هذا التأصيل والتقعيد من الحلي باطل من وجوه:
فلا علاقة لها بأئمة الشيعة المزعومين لا من قريب ولا من بعيد، إنما تتكلم عن كل من كان له ولاية أمر على المسلمين، سواء كانت ولاية عامة أو خاصة، وقد اعترف بهذا علماء الشيعة أنفسهم:
قال محمد آصف محسني: «فالمناسب أن المراد بـ(أُولِي الْأَمْرِ) المفروضين في حضور الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وحياته، وفي إرجاع التنازع إلى خصوص الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ومن فوض رسول الله إليهم منصبًا ومقامًا لإدارة الناس، وإصلاح الأمور، وقيادة الجيوش والحروب، فكل من ثبتت ولايته شرعًا على المسلمين، سواء كانت ولاية عامة أو خاصة، على جميع المسلمين أو بعضهم، فيجب إطاعتهم على المُوَلَّى عليهم، وأما أوصاف هؤلاء أولي الأمر فلا بد أن يؤخذ من أدلة أخرى، وليست الآية في مقام بيانها».([1])
إذًا فالمراد من الآية كل من كان له ولاية عامة أو خاصة، كقادة الجند والألْوية التي كان يبعثها رسولُ الله H للحروب، وكذلك كل من تولى أمور المسلمين في زمانه أو بعد ذلك، فما شأن هذا بالإمامة التي يعتقد بها الإمامية؟
حتى الروايات الشيعية التي وردت في تعيين أولي الأمر بالأئمة ففاسدة لا تصح لا نقلًا ولا معنىً في تأويل الآيات التي يستدلون بها، حتى قال محمد آصف محسني: «في نزول آية [ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ] {المائدة:55} في شأنه (ع)، ليست في الباب رواية معتبرة سندًا من طريقنا».([2])
ولو سلمنا جدلًا بفرضية ثبوت الموروث الروائي وصحته في جعل الأئمة أولي الأمر، فهي ليست من باب الحصر، وإنما من باب التفسير بالمثال، أو التفسير بالفرد البارز، وليس حصرًا لولاية الأمر فيهم دون غيرهم، وبهذا اعترف علماء الإمامية.
قال كاظم الحائري: «فإنَّ هذا اللحن -وهو التفسير بفرد بارز- شائعٌ في الروايات الواردة في تفسير القرآن من قبيل ما ورد من تفسير الصادقين في قوله تعالى: [ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ] {التوبة:119} بالأئمة Q، وما ورد من تفسير أولي الأمر في قوله تعالى: [ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ] {النساء:59} بعليٍّ والحسن والحسين Q».([3])
فعلى هذا الخبر المذكور في تفسير أولي الأمر بعلي والحسن والحسين، لو قلنا: إنه للحصر لمنَعَنَا بذلك دخول تسعة منهم في ولاية الأمر؛ وذلك لعدم النص على ذلك، فضلًا عن اعتبار هذا التفسير من المعصوم حصرًا، فيكون ذلك من دواعي الإشكال عليهم بأنهم أدخلوا في النص ما ليس منه بلا دليل نصي.
ولو قالت الإمامية: إنه ليس بحصر على هؤلاء الثلاثة، قلنا: إذًا فأنتم مُقِرُّون أنه ليس على سبيل الحصر، وأنه على سبيل المثال أو الفرد البارز، كما قال الحائري، فيلزمكم طردُ القول فيه، فيكون التفسير على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، فيدخل بذلك غير الأئمة في أولي الأمر من نفس باب دخول غير هؤلاء الثلاثة في المراد بهم، فجميعهم يتَّحِدُون في المدخل.
وهذه من العجائب فإن علماء الإمامية قد جعلوا مصداقَ هذه الآية في زمن الغيبة الفقهاء والمراجع، أو مطلق الحكام الذين توفرت فيهم الشرائط الشرعية!
قال محمد تقي المدرسي: «وهذه القيمة يحققها سلطان الله في الأرض المتمثل في قيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأولي الأمر من بعده الذين يجسدون رسالته، وقد كانوا هم أهل بيته، أما الآن فهم حملة رسالة الله في الأرض بكل معنى الكلمة».([4])
فلو كان المعنى من الآية هو الحصر في الأئمة، فيكون إدخالُ العلماء والفقهاء والحكام الذين انطبقت عليهم الشروط باطلًا، وعمل الإمامية على تصحيح هذا، فإما أنهم يخالفوا ما أصَّلُوه، أو أنهم لا يعتقدون صحة ما نَظَّرُوه فخالفوه واقعًا عمليًّا مع إقرارهم على مخالفته نظريًّا، وهذا واضح جلي في كلام المدرسي، وزاده وضوحًا بقوله: «إن أولي الأمر هم الامتداد الطبيعي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أهل بيته Q من بعده، والعلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، الأكفاء على القيام بأمره، الصابرون المتقون، وبالتالي هم أكثر الناس طاعة لله، وأقربهم إلى نهج رسوله، ويتحقق اليوم في حملة رسالة الله في الأرض أنَّى كانوا».([5])
ولم ينفرد المدرسي بهذا القول، بل شاركه بنظيره حسين علي المنتظري فقال: «وقد استظهرنا في تفسير قوله تعالى: [ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ] {النساء:59} شمول الآية بعمومها لكل من صار وليَّ الأمر عن حق -وإن كان بالانتخاب- إذا كان واجدًا للشرائط، وكان انتخابه على أساس صحيح».([6])
فإذا كان الأمرُ راجعًا إلى اجتهاد علماء الإمامية واستظهارهم كما مضى، فبذلك يصير كلام محسني من توهين هذه الأخبار وتضعيفها صحيحًا لا شك، كما أنه لا يشك عاقل آنذاك أن هذا يهدم القول باختصاص الآية بالأئمة، فضلًا عن دلالتها على عصمتهم؛ لشمولها غيرَهم من الفقهاء أو الحكام.
إذا كانت الآية قد جعلت الطاعة مطلقةً لأولي الأمر كما زعمت الإمامية -وهم الأئمة عند طائفة منهم- فلماذا لم يُذكرْ فيها وجوبُ الرجوع إليهم حال التنازع؛ حيث قال تعالى: [ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ] {النساء:59}؟!
وللجواب عن هذا الإشكال حاول علماء الإمامية مجموعة من المسالك وكلُّها فيها نظر، منها:
أي أن الباري سبحانه قد حذف ذكر أولي الأمر، اعتمادًا على قرينة ذكرهم في بداية الآية، فقال محمد تقي الحكيم: «يبقى الإشكال الثالث، وهو عدم ذكره لأولي الأمر في وجوب الرد إليهم عند التنازع، بل اقتصر في الذكر على خصوص الله والرسول، وهذا الإشكال أمره سهل؛ لجواز الحذف اعتمادًا على قرينة ذكرهم سابقًا، وقد سبق في صدر الآية أن ساوى بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة».([7])
والجواب عن هذا نقول: إن هذا الجواب غيرُ تامٍّ؛ لوجهين:
الأول: أن الحذف خلافُ الأصل، ويحتاج إلى قرينة تدل على ذلك، والقرينة التي استدل بها المدرسي هي محل النزاع، فهو يستشهد بمحل النزاع للدلالة على محل النزاع! فهو استدلال دائري فاسد.
الثاني: إن كان حذفُ (أولي الأمر) اعتمادًا على قرينة ذكرهم سابقًا، فلماذا لم يكن نظيره في شأن رسول الله H؟ فقد أعاد ذكره في وجوب ردِّ التنازع إليه مع ذكره سابقًا، وعليه فإن إفراد الله ورسوله قرينة قوية على عدم إرادة دخول أولي الأمر في الحكم.
قالوا: إن الردَّ لأولي الأمر، وإن لم يذكر في هذه الآية، لكنه ورد في آية أخرى، وهي قوله تعالى: [ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ] {النساء:83} وعليه يقول محمد تقي الحكيم: «ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الآية الثانية: [ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ] {النساء:83}».([8])
والجواب: أن هذه الآية لا تدل على المطلوب.
فهذه الآيةُ بعيدةٌ عن مقام الاستشهاد؛ إذ لا دلالة فيها على وجوب التحاكم وردِّ النزاع إلى أولي الأمر -بمعنى الأئمة- على الإطلاق؛ لاختلاف الأمر المردود في الآيتين، فالأولى فيها الردُّ لأمرٍ شرعيٍّ لمعرفة الحكم الشرعي فيه، فكان المناسب أن يكون إلى الله والرسول H للحكم فيه من جهة الحل والحرمة، وأما هذه الآية فالأمر الذي يُرَدُّ فيه هو أمر دنيوي لا شرعي؛ لذلك كان من المناسب عدم ذكر الرد إلى الله سبحانه وتعالى.
قال الطباطبائي: «قوله تعالى: [ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ] {النساء:83} لم يذكر ها هنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله: [ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ] {النساء:59}؛ لأن الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله، وأما الرد المذكور ها هنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، ولا معنى لرده إلى الله وكتابه، بل الصنع فيه للرسول ولأولي الأمر منهم، لو رد إليهم لأمكنهم أن يستنْبِطُوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه، وصدقه أو كذبه».([9])
فظهر من هذا أن آية أولي الأمر تتعلق بردِّ الحكم الشرعي المتنازع فيه، وهذا يكون لله ورسوله، لا صنع لغيرهما فيه، أما آيةُ النساء فهي تتعلق بالأخبار الشائعة، والنوازل الحادثة بالنَّاس من أمور الأمن والخوف، وهذه يكون فيها المردُّ لأولي الأمر، المتولِّين لأمور الناس؛ لأنهم أعلم بمصالح رعاياهم.
3. ادعاء تحريف الآية.
