استدلال الشيعة على ردة الصحابة

الشبهة:

استدل الشيعة بقوله تعالى: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ] {آل عمران:144} على ردة أصحاب النبي H.

زعمت الإمامية أن الله قد أخبر أن الصحابة سيرتدون بعد رسول الله H، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ] {آل عمران:144}.

قال البحراني: «اعلم أنَّه قد استفاضت الأخبار عن أهل العصمة Q بارتداد الصحابة بعد رحلته صلى الله عليه وآله من بين أظهرهم، وهو مصداق قوله سبحانه: [ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ]، ومن المعلوم أنَّه ليس منشأ ذلك الارتداد إلَّا العكوف على عِجْلِ السامريِّ، ونقض بيعة ذلك الوصيّ.

فمن الأخبار الواردة بذلك: ما رواه في «الكافي» بسنده إلى عبد الرحيم القصير قال: قلت لأبي جعفر S: إنَّ الناس يفزعون إذا قلنا: إنَّ الناس ارتدُّوا، فقال: يا عبد الرحيم، إنَّ الناس عادوا بعد ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أهلَ جاهليَّة، إنَّ الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخيرٍ، جعلوا يبايعون سعدًا وهم يرتجزون ارتجاز الجاهليَّة».([1])

 

([1]) «الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب باختصار» البحراني (1/202).

الرد علي الشبهة:

أولًا: الشيعة أولى بتلك التهمة من الصحابة.

إن أصدق من ينطبق عليه مفهوم هذه الآية هم الشيعة، وبرهان ذلك: أن الآية بيَّنت أن المخاطَبين كانوا يتوهَّمون التلازم بين بقاء الملَّة وبقاء رسولها، فيستدلُّ بدوام الملَّة على دوام رسولها، فإذا هلك رسول ملةٍ ظنُّوا انتهاء شرعه وإبطال اتّباعه، وهذا عين ما يعتقده الشيعة في رسول الله H عمليًّا والأئمة، وإلا فما الحاجة إلى اتباع النبي H عندهم وهم يعتقدون بوجوب وجود إمام له كل ما للنبي H بلا فرق واحد عمليًّا إلا مجرد لفظ النبوة خاليًا من كل معنى؟!

ولذلك يقول المجلسي: «ولا نعرف سببًا لعدم اتصافهم بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء S، ولا تصل عقولنا إلى فرق بَيِّن بيْن النبوة والإمامة»([1]).

وعليه: فالذي ألغى اتِّباع النبي H بعد موته هم الشيعة بتأصيلاتهم تلك، فإن كان مِن ردة فهي منهم ولهم، لا لأصحاب النبي H.

وإذا كان الصحابة قد ارتدوا بزعم الشيعة؛ فإن الله تعالى يكون قد أخلف وعده -وحاشاه سبحانه-؛ لأنه وعد أنه عند الردة يأتي بقوم ينصرون دينه، ووصفهم بسِتِّ صفات هي الغاية في المدح، قال تعالى: [ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ] {المائدة: 54-56}.

فلما ارتدت الأعراب والقبائل التي لم تعرف الإسلام، ولم تقاتل وتجاهد في سبيل الله بالمال والنفس كالمهاجرين والأنصار؛ أتى الله تعالى بهؤلاء الذين يحبهم ويحبونه وتحققت فيهم تلك الصفات، فردوا الناس إلى الحق بالحق كما وعد الله تعالى فكانوا هم المؤمنين وهم الغالبين؛ لأنهم هم من تولَّوا الله ورسوله والذين آمنوا، والشيعة هم مَن أيَّدوا المرتدين وكانوا على شريعتهم في تكفير أصحاب النبي H.

وبعد كل ذلك فلا مجال لما قالوه في الصحابة M، ويصدق على الشيعة قول القائل: «رمتني بدائها وانسلَّت».

ثانيًا: الواقع العملي للصحابة M يُكَذِّب دعوى الشيعة بردتهم.

إذا كانت الآية إخبارًا بردة أصحاب النبي H بعد وفاته على حد زعم الإمامية، فهذا أدعى لأن يتركوا الإسلام بالكلية حال حياته H؛ إذ لا فائدة من الجهاد وجهد النفس والمال في العبادات وهم يعلمون المآل في النهاية وهو النار!

