إذًا فالمحصلة من ذلك أننا أمام مسألتين، إحداهما إثبات الأفضلية المطلقة لعلي بن أبي طالب I على جميع أصحاب النبي H، والثانية إثبات الإمامة له بدلالة هذه الآية.
فنقول ابتداءً: إن هذا استدلال بالتأويل لا بالتنزيل؛ إذ التنزيلُ ليس فيه ما ذهبت إليه الإمامية في المسألتين، وإنما عمدة ذلك عندهم هو الاستنباط من الدليل، فمن زعم أن الدليل على ما ذهبت إليه الإمامية هو من جهة التنزيل فقد كذب، إنما هو من جهة النظر، فليس الاستدلال بنص الآية، إنما الاستدلال بما انتُزِعَ بمفهومهم من الآية.
ونقول مجملًا: إن حديث المباهلة بعلي وفاطمة والحسنين ثابت في الصحيح، فقد روى الإمام مسلم في «صحيحه» عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «... وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: [ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ] {آل عمران:61} دَعَا رَسُولُ اللهِ H عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: «اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي»».([1])
وهذه فضيلة لأهل بيت رسول الله H([2]) ومعروف أنَّ الإمامةَ عند الشيعة لا تَثْبُتُ إلا بالنص الجلي لا بمجرد إيراد فضيلة، ومعلوم أن أفراد الصحابة انفردوا بفضائل لم يشاركهم فيها غيرهم، ولا يلزم من ورود فضيلة لصحابي أن يكون أفضل من غيره بإطلاق كما هو معلوم.
وللجواب عن هاتين المسألتين، فسيكون الرد من جهتين: الجهة الأولى مسألة الأفضلية، والجهة الثانية مسألة الإمامة.
استدل الشيعة بقوله تعالى: [ﯰ ﯱ ] أن عليًّا I صار هو نفس النبي H، وأن ذلك يلزم منه المساواة بينهما في الولاية العامة.
وهذا استدلال ساقط بالمرة من ناحية اللغة، فضلًا عن الشرع والدين.
فأما عن فساد المساواة المزعومة في اللغة فمن جهة كونها تقتضي التكافؤ في المقدار بلا زيادة ولا نقصان، وهو قول ابن بري([3]) فعلماء الإمامية عندما انتزعوا الدلالة من لفظة (أَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ) في الآية للدلالة على المساواة، جعلوا معنى المساواة على هواهم لا على ما اقتضته لغة العرب، فجعلوه مساويًا للنبي H في كل شيء إلا في النبوة كما قال الزنجاني! وهذا معارِض لمقتضى معنى لفظ المساواة في اللغة؛ إذ لغة يجب أن يساويه في كل شيء بلا زيادة أو نقصان، وهذا المعنى ورد كذلك في المعاجم «أن المساواة تكون في المقدارين اللذين لا يزيد أحدهما على الآخر ولا ينقص عنه، والتساوي التكافؤ في المقدار»([4])، فعلى معناه لغة يجب أن تكون المساواة بين علي I وبين النبي H من كل وجه، فيستوي معه في العلم والنبوة معًا، وما يستلزم ذلك من أباطيل أخرى، وبذلك يظهر بطلان استدلال الشيعة من جهة اللغة بلا منازع.
وأما عن فساد استدلالهم في الشرع فنقول: إن لفظ الأنفس لا يقتضي المساواةَ أصلًا، بل غاية ما فيه هو الدلالة على المشابهة والمجانسة، وكلاهما يقع بالاشتراك في شيء بعينه، وهذا هو معنى المساواة في قولهم: «المُساواة تَكُونُ بَينَ المختلِفين فِي الجِنْس والمتَّفقين»([5])، فمعناه أن هناك نوع اتفاقٍ، ويكون ذلك الاتفاق إما المشابهة أو المجانسة؛ لوقوع شيء مشترك بين المتشابهين أو المتجانسين بالفعل أو الدين أو القرابة أو النسب، فهذا المعنى للفظ الأنفس دل الشرع على صحته، وله نظائر شتى في القرآن الكريم، وهذا بيانها:
1. الدلالة على مقصود المشابهة والمجانسة من جهة الفعل والتعبير عنه بلفظ النفس مع عدم اعتبار معنى المساواة للفظ، كما في قوله تعالى: [ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ] {البقرة:54}.
