يضعه الرسول H ولا نزل به وحيٌ، فإن أردت بقولك: «إلَّا ما وافق الشّرع» أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيحٌ، وإن أردت: لا سياسة إلَّا ما نطق به الشرع فغلطٌ»[9].
والخلاصة: أن الحاكم إذا ألزم الناس بالمفضول، وأمرهم بترك الفاضل لمصلحة شرعية معتبرة، كان هذا من السياسة الشرعية التي لا ينكر بها عليه.
وقد خرَّج ابن القيم نهي عمر عن الحج على ذلك فقال: «فصلٌ في سياسة الصحابة في قيادة الأمة من بعده H ، ومن ذلك: اختياره للناس الإفراد بالحجِّ؛ ليعتمروا في غير أشهر الحجِّ، فلا يزال البيت الحرام مقصودًا، فظنَّ بعض النَّاس أنَّه نهى عن المتعة، وأنَّه أوجب الإفراد، وتنازع في ذلك ابن عبّاسٍ وابن الزّبير، وأكثَرَ النَّاسُ على ابن عبّاسٍ في ذلك، وهو يحتجُّ عليهم بالأحاديث الصّحيحة الصّريحة، فلمَّا أكثروا عليه في ذلك قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السَّماء! أقول لكم: قال رسول الله H ، وتقولون: قال أبو بكرٍ وعمر؟ وكذلك ابنه عبد الله كانوا إذا احتجُّوا عليه بأبيه يقول: «إنَّ عمر لم يرد ما تقولون»، فإذا أكثروا عليه قال: «أفرسول الله H أحقُّ أن تتَّبعوا أم عمر؟!»[10].
«والمقصود: أنَّ هذا وأمثاله سياسةٌ جزئيّةٌ بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، فظنّها من ظنّها شرائع عامّةً لازمةً للأمّة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذرٌ وأجرٌ، ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائرٌ بين الأجر والأجرين، وهذه السياسة الَّتي ساسوا بها الأمّة وأضعافها هي تأويل القرآن والسُّنَّة»[11].
يقول الإمام الخادمي: «كلُّ مباحٍ أمر به الإمام لمصلحةٍ داعيةٍ لذلك فيجب على الرّعيّة إتيانه»[12]، وعليه، فنهيه عنها هو من باب اختيار الأفضل للأمة، ولم ينه عنها تحريمًا لها.
ثالثًا: إن في الروايات التي جاءت عن عمر بن الخطَّاب I ذكر العلة التي لأجلها نهى عمر عن متعة الحج سياسةً.
الرواية الأولى: عند البيهقي بسنده إلى علي بن أبي طالب I أنه قال لعمر ابن الخطَّاب I: «أَنَهَيْت عن المتعة؟ قال: لا، ولكنّي أردت كثرة زيارة البيت، قال: فقال عليٌّ I: من أفرد الحجَّ فحسنٌ، ومن تمتَّع فقد أخذ بكتاب الله وسنَّة نبيِّه H »[13].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وإنَّما وجه ما فعلوه أنَّ عمر رأى النَّاس قد أخذوا بالمتعة، فلم يكونوا يزورون الكعبة إلَّا مرّةً في السَّنَة في أشهر الحجِّ، ويجعلون تلك السَّفْرَة للحجِّ والعمرة، فكره أن يبقى البيت مهجورًا عامّة السَّنَة، وأحبَّ أن يُعْتَمَرَ في سائر شهور السَّنَة ليبقى البيت معمورًا مَزُورًا كلّ وقتٍ بعمرةٍ ينشأ لها سَفَرٌ مفردٌ، كما كان النَّبي H يفعل؛ حيث اعتمر قبل الحجَّة ثلاث عمرٍ مفرداتٍ، وعلم أنَّ أتمَّ الحجِّ والعمرة أن يُنْشأ لهما سفرٌ من الوطن كما فعل النَّبي H ، ولم ير لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقًا إلَّا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحجِّ، وإن كان جائزًا، فقد ينهى السُّلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات والمستحبّات؛ لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حرامًا.