وفي سبب نزول الآية ما يدحض هذه الدعوى بالكلية، فقد روى البيهقي في «الدلائل» عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ! أَشَعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا H قَدْ قُتِلَ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ، فَنَزَلَ: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ] {آل عمران:144}»([2]).

فليس خبر الإمامية في ردة أصحاب النبي H أولى من قبول خبر البيهقي V في ثباتهم رضوان الله عليهم على دينهم وقتالهم وجهادهم في سبيل الله، فالخبر فيه أنهم ظلوا على العهد أوفياء يُقاتلون على ما عاشوا عليه وينصرون دين الله تبارك وتعالى، فهذا الأنصاري يتشحط في دمائه ثم يقول: فقاتلوا عن دينكم، ثم يأتي بعد ذلك متهوك متكئ على أريكته يقول: قد ارتد أصحابه بعد موته!

ثالثًا: الآية ليس فيها ما يفيد هذا المعنى المزعوم.

الآية ليس فيها الإخبار المزعوم بأن أصحابه رضوان الله عليهم قد ارتدوا بعد موته S! بل غاية ما في الآية أن الله تبارك وتعالى يستنكر منهم أن يرتدوا، وليس إخبارًا بأنهم قد ارتدوا، فالسؤال الوارد في الآية هو سؤال استنكاري وليس تقريريًّا، فقوله تبارك وتعالى: [ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ] {آل عمران:144} ليس فيه أدنى نوع من الإخبار بأنهم يرتدون، وإنما هو الاستنكار أن يقع ذلك منهم رضوان الله عليهم، ثم بين سبحانه وتعالى أن هذه الردة التي استنكرها وإن وقعت؛ فإن ذلك لن يضره سبحانه وتعالى شيئًا بقوله: [ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ] {آل عمران:144}.

قال الرازي في «مفاتيح الغيب»: «وَمَعنَى الْآيَةِ: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ] {آل عمران:144} فَسَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا، وَكَمَا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ بَقُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِهِمْ بَعْدَ خُلُوِّهِمْ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ بَعْدَ خُلُوِّهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ، لَا وُجُودُهُمْ بَينَ أَظْهُرِ قَوْمِهِمْ أَبَدًا».([3])

ولا شك أن الصحابة M كانوا أفضلَ أصحابِ نبيٍّ على الإطلاق، فلو ثبت أصحاب الأنبياء من قبلهم -كما تخبر الآية- للزم من ذلك من بابٍ أولى أن يكونوا أكثر ثباتًا.

رابعًا: سياق الآيات يدل على تثبيت الله لهم وشحذ هممهم.

فسياق الآيات فيه خطاب من الله D إلى أصحاب النبي H الذين لم يكونوا معه في يوم بدر، فتمنوا يومًا كيوم بدر ليقاتلوا في سبيل الله قتالًا يُبلون فيه بلاءً حسنًا كما فعل أصحاب بدر، بل كانوا يتمنون الموت فيه شهداء، وهو قوله تبارك وتعالى: [ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ] {آل عمران:143}. 

فلما كان يوم أُحُد استشارهم النبي H في الخروج لمقاتلة العدو أو البقاء في المدينة، فأشاروا عليه بالبقاء فيها وألَّا يخرجوا للقتال، فعاتبهم الله D على ذلك، ثم عاتبهم على ما أصابهم من هلَع وجزع يوم أحد في القتال وانهزام بعضهم وانصرافه من أمام عدوه، وهم الذين تمنوه من قبل، فلما جاءهم ما تمنوا إذا بهم ينهزمون أمام عدوهم وينصرفون عن القتال! ثم جاءهم الله تبارك وتعالى بمَثَلٍ ضربه لهم، وهو موت النبي H فقال: أفرأيتم إن مات أو قُتل، أكنتم ترتدون بعده؟! فمن يفعل هذا فإنه لن يضر الله شيئًا، وأخبرهم أن النبي H رسول كبقية الرسل إذا انقضى أجله فسيموت حتمًا لا محالة، وكذلك أنتم، فلستم أكرم على الله منه، وهو قوله تبارك وتعالى: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ] {آل عمران:144}.

ثم بَيَّن لهم أن الموت محتوم، فمن جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم أختها، ثم ذَكَّرَهم بالذين قاتلوا إلى جانب الأنبياء من قبل، وكيف كانوا على الصبر والشدة، وأن هذا الصبر هو الذي يحبه الله تبارك وتعالى منهم، وهو قوله تبارك وتعالى: [ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ] { آل عمران: 145- 146}.

