أولًا: كان طلاق الثلاث في زمن النبي H ، وزمن خلافة أبي بكر وشطرًا من خلافة عمر I يعتبر طلقةً واحدةً، ثم لما رأى عمر بن الخطَّاب تساهل الناس في هذا الأمر العظيم، رأى أنه من المصلحة الشرعية إنفاذ الطلاق ثلاثًا تأديبًا وزجرًا وردعًا، قال ابن القيم: «ولكن رأى أمير المؤمنين عمر I أنَّ النَّاس قدِ استهانوا بأمر الطَّلاق، وكثر منهم إيقاعه جملةً واحدةً، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أنَّ أحدهم إذا أوقعه جملةً بانت منه المرأة، وحرّمت عليه حتَّى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبةٍ يراد للدّوام لا نكاح تحليلٍ، فإنَّه كان من أشدّ النَّاس فيه، فإذا علموا ذلك كفّوا عنِ الطَّلاق المحرّم، فرأى عمر أنَّ هذا مصلحةٌ لهم في زمانه»[1].
ثانيًا: إن قول ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله H ....» إخبارٌ عن تغير فعل الناس، لا عن تغير الحكم الشرعي، أي: أن الناس في زمن النبي H لم يكونوا يطلقون إلا تطليقة واحدة، فلما كان في زمن عمر I صاروا يطلقون الثلاث دفعة، فأمضاه عمر عليهم؛ لإحداثهم لهذه البدعة.
فالحديث ما هو إلا إخبارٌ عن تغير حال الناس، وليس إخبارًا عن تغير تشريع ثابت.
قال الباجي: «معنى الحديث: أنّهم كانوا يوقعون طلقةً واحدةً بدل إيقاع النَّاس ثلاث تطليقاتٍ، ويدل على صحّة هذا التَّأويل أنَّ عمر بن الخطّاب I قال: إنّ النَّاس قدِ استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطّلاق استعجال أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو كان حالهم ذلك من أوّل الإسلام في زمن النَّبي H ما قاله، ما عاب عليهم أنَّهم استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ»[2].
وقال الزرقاني: «وحاصله: أنَّ المعنى أنَّ الطّلاق الموقع في زمن عمر ثلاثًا كان يوقع قبل ذلك واحدةً؛ لأنّهم كانوا لا يستعملون الثّلاث أصلًا، وكانوا يستعملونها نادرًا، وأمّا في زمن عمر فكثر استعمالهم لها»[3].
ثالثًا: ما صنعه عمر بن الخطَّاب I يندرج تحت باب السياسة الشرعية لا باب التشريع، وبينهما فرق، ولذلك أقرّه الصحابة في وقته، ولم ينكروا عليه بدعوى أنه شرع حكمًا جديدًا، أو ناقض حكم الله تعالى.
قال ابن القيم: «فهذا ممّا تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزّمان، وعلم الصَّحابة M حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيّته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، وصرّحوا لمنِ استفتاهم بذلك، فقال عبد الله بن مسعودٍ: من أتى الأمر على وجهه فقد بيّن له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمّله منكم، هو كما تقولون»[4].
رابعًا: ورد في كتب الرَّافضة ما يدل على أن المستخف بأمر الطلاق المتساهل فيه، إذا طلق ثلاثًا يقع طلاقه ثلاثًا، فقد روى الطوسي بإسناده، عن عبد الأعلى عن أبي عبد الله S قال: «سألته عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا؟ قال: إن كان مستخفًا بالطلاق ألزمته ذلك»[5]، والحديث قال عنه المجلسي: «مجهول، أو حسن»[6].
فهل يقول الرَّافضة: إن جعفر الصادق شرع حكمًا، أو خالف السُّنَّة في الطلاق؟! أم أن هذا كان من السياسة الشرعية تأديبًا للناس وردعًا لهم؟!
خامسًا: ورد في كتب الرَّافضة أن طلاق الثلاث مطلقًا يقع ثلاثًا، فقد روى الطوسي بإسناده، عن أبي العبّاس البقباق قال: «دخلت على أبي عبد الله S فقال لي: اروِ عنِّي أنَّ من طلّق امرأته ثلاثًا في مجلسٍ واحدٍ فقد بانت منه»[7].
والحديث حكم عليه المجلسي بقوله: «الحديث التاسع والمائة: موثق».