فهنا استُخدم لفظُ الأنفس ولم يكن المراد منه المساواة، فليس مَن عَبَد العجل كمن لم يعبده، وليس عامة قومه S قد عبَد العجل، وليس ثمة أحد يقول إن هارون قد عبده مع من عبدوه! وعلى الرغم من هذا قال: (أنفسَكُم) وشملهم جميعًا في الخطاب بقوله: (يا قَوْم)، وإنما المراد منه اتفاقهم ومجانستهم باعتبار الشيء المشترك بينهم في الفعل الذي وقع منهم وهو عبادتهم للعجل، فشملهم بالخطاب بقوله: (أنفسكم) للدلالة على الاشتراك والمشابهة والمجانسة.
2. وأما الدلالة على مقصود المشابهة والمجانسة من جهة الدين والاعتقاد مع التعبير عنه بلفظ الأنفس مع عدم اعتبار ورود معنى المساواة للفظ، ففي قوله تعالى: [ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ] {النور:12}.
فلفظ الأنفس قد استُعمل في الآية ولم يُرَد منه المساواة بين المؤمنين والمؤمنات، بل غاية ما دل عليه هو اتفاقهم ومجانستهم باعتبار الشيء المشترك بينهم وهو الإيمان.
3. وأما الدلالة على مقصود المشابهة والمجانسة من جهة القرابة والنسب مع التعبير عنه بلفظ الأنفس مع عدم اعتبار معنى المساواة للفظ؛ فهو كالآية محل نزاعنا مع الإمامية، وظهور المشابهة والمجانسة فيها آكد من غيرها، وذلك لأنه H خاطبهم -النصارى- وخاطب نفسه في نفس الوقت، ومراده من الخطاب دعوة من حصل بيننَا وبينهم المجانسة منا ومنكم في الرجال والنساء والأبناء، فكل ذلك مشمول بلفظ (أنفُسَنا وأنفسَكُم)، ويكونون ممن وقعت فيهم المجانسة معهم بأن يكونوا من الأقربين نسبًا ودينًا منَّا، ولا بد أن يكونوا من خاصتنا، وذلك حتى يحصل المقصود من المباهلة، وهو الخوف على النفس والأقارب، فلو كانت بالبعيد مما ينقطع عن المباهِل والمباهَل نسبه أو سببه لم يحصل المقصود من المباهلة وهو الخوف.
وهذا المعنى -الإتيان بالأقارب طبيعة المباهلة – ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: «وَالْمُبَاهَلَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْأَقْرَبِينَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَوْ بَاهَلَهُمْ بِالْأَبْعَدِينَ فِي النَّسَبِ، وَإِنْ كَانُوا أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ، لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ الْأَقْرَبِينَ، كَمَا يَدْعُو هُوَ الْأَقْرَبَ إِلَيْهِ، وَالنُّفُوسُ تَحْنُو عَلَى أَقَارِبِهَا مَا لَا تَحْنُو عَلَى غَيْرِهِمْ».([6])
وهو عين ما ذهب إليه علماء الإمامية، وزادوا أن النصارى جعلوا قيام المباهلة متعلقًا بمن يصحبه النبي H معه فيها، فإن كانوا من خاصته فلا مباهلة، وإن كانوا من غير خاصته باهلوه واستظهروا كذبه.