قال ابن القيم V: «ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلًا لَا بُدَّ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ، ثُمَّ تَلْحَقَ بِهِ، فَيَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا مَوْرِدًا وَاحِدًا، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ مَصَادِرَ شَتَّى، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.

ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ كَثِيرُونَ، فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا، وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ، وَلَا ضَعُفُوا وَلَا اسْتَكَانُوا، بَلْ تَلَقَّوُا الشَّهَادَةَ بِالْقُوَّةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْإِقْدَامِ، فَلَمْ يُسْتَشْهُدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أَذِلَّةً، بَلِ اسْتُشْهِدُوا أَعِزَّةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا».([4])

فلما تبين لهم رضوان الله عليهم بعد هذا النصح والتقريع من الله سبحانه وتعالى طلبوا المغفرة من ذنب الانهزام وعدم الصبر أمام الكافرين، وسألوه سبحانه الثبات والنصرة، وهو قوله تعالى: [ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ] {آل عمران: 147 -148}

فإن كانوا قد ارتدوا، فماذا تفعلون في قوله تبارك وتعالى لهم: [ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ]؟! أهذا هو جزاء المرتدين عند الله تبارك وتعالى؟!

خامسًا: مدائح أصحاب النبي H لقوتهم في كلام الشيعة.

جعل الخُوئي من أدلة حفظ القرآن بعد وفاة النبي S ما كان عليه الصحابة من جَلَدٍ وقوة في الحق، يقول الخوئي: «واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (ص) وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظًا عندهم، جمعًا أو متفرقًا، حفظًا في الصدور، أو تدوينًا في القراطيس، وقد اهتموا بحفظ أشعار الجاهلية وخطبها، فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز، الذي عرَّضوا أنفسهم للقتل في دعوته، وإعلان أحكامه، وهجروا في سبيله أوطانهم، وبذلوا أموالهم، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ؟ وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن، حتى يضيع بين الناس؟».([5])

فإن كانت هذه هي أوصاف المرتدين عند الإمامية، فما عساها تكون أوصاف المؤمنين؟!

ومن شدتهم وجلدهم في الحق وثباتهم عليه جعلهم الله تبارك وتعالى أئمة في الدين متبوعين، ونترك المجالَ لعلامة الشِّيعة الطباطبائي وهو يتكلم عن قول الله تعالى: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ] {التوبة:100}؛ فقال: «في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، والسابقون الأولون من الأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والصنفان الأولان فاقدان لوصف التبعية، وإنما هما إمامان متبوعان لغيرهما، والصنف الثالث ليس متبوعًا إلا بالقياس».([6])

ثم انظُرْ إلى مدح علِيٍّ I لأصحاب النبي H؛ الذين قتلوا الآباء والأبناء وفارقوا الأهل والعشيرة وتركوا الملذات والضيعات في سبيل الله؛ حيث قال: «وَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، وَمُضِيًّا عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْرًا عَلى مَضَضِ الألَمِ، وَجِدًّا عَلى جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَالآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، ومَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَينَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِيًا جِرَانَهُ وَمُتَبَوِّئًا أَوْطَانَهُ، وَلَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ، مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ، وَأَيْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَمًا، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَمًا».([7])

فعليٌّ في زمان خلافته يمدح الصحابة، والشيعة يكفِّرون من يمدحه علي!

سادسًا: المعارضة في تجريح الإمامية لمن عَدَّلَه الله وترضَّى عنه.

كيف يُجَوِّز الإمامية تغيير مدح الله لأصحاب النبي H؟ فمن المفارقات العجيبة أن يطعنوا فيمن ترضى عنه رب العالمين ويُجَوِّزوا عليه كل كفر وردة، في حين أن من ترضى عنه إمام عندهم أو حتى عالم فإنه بذلك يكون ثقة، ولا يمكن أن يطعنوا فيه، وإن فعل ما فعل.