ثم حاول إيجاد مخرج له؛ لأنه يخالف ما يقول به علماء الرَّافضة فقال: «قوله S: فقد بانت منه أي: بثلاث فيحمل على التقية، أو على ما إذا كان المطلق مخالفًا، ويحتمل أن يكون المراد وقوع الطلاق والبينونة به، فيكون موافقًا لما مر من مذهب الشيخ وسائر الأخبار»[8].
وما ذكره المجلسي محض احتمالات بعيدة يأباها النص، فلا يمكن أن يحمل على التقية، أو على ما إذا كان المطلق من المخالفين، بقرينة قوله: «ارو عني»، فما الداعي أن يروى عنه هذا الأمر ويشاع ويذاع إن لم يكن صحيحًا في نفس الأمر؟!
سادسًا: إن كان عمر بن الخطَّاب I حسب زعم الرَّافضة، قد خالف الشرع في أمر الطلاق، وخالف قول الله تعالى: ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖ ﴾ [البَقَرَةِ: 229]]، فما جوابهم عما رواه الكليني بإسناده، عن أبي بصير قال: «سألت أبا جعفر S عن الطلاق الذي لا يحل له حتى تنكح زوجًا غيره؟ فقال: أخبرك بما صنعت أنا بامرأة كانت عندي وأردت أن أطلقها، فتركتها حتى إذا طمثت وطهرت طلقتها من غير جماع وأشهدت على ذلك شاهدين، ثم تركتها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها راجعتها ودخلت بها، وتركتها حتى إذا طمثت وطهرت، ثم طلقتها على طهر من غير جماع بشاهدين، ثم تركتها حتى إذا كان قبل أن تنقضي عدتها راجعتها ودخلت بها، حتى إذا طمثت وطهرت، طلقتها على طهر بغير جماع بشهود، وإنما فعلت ذلك بها أنه لم يكن لي به حاجة»[9].
فقد كان الإمام الباقر-حسب هذه الرواية- يطلق هذه المرأة، ثم يراجعها ليطلقها بعد ذلك مرة أخرى، ويقر بأنه لم يكن له فيها حاجة، مع أنه كان بإمكانه أن يطلقها في الأولى، ثم تعتد، ثم تبين منه بينونة صغرى ويفترقان، فلماذا كان يراجعها بعد الطلاق وهو لا ينوي أصلًا إبقاءها؟! أليس في هذا إضرار بالمرأة ومخالفة للنص القرآني: ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِۖ فَإِمۡسَاكُۢ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ تَسۡرِيحُۢ بِإِحۡسَٰنٖ ﴾ [البَقَرَةِ: 229]؟! وهذا الحديث حسنه المجلسي في «مرآة العقول»[10].
وقد حمل هذا الإشكال الكبير البيّن في هذا الحديث، أحد علماء الرَّافضة على القول بأنه موضوع مكذوب، قال التستري: «والدليل على وضعه أنه تضمن أن الباقر S عمل ما هو منزه عن عمل مثله، فإن ما فيه ضرار نهى الله تعالى عنه...، ويدل على وضعه أيضًا سوى ما مرّ ما ذكر فيه من العلة من قوله: (وإنما فعلت ذلك بها؛ لأنه لم يكن لي بها حاجة)، فكان يكفيه طلاق واحد، فالمرأة إذا لم ترد الرجل فليس بيدها نزع نفسها، وأما الرجل فإذا لم يرد المرأة جعل الله ذلك له نزعها منه بطلاق واحد»[11].
فبناءً على زعم الرَّافضة وقولهم في هذه المسألة؛ قد خالف الإمام الباقر -حسب رواية «الكافي» التي حسنها المجلسي- الشرع في أمر الطلاق، وخالف السُّنَّة التي جاء بها رسول الله H فهل يتجرأ الرَّافضة على الطعن فيه؟!
[1] «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (3/35).
[2] «المنتقى شرح الموطأ» (4/4).
[3] «شرح الزرقاني على الموطأ» (3/254).
[4] «إعلام الموقعين عن رب العالمين» (3/35).
[5] «تهذيب الأحكام» (8/59).
[6] «ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار» (13/120).
[7] «تهذيب الأحكام» (8/59).
[8] «ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار» (13/120).
[10] «مرآة العقول» (21/128).
[11] «مستدرك الأخبار الدخيلة» (3/307- 308).