قال يوسف بن مَاهَك: «إنَّما نهى عمر I عن متعة الحجّ من أجل أهل البلد؛ ليكون موسمين في عامٍ، فيصيب أهل مكَّة من منفعتهما».
وقال عروة بن الزّبير: «إنَّما كره عمر العمرة في أشهر الحجّ؛ إرادة ألّا يعطّل البيت في غير أشهر الحجّ. رواهما سعيدٌ»[14].
قلت: فالعلة إذًا هِيَ أن يظل البيت عامرًا بالطائفين والعمَّار، فأراد أن يخلص أشهر الحج للحج، وأن يجعل سائر السَّنَة للعمرة، حتى لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج، فكان النهي لتكثر زيارة الناس للبيت الحرام، ويكثر عمَّاره طوال السَّنَة؛ لتحصل فائدة للحجاج والمعتمرين بإتمام الحج والعمرة، وبحصول الأجر بمشقة السفْرَتين، وتحصل الفائدة لأهل الحرم فيدخل عليهم الرفق واليسار؛ تحقيقًا لدعوة إبراهيم S: ﴿ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِيٓ إِلَيۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُونَ ٣٧ ﴾ [إِبۡرَاهِيم: 37] .
الرواية الثانية: عند البيهقي بسنده، عن أبي نضرة، عن جابرٍ I قال: «قلت: إنَّ ابن الزُّبير ينهى عن المتعة، وإنَّ ابن عبّاسٍ يأمر بها، قال: على يَدِي جرى الحديث... فلمَّا وَلِيَ عمرُ خطبَ النَّاس فقال:... افصلوا حجَّكم من عمرتكم، فإنَّه أتمُّ لحجّكم وأتمُّ لعمرتكم».
علق البيهقي على هذه الرواية قائلًا: «ووجدنا في قول عمر I ما دلَّ على أنَّه أحبَّ أن يفصل بين الحجِّ والعمرة؛ ليكون أتمَّ لهما، فحملنا نهيه عن متعة الحجّ عن التّنزيه، وعلى اختيار الإفراد على غيره لا على التّحريم، وبالله التّوفيق»[15].
وهذه الرواية ذكرها الجصاص في «أحكام القرآن» فقال: «عن اللَّيث، عن عقيلٍ، عن ابنِ شهابٍ، عن سالمٍ بن عبد الله، عن أبيه قال: كان عمر يقول: إنّ الله قال: ﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البَقَرَةِ: 196]، وقال تعالى: ﴿ ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞ ﴾ [البَقَرَةِ: 197] فأخلصوا أشهر الحجّ للحجّ، واعتمروا فيما سواها من الشُّهور؛ وذلك لأنَّ من اعْتَمَرَ في أشهر الحجّ لم تتمَّ عمرته إلَّا بهديٍ، ومن اعْتَمَرَ في غير أشهر الحجّ تمّت عمرته إلَّا أن يتطوّع بهديٍ غير واجبٍ، فأخبر في هذا الخبر بجهة اختياره للتّفريق بينهما»[16].
فرأى عمر I أن الصورة المثالية للحج أن يكون في سَفْرَةٍ، والعمرة في سَفْرَةٍ أخرى.
الرواية الثالثة: روى الإمام مسلم «أن أبا موسى كان يفتي بالمتعة، فقال له رجلٌ: رويدك ببعض فتياك، فإنَّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعد، حتَّى لقيه بعد فسأله، فقال عمر: قد علمت أنَّ النَّبي H قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك، ثمَّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم»[17].
