فقد ورد في كتب الإمامية بيان الوسيلة والتوسل الشرعي على لسان عليِّ ابن أبي طالب I؛ حيث قال: «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِه الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى الله D؛ الإِيمَانُ بِه وبِرَسُولِه والْجِهَادُ فِي سَبِيلِه، فَإِنَّه ذِرْوَةُ الإِسْلَامِ، وكَلِمَةُ الإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ.... إلخ».([1])
إذًا فالمعنى المذكور في التوسل إلى الله سبحانه وتعالى هو بالأعمال الصالحة، وهو عين ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة والمنقول عنهم، وقال به بعض علماء الإمامية كما سيأتي بيانه.
حاول بعضهم تأويل هذا الكلام، حتى لا يتعارض مع ما يقولون به من جواز التوسل بالأئمة:
جاء في «موسوعة الأسئلة العقائدية»: «ثمَّ إنَّ الإمام أمير المؤمنين S لم يحصر الوسيلة بالعمل الصالح، وإنَّما قال: أفضل ما توسَّل به المتوسِّلون إلى الله D كذا وكذا، وذكر مجموعة من الأعمال الصالحة، وهذا معناه: توجد وسائل فاضلة، ولكن هذا أفضل».([2])
والجواب: أن هذا المعنى أنتم لا تسلمون به؛ لأنكم ترون الوسيلةَ بأهل البيت أفضلَ أنواع التوسل وليست مفضولة، فكيف يجعل الإمام الفاضل مفضولًا؟
قال مثياق الحلي: «والتوسل بهم صلوات الله عليهم هو نوع من أنواع الوسيلة الصالحة التي حث القرآن الكريم على التمسك بها، بل أفضلها».([3])
وهذه لا شك مخالفة ظاهرة وواضحة لكلام علي I، وبه يثبت كذب ادعائهم جواز التوسل بالأئمة بدليل الآية فتأمل.
1. إن سلمنا لكم جدلًا بهذا، وأن أفضل التوسل هو التوسل بهم، فلماذا لا يكون التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأفضل فيما ادعيتم؟! أم أنه هنا هو المفضول وهم الأفضل؟!
2. ولو سلمنا لكم كذلك بهذا، فهل النبي H قد توسل إلى ربه تبارك وتعالى بآل بيته –كونكم أقررتم أنه هو أفضل التوسل- أم أنه H ترك الأفضل ولم يفعله ولم يتوسل إلى ربه بهم؟ بل هل توسل إلى ربه سبحانه وتعالى بأحدٍ من الأنبياء الأئمة كالخليل إبراهيم أو الكليم موسى R؟!
فإن قلتم: فعله، طالبناكم بالدليل، ودونكم وإياه خرْطُ القتاد، ولو جئتم بهذا المستحيل دللنا على بطلانه، فالنبي H هو أفضل الخلق، فهل يتوسل الأفضل بالمفضول إلى ربه؟!
وإن قلتم: لم يفعل، قلنا: قد اخترعتم إذًا دينًا ليس من دين الله في شيء، وبه يظهر بطلان قولكم واعتقادكم في هذا الباب.
3- ولو سلمنا لكم بذلك كذلك، فهل توسل أحد من الأئمة إلى ربه بنفسه، أو بذوات غيره من أقرانه؟! وكيف كانت وسيلتهم؟! إذ الآية عامة في طلب الوسيلة دون استثناء، أم تراهم ليسوا من عموم المؤمنين المخاطبين بالتوسل إلى الله سبحانه؟!
فإما أن تقولوا: إنهم لم يتوسلوا بأحد إلى ربهم وليس لهم وسيلة إليه سبحانه، فتكونون بذلك قد خالفتم تأصيلكم في مسألة الوسيلة، وبه تقرون على أنفسكم باختراع عبادة لا وجود لها، أو تذكرون لنا وسيلة الأئمة (الذات) التي توسلوا بها إلى ربهم.. وهيهات..
لفظة (التوسل) لفظةٌ عربيةٌ أصيلةٌ، وردت في القرآن والسنة، وكلام العرب شِعرًا ونثرُا، ومعناها: التقربُ إلى المطلوب، والتوصل إليه برغبة.
قال الراغب الأصفهاني: «الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة؛ لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: [ﯕ ﯖ ﯗ]، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى: مراعاة سبيلِهِ بالعمل والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله تعالى».([4])
ولو راجعنا كتبَ التفسير الشيعيَّة، لوجدناها تدور حول هذه المعاني، من تفسير الوسيلة بالقربات والطاعات والأعمال الصالحة التي يَتقرب بها العبدُ إلى ربِّه، قال الطبرسي: «فقال: [ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ] أي: اتقوا معاصيه واجتنبوها، [ﯕ ﯖ ﯗ] أي: اطلبوا إليه القربة بالطاعات، عن الحسن، ومجاهد، وعطاء، والسدي، وغيرهم، فكأنه قال: تقربوا إليه بما يرضيه من الطاعات».([5])
وقال أيضًا: «(الوَسِيلة): كل ما يُتَوَسَّلُ به إليه من الطاعات وترك المقبحات».([6])
وأفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه وتعالى هو دعاؤهم إياه، قال الله تبارك وتعالى: [ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ] {الإسراء: 56-57}.