4. وكونُ ما ذهبنا إليه من تعيين هذه المعاني للفظة النفس هو الحق، فنتمثل فيه بقول القائل: (والحق ما شهدت به الأعداء)، فقد قرر الشريف المرتضى هذا المعنى بعينه فقال: « وقال بعض العلماء: إن للعرب في لسانها أن تخبر عن ابن العم اللاصق والقريب المقارب: بأنه نفس ابن عمه، وأن الحميم نفس حميمه، ومن الشاهد على ذلك قول الله تعالى: [ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ...] {الحجرات:11}، أراد تعالى: ولا تعيبوا إخوانكم المؤمنين، فأجرى الأخوة بالديانة مجرى الأخوة في القرابة، وإذا وقعت النفس عندهم على البعيد النسب كانت أخلق أن تقع على القريب السبب، وقال: (كأنا يوم قرى إنما نقتل إيانا) أراد: كأنما نقتل أنفسنا بقتلنا إخواننا، فأجرى نفوس أقاربه مجرى نفسه، لشوابك العصم ونوائط اللحم وأطيط الرحم، ولما يخلج من القربى القريبة، ويتحرك من الأعراق الوشيجة. فأما قول الله تعالى في النور: [ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ...] {النور:61}، فيمكن أن يجري هذا المجرى؛ لأنه جاء في التفسير: أن معنى ذلك فليسلم بعضكم على بعض؛ لاستحالة أن يسلم الإنسان على نفسه، وإنما ساغ هذا القول؛ لأن نفوس المؤمنين تجري مجرى النفس الواحدة، للاجتماع في عقد الديانة، والخطاب بلسان الشريعة، فإذا سلم الواحد منهم على أخيه كان كالمسَلِّم على نفسه، لارتفاع الفروق واختلاط النفوس، وفي هذه الآية أيضًا دليل على أن ابن البنت يسوغ تسميته ابنًا في لسان العرب».([7])
وهذا المعنى قد بيَّنه شيخُ الإسلام ابن تيميَّة V رحمة واسعةً في «منهاج السنة» أحسنَ بيان فقال: «لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُسَاوَاةُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُسَاوِي رَسُولَ اللهِ H، لَا عَلِيًّا وَلَا غَيْرَهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ: [ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ] {النور:12}، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ مُتَسَاوِينَ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: [ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ] {البقرة:54}، أَيْ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونُوا مُتَسَاوِينَ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ مُسَاوِيًا لِمَنْ لَمْ يَعْبُدْهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: [ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ] {النساء:29} أَيْ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مُتَسَاوِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: [ﯿ ﰀ ﰁ ] {الحجرات:11}: أَيْ لَا يَلْمِزُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فَيَطْعَنُ عَلَيْهِ وَيَعِيبُهُ. وَهَذَا نَهْيٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَّا يَفْعَلَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ هَذَا الطَّعنَ وَالْعَيْبَ، مَعَ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَسَاوِينَ لَا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا فِي الْفَضِيلَةِ وَلَا الظَّالِمُ كَالْمَظْلُومِ، وَلَا الْإِمَامُ كَالْمَأْمُومِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: [ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ] {البقرة:85}: أَيْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ فِي قَوْلِهِ: [ﯰ ﯱ ] {آل عمران:61} كَاللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ: [ﯿ ﰀ ﰁ ] {الحجرات:11}، [ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ] {النور:12} وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ التَّسَاوِيَ هُنَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ مُمْتَنِعٍ، فَكَذَلِكَ هُنَاكَ وَأَشَدُّ، بَلْ هَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمُجَانَسَةِ وَالْمُشَابَهَةِ، وَالتَّجَانُسُ وَالْمُشَابَهَةُ يَكُونُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْإِيمَانِ، فَالْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فِي الْإِيمَانِ، وَهْوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: [ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ] {النور:12}، وَقَوْلُهُ: [ﯿ ﰀ ﰁ ] {الحجرات:11}، وَقَدْ يَكُونُ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمُ الْمُنَافِقُ، كَاشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّسَبِ فَهُوَ أَوْكَدُ، وَقَوْمُ مُوسَى كَانُوا أَنْفُسَنَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: [ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ] {آل عمران:61} أَيْ رِجَالَنَا وَرِجَالَكُمْ، أَيِ الرِّجَالُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِنَا فِي الدِّينِ وَالنَّسَبِ، وَالرِّجَالُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ جِنْسِكُمْ، أَوِ الْمُرَادُ التَّجَانُسُ فِي الْقَرَابَةِ فَقَطْ; لِأَنَّهُ قَالَ: [ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ] {آل عمران:61} فَذَكَرَ الْأَوْلَادَ وَذَكَرَ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَقْرَبِينَ إِلَينَا مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْعَصَبَةِ؛ وَلِهَذَا دَعَا الْحَسَنَ وَالْحُسَينَ مِنَ الْأَبنَاءِ، وَدَعَا فَاطِمَةَ مِنَ النِّسَاءِ، وَدَعَا عَلِيًّا مِنْ رِجَالِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَحَدٌ أَقْرَبُ إِلَيْهِ نَسَبًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَدَارَ عَلَيْهِمُ الْكِسَاءَ».([8])
قال الزنجاني: «فهي تدل على ثبوت الإمامة لعلي (ع)؛ حيث جعله الله تعالى نفس رسول الله (ص)، والاتحاد محال، فتعين المساواة في الولاية العامة إلا النبوة».([9])
وهذا الكلام باطل من وجوه، وبيانها كالتالي:
1. لو كان معنى (أنفسنا) علي بن أبي طالب لخرج بذلك النبي H من الخطاب، وذلك لأنهم جعلوه هو نفس النبي S مع استحالة الاتحاد كما ذكر الزنجاني، فيتعين بذلك المغايرة، فيخرج من جملة المباهلين ذات النبي S، فيكون المعنى آنذاك أنه أراد أن يباهلهم بغيره، وهذا باطل!
2. وإن كان المعنى أن نفسه S هي علي، فما هو نفس الْمُبَاهَلين إذًا؟ أيكونون هم بذواتهم أم بغيرهم؟
فإن قلتم بذواتهم نقضتم استحالة الاتحاد التي زعمتموها في معنى النفس.
وإن قلتم بغير ذواتهم ألزمناكم بها في ذات النبي H؛ إذ لفظ الأنفس واحدٌ في الجهتين فيتيعن اتحاد معناه، فما جعلتموه معنى له في إحداهن جعلناه في أختها، فيخرج بذلك –إن كان معناه بذواتهم- علي بن أبي طالب I من جهة أنفسنا، ولا يبقى إلا النبي S هو المقصود بها، فجوابكم عن هذه هو جوابنا عن تلك، ومخرجكم من إحداهن هو عين مخرجنا من أختها.
3. لو كان عليٌّ هو نفس النبي H لتعين أن عِلمَ النَّبِي H هُو نَفْسُه (بِالتَّسَاوِي) عِلمُ عَلِي I، فهل ستقول الإمامية باستواء العلم بينه وبين النبي S، أم أن عِلْمَ النَّبِي H أكْثَرُ مِن عَلِي أو أَقُل مِن ذَلِك؟!
4. لَو كَان النَّبِي صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَالِه وَسَلَّم نَفْس عَلِي I كَمَا يَزْعُمُون، فَكَيْف سَنَفْهم هَذِه الْآيْة؟ قال تعالى: [ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ{النساء:79}
هَل تُفْهَم (وَمَا أصَابَك مِن سَيِّئَة فَمِن عَلَي)؟! فيكون علي هو مصدر السيئة!
5. لو التزمنا ما فهمتموه فما قولكم في قوله تعالى: [ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ] {الروم:21} فَهَل زَوْجَات النَّبِي H هُن نَفْس النَّبِي H عَلَى ضَوْء الْآيَة؟
رابعًا: نقض الاستدلال بالآية على إمامة علي بن أبي طالب I.