قلت: فمن المعلوم أن الشريعة جاءت بالحسن والأحسن، وحثت على اتباع الأحسن، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: «وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓ ﴾ [الزُّمَر: ﵘﵑ] أي: يقدّمون الأحسن الذي هو أشدّ حسنًا على الأحسن الذي هو دونه في الحسن، ويقدّمون الأحسن مطلقًا على الحسن»[18].
فقد كان عمر I يرى أنه من الأحسن والأفضل للناسك أن لا يتمتع فيؤدي عمرة، ثم يتحلل ويأتي أهله، فأراد أن يحمل الحجاج على الأفضل.
قال الحافظ ابن حجر: «وكان من رأي عمر عدم التَّرفّه للحجِّ بكلِّ طريقٍ، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء؛ لئلا يستمرَّ الميل إلى ذلك، بخلاف من بعد عهده به»[19].
وعليه؛ فكان نهي عمر لكل تلك المصالح الشرعية التي دلَّ عليها الكتاب والسُّنَّة، وكان حمل عمر للناس على صورة من الصور التي جاء بها الشرع، ولم يبتدع عمرُ صورةً جديدة من صور النسك، وقد قررنا أن فعل ذلك جائز للحاكم بلا خلاف، وليس هو من باب التشريع، ولا من البدعة، بل هو عين السُّنَّة التي دلّ عليها الكتاب والسُّنة.
رابعًا: للرافضة أقول: إذا شنعتم على أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب I؛ لأنه ندب الناس إلى أداء نسك من الأنساك، وتَرْكِ آخر سياسةً لا تشريعًا، وذلك لإعمار بيت الله الحرام، ولزيادة أجر الناسكين، وليوافق الحال التي أمر بها الشارع في الحج، فماذا تقولون في علي، والحسن، والحسين، والسجاد الذين لم يُعرِّفوا الشيعة مناسك الحج كلها، فكتموا العلم عنهم، وما عرفوا منسكًا واحدًا من مناسك الحج؟!
فعن عيسى بن السري أبي اليسع قال: «قلت لأبي عبد الله S: أخبرني بدعائم الإسلام... ثم كان محمد بن علي أبو جعفر، وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر، وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان
أبو جعفر ففتح لهم وبين لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم...»[20].
فالسؤال: لماذا كان الأئمة يكتمون علم رسول الله H عن شيعتهم، بينما كان عمر بن الخطَّاب I يحج بالناس، ويأمرهم بالحج، ويعلمهم سنة النبي H ، ويرشدهم إلى الأفضل؟!
[1] «فتح الباري»، ابن حجر (6/475).
[2] صحيح: انظر «الإرواء» (983)، «الروض النضير» (38)، «صحيح أبي داود» (1578)، «صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» (1/416).
[3] «مصنف ابن أبي شيبة» (3/228). قال الألباني: «إسناده صحيح»، وانظر: «جامع تراث العلامة الألباني في الفقه» (11/319)، و«سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة» (3/53).
[4] «أحكام القرآن» للجصاص (1/356).
[5] «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة» (3/53).
[6] «شرح العمدة»، ابن تيمية، كتاب الحج (1/525).
[7] «الأشباه والنظائر»، ابن نجيم (ص١٠٤).
[8] «شرح العمدة»، ابن تيمية، كتاب الحج (1/528).
[9] «الطرق الحكمية» (ص١٢).
[12] «بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية» (1/62).
[13] «السنن الكبرى»، البيهقي (5/30).
[14] «شرح العمدة»، ابن تيمية، كتاب الحج (1/528).
[15] «السنن الكبرى»، البيهقي (٣٣٥/٧).
[16] «أحكام القرآن»، الجصاص (1/355).
[17] «صحيح مسلم»، كتاب الحج، باب: في نسخ الأمر بالتحلل والأمر بالتمام (2/896) برقم (1222).
[18] «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (6/356).
[19] «فتح الباري»، ابن حجر (3/418).
[20] «الكافي» (٢/٢٠)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (٧/١٠٨) الحديث السادس: «صحيح بسنديه»،