فسمَّى الله تبارك وتعالى الدعاء وسيلة، ولم يجعل الوسيلة هي التقرب بالذوات.
واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكافرين، كما صرح به تعالى في قوله عنهم: [ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ] {الزمر:3}، وقوله: [ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ] {يونس:18}.
فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريق الموصلة إلى رضا الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله H، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل [ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ] {النساء:123}»([7])، والعلة التي قلتم بها في اتخاذكم آل بيت النبوة وسيلةً بينكم وبين الله هي نفس العلة التي اعتل بها المشركون في اتخاذهم آلهةً من دون الله، فنفس دعواهم هي عين دعواكم؛ إذ قالوا: [ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ] {الزمر:3}.
فما الفرق بين توسلكم واستغاثتكم بدون الله مع إقراركم بوجود الله، وبين توسل المشركين واستغاثتهم بدون الله مع إقرارهم بوجود الله مع اتحاد علتكم؟!
وقد بَيَّن رب العزة سبحانه وتعالى أنه لا واسطة بينه وبين مخلوقاته، فأمرهم إذا دعوه أن يدعوه مباشرة بغير واسطة بينهم وبينه، فقال سبحانه: [ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ] {غافر:60}.
بل وأكد سبحانه أنه يجيب دعاءهم بغير واسطة بينهم وبينه، فقال: [ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ] {البقرة:186}.
ثم بين لنا سبحانه وتعالى كيف ندعوه، وأمرنا به فقال: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ] {الأعراف:180}.
فالله قد دلنا على أفضل طريق لدعائه في آيات محكمات.
والأنبياء وهم القدوة لنا في كل القرآن كان دعاؤهم لله وحده، فهل نقتدي بهم أم لا؟ وقال الله عنهم: [ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ] {الأنعام:90}.
كل من دَعا من دون الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى فهو شرك، قال الله سبحانه وتعالى: [ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ] {فاطر: 13 -14}.
فكل من دعا من لا يملك ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى ففعله شرك، هكذا سماه الله D ووصفه.
ودعاء غير الله تعالى يدخل كذلك في الشرك من جهة كونه عبادة، قال الله تعالى: [ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ] {الجن:20} وقال سبحانه وتعالى: [ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ] {مريم: 48-49} ولم يستثنِ من ذلك أحدًا، لا ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، ولا من أهل البيت أو غيرهم.
خامسًا: عدم ورود النص على المعنى الشيعي.
هذه الآية نزلت على رسول الله H ثم قرئت على الصحابة، فلو كان الفهم الذي فهمتموه قد فهمه رسول الله H لبين لنا هذا التفسير، وإلا فسيكون رسول الله H قد قصر عن البيان، فإن الله جل في علاه أمرَه أمرًا حازمًا بقوله: [ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ] {النحل:44}، فلو كان الأمر على ما فهمتم لكان لزامًا وواجبًا وحتمًا على رسول الله أن يبين لنا هذا الأمر فيقول في قوله: [ﯕ ﯖ ﯗ ] أي: بذات آل البيت، لكن النبي H لم يقل ذلك.
وأيضًا لو فهم الصحابة هذا الفهم -كالحبر ابن عباس، أو الفقيه علي، أو الفاروق عمر، أو الصديق أبي بكر M- لنُقِلَ عن واحد منهم، ولو بسند ضعيف أنه قال به، أو فهم هذا الفهم.([8])
_ _ _
([1]) «نهج البلاغة» الشريف الرضي (ص163).
([2]) «موسوعة الأسئلة العقائديَّة» مركز الأبحاث العقائدية (3/213).
([3]) «قرة العين في صلاة الليل» ميثاق عباس الحلي (ص94).
([4]) «المفردات في غريب القرآن» الراغب الأصفهاني (ص871).
وقال الفيروزآبادي: «وَسلَ إلى الله تعالى توسيلًا: عمِل عملًا تقرب به إليه، كتوسل» «القاموس المحيط» الفيروزآبادي (ص1068)
وقال ابن فارس: «الوسيلة: الرغبة والطلب، يقال: وَسلَ إذا رغِب، والواسِلُ: الراغب إلى الله تعالى، وهو في قول لبيد:
أَرَى النَّاسَ لَا يَدْرُونَ مَا قدْرُ أَمْرِهِمْ
|
\
|
بَلَى، كُلُّ ذِي دِينٍ إِلَى اللهِ وَاسِلُ»
|
«معجم مقاييس اللغة» ابن فارس (6/110).
([5]) «مجمع البيان في تفسير القرآن» الطبرسي (3/327).
وقال الطوسي: «خاطب الله في هذه الآية المؤمنينَ وأمَرَهُم أن يتقوه، ومعناه: أن يتقوا معاصيه ويجتنبوها. ويبتغوا إليه معناه: يطلبون إليه الوسيلة، وهي: القربة في قول الحسن ومجاهد وقتادة وعطاء والسدي وابن زيد وعبد الله بن كثير وأبي وابل، وهي على وزن (فَعِيلَة) من قولهم: توسلت إليك أي: تقربت». «التبيان في تفسير القرآن» الطوسي (3/509- 510).
([6]) «تفسير جوامع الجامع» الطبرسي (1/496).
([7]) «أضواء البيان» محمد الأمين الشنقيطي (98/2).
([8]) «مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية» محمد حسن عبد الغفار (4/8).