1. إن دلت آية المباهلة على الإمامة وجب أن تكون فاطمةُ إمامًا أيضًا، ولا قائل بذلك من الإمامية، بل وجب أن يكون الخمسة الأئمة في زمان واحد، وكلهم حاضر غير غائب، وهذه من العجائب أن يجتمع في وقت واحد خمسة أئمة حاضرين، في حين أننا منذ أكثر من ألف عام ليس معنا إمام واحد حاضر! ومثل هذا مناقض للحكمة الإلهية من علة وجود الإمام.
إن قال قائل: من أين أوجبتم الإمامة للخمسة؟ فإنا قد انتزعنا دلالة إمامة علي بن أبي طالب I من كونه نفس النبي H، وأما فاطمة فداخلة في (نساءنا)، والحسنان فداخلان في (أبناءنا).
قلنا: لا نسلم لكم أن لفظة (أنفسنا) قد اقتصر شمولها على علي بن أبي طالب I، بل شملت الحسنين وأمَّهما كذلك، وبه اعترف علماؤكم عمدًا أو سهوًا، يقول جعفر السبحاني: «وإنَّ إتيانه سبحانه بلفظ الأبناء بصيغة الجمع يعرب عن أنَّ طرف الدعوى لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده بل أبناؤه ونساؤه، ولذلك عدَّتهم الآية نفس النبي ونساء النبي وأبناءه من بين رجال الأُمة ونسائهم وأبنائهم».([10])
فيلزمكم آنذاك زيادة إمام وهو فاطمة رضوان الله عليها، وأنتم لا تقولون بإمامتها، فيبطل استدلالكم.
2. إذا كان عليٌّ هو نفس النبي H لزم أن يكون عليٌّ نبيًّا!! ولا معنى لاستثناء الزنجاني مقام النبوة؛ إذ لا دليل في الآية يقيد الإمامة العامة بأنها هي المراد الذي ادعيتموه، ويستثني النبوة التي استثنيتموها.
3. يلزمكم أن تقولوا أيضًا بإمامة عموم أصحاب النبي H؛ لقوله تعالى: [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ] {التوبة:128}، فهل يعني هذا أن الرسول H نفس الصحابة كلهم؟
أخيرًا نتساءل: هل علِي I مساو للنبي H في الشجاعة والكرم والعلم وفي كل شيء؟ نريد أن نعرف ما الشيء الذي تساوى فيه I مع النبي H.
([1]) «صحيح مسلم» باب: من فضائل علي بن أبي طالب (4/1871) برقم (2404).
([2]) يقول الشيخ عثمان الخميس: «فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ، وَلَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بالْإِمَامَةِ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا مِنْ بَعِيدٍ» «حقبة من التاريخ» (ص357).
([3]) لسان العرب (11/610) وفيه: «قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الْفَرْقُ بَيْنَ المُمَاثَلَة والمُساواة أَن المُساواة تَكُونُ بَيْنَ المختلِفين فِي الجِنْس والمتَّفقين؛ لأَن التَّساوِي هُوَ التكافُؤُ فِي الْمِقْدار لَا يَزِيدُ وَلَا ينقُص، وأَما الْمُمَاثَلَة فَلَا تَكُونُ إِلا فِي الْمُتَّفِقِينَ».
([4]) معجم الفروق اللغوية (ص494).
([5]) لسان العرب، ابن منظور (١١/٦١٠).
([6]) «منهاج السنة النبوية» (7/125- 126).
([7]) حقائق التأويل، الشريف الرضى (ص 113- 114).
([8]) «منهاج السنة النبوية» (7/123- 125).
([9]) «عقائد الإمامية» الزنجاني (ص85).
([10]) «مفاهيم القرآن» (العدل والإمامةِ) جعفر السبحاني (10/224 -225) وكلام السبحاني في التعبير عن النفس بالإفراد ودخول الأبناء والنساء فيه، يتفق مع كلام المرتضى وابن تيمية من بعض الوجوه، فتأمل.