وبهذا نطق علماء الإمامية، وهو ملجأهم حين لا يجدون في دعواهم ملجأً يخدم ما يعتقدونه، فأيسر طريق يسلكونه هو الطعن في الكتاب الحكيم.
فروى القمي بسنده عن حريز، عن أبي عبد الله S قال: «نزلت (فإن تنازعتم في شيء فأرجعوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم)».([10])
وهذه الآية كما لا يخفى على أحد قط لا وجود لها في الكتاب العزيز، قال المجلسي معلقًا على الخبر: «بيان: يدل على أن في مصحفهم: (فَأَرْجِعُوهُ) مكان (فَرُدُّوهُ) ويحتمل أن يكون تفسيرًا له، ويدل على أنه كان فيه قول: (وإلى أولي الأمر منكم) فيدل على أنه لا يدخل أولو الأمر في المخاطبين بقوله: [ﰀ ﰁ ] كما زعمه المفسرون من المخالفين».([11])
فهذا هو المعنى الذي اعتمده المجلسي، أنه كان على التأويل لا التنزيل، ونحن لا ندري على وجه الحقيقة كيف احتمل المجلسي هذا الوجه مع صراحة اللفظة في الخبر بقول الإمام: «نزلت»؟!
وعلى الرغم من هذا تجد المجلسي يعارض نفسَه عند تعليقه على خبر بريدٍ العجلي الذي يذكر فيه تحريف نفس الآية، لكن بلفظ مغاير للفظ القمي، فيقر المجلسي في هذا الخبر التحريف كما سيظهر.
فالخبر ساقه الكليني بسنده، عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ S عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ ذِكْرُهُ: [ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ] {النساء:58} فَقَالَ: إِيَّانَا عَنَى، أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَوَّلُ إِلَى الْإِمَامِ الَّذِي بَعْدَهُ الْكُتُبَ وَالْعِلْمَ وَالسِّلَاحَ [ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ] {النساء:58} الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ؛ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: [ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ] {النساء:59} إِيَّانَا عَنى خَاصَّةً؛ أَمَرَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِطَاعَتِنَا (فَإِنْ خِفْتُمْ تَنَازُعًا فِي أَمْرٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) كَذَا نَزَلَتْ».([12])
فعقب المجلسي عليه قائلًا: «وأما قوله: [ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ] فالظاهر أنه كان في قرآنهم Q هكذا فأسقطه عثمان؛ لقوله S: (كذا نزلت)، ويحتمل أن يكون تفسيرًا للرد إلى الله وإلى أولي الأمر».([13])
والاحتمال الأول هو الذي استظهره المجلسي ومال إليه، بدليل قوله في موضع آخر: «قوله S: (فإن خفتم تنازعًا) ظاهره أنها هكذا نزلت، ويحتمل أن يكون الغرض تفسير الآية بأنه ليس المراد تنازع الرعية وأولي الأمر، كما ذهب إليه أكثر المفسرين... وظاهر كثير من الأخبار أن قوله: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) كان مثبتًا ها هنا فأسقط».([14])
اعتراف أحد أعلام الإمامية وأساطينهم أن الاستدلال بهذه الآية ليس من أدلة أصحابه من الإمامية، وأن الآية لا دلالة فيها على الإمامة أو العصمة، وأن الاستدلال بها تكثير بما لا تتم دلالته ولا معنى له.
قال الشريف المرتضى: «وما نعرف أحدًا من أصحابنا اعتمدها فيه، وإنما استدل بها ابن الراوندي في كتاب «الإمامة» على أن الأئمة يجب أن يكونوا معصومين، منصوصًا على أعيانهم، والآية غير دالة على هذا المعنى أيضًا، والتكثير بما لا تتم دلالته لا معنى له، فإن فيما تثبت به الحجةُ مندوحةً وكفايةً بحمدِ الله ومنِّه».([15])
_ _ _
([1]) «مشرعة بحار الأنوار» محمد آصف محسني (1/429).
([2]) «مشرعة بحار الأنوار» محمد آصف محسني (2/85).
والتعقيب في هامش الكتاب فيه: «ما دل على الانحصار غير معتبر السند، وإن صح سنده من تأويله، فإن فرض وجود أولي الأمر في حياة الرسول ينفي فرض الانحصار بالأئمة Q».
([3]) «فقه العقود» کاظم الحائري (1/209).
([4]) «من هدى القرآن» محمد تقي المدرسي (2/71).
([6]) «دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية» حسين علي المنتظري (1/575).
([7]) «الأصول العامة للفقه المقارن» محمد تقي الحكيم (ص163).
([9]) «الميزان في تفسير القرآن» محمد حسين الطباطبائي (5/22).
([10]) «تفسير القمي» علي بن إبراهيم القمي (1/141).
([11]) «بحار الأنوار» المجلسي (23/286).
([12]) «الكافي» الكليني (1/688).
([13]) «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» المجلسي (3/181).
([14]) المصدر السابق (26/77).
([15]) «الشافي في الإمامة» الشريف المرتضى (2/257).