يقول آيتهم العظمى مسلم الداوري: «ما يقال عند ذكر الأجلاء في عصرنا: (قدَّس الله سره) أو (أعلى الله مقامه)، ولا إشكال في دلالته على الجلالة والعظمة فوق الوثاقة... فإذا صدر الترضي من الإمام (ع) فلا شك في دلالته على التوثيق، وكذلك الحال في صدوره من الأعلام العارفين بدليل الألفاظ في حق معاصريهم، والظاهر أنه يعد توثيقًا، ولا سيما مع الإكثار منه، فنفس الترضي علامة على التوثيق، والإكثار منه تأكيد له، وعلى فرض عدم دلالته على التوثيق صراحة، فلا أقل هو كاشف عن الحسن».([8])

فعند الإمامية إذا ترضى عالم من علمائهم على أحد رفعوه إلى السماء، وأما إذا ترضى الله على أناس فإنهم يرتدون وينافقون ويكفرون!

فمِن ترضِّي رب العالمين على الصحابة قوله تعالى: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ] {التوبة:100}. 

وقوله سبحانه: [ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ] {الفتح:18}.

كما مدحهم بقوله: [ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ] { الحشر: 8-10}.

فأين في الإسلام أن الشيعي إذا مدح إنسانًا فهو الممدوح، وإذا مدحه الله فهو المذموم؟!

سابعًا: استدلال الصحابة بهذه الآية لتثبيت قلوب الناس.

هذه الآية من الأدلة على مدح الصحابة، سيما أبا بكر الصديق الذي أجمعت الشيعة على ردته بعد وفاة النبي H، قال القرطبي في تفسيره: «هَذِهِ الْآيَةُ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى شَجَاعَةِ الصِّدِّيقِ وَجرْأَتِهِ، فَإِنَّ الشَّجَاعَةَ وَالْجرْأَةَ حَدُّهُمَا ثُبُوتُ الْقَلْبِ عِنْدَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ، وَلَا مُصِيبَةَ أَعْظَمُ مِنْ مَوْتِ النَّبِيِّ H كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ، فَظَهَرَتْ عِنْدَهُ شَجَاعَتُهُ وَعِلْمُهُ.

قَالَ النَّاسُ: لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللهِ H، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَخَرِسَ عُثْمَانُ، وَاسْتَخْفَى عَلِيٌّ، وَاضْطَرَبَ الْأَمْرُ فَكَشَفَهُ الصِّدِّيقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ حِينَ قُدُومِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ... الْحَدِيثُ كَذَا فِي الْبُخَارِيِّ.

وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ H وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ امْرَأَتِهِ ابنَةِ خَارِجَةَ بِالْعَوَالِي، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: لَمْ يَمُتِ النَّبِيُّ H إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ الْوَحْيِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَبَّلَ بَينَ عَينَيْهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ أَنْ يُمِيتَكَ مَرَّتَيْنِ، قَدْ وَاللهِ مَاتَ رَسُولُ اللهِ H، وَعُمْرُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ يَقُولُ: وَاللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ H، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أُنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَثِيرٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ: [ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ] {آل عمران:144}، قَالَ عُمَرُ: فَلَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ، وَرَجَعَ عَنْ مَقَالَتِهِ الَّتِي قَالَهَا»([9])

ونفى علي بن أبي طالب I عن الصحابة الانقلاب لما قرأ هذه الآية، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقُولُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ H: «إِنَّ اللهَ D يَقُولُ: [ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ] {آل عمران:144} وَاللهِ لَا نَنْقَلِبُ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ».([10])

والتعبير بالشاكرين في ختام الآية مع مطابقة ذلك مع تأييد الله لأصحاب النبي H بعد موته ونصرته لهم على جميع أعدائهم، وبنيانهم دولة يهابها جميع الناس، وتحقيق الله تعالى على أيديهم ما وعد من نصرة الإسلام والمسلمين وتمكين في الأرض، وفتح البلدان التي بشر النبي H بها أنها ستفتح على المسلمين، ومن قارن هذا وغيره مع قوله تعالى: [ﮎ ﮏ ﮐ] يعلم أن الشاكرين في الآية هم أصحاب النبي H الذين يحكم الشيعة بكفرهم!

وعبَّرَ هنا بالشاكرين ولم يعبر بالصابرين، مع أن الصبر في هذا الموطن أظهر، وذلك لأن الشكر في هذا المقام هو أسمى درجات الصبر، فهؤلاء المؤمنون الصادقون الذين وقفوا إلى جانب النبي H في ساعة العسرة، لم يكتفوا بتحمل البلاء معه فقط، بل تجاوزوا حدود الصبر إلى حدود الشكر على هذه الشدائد التي ميزت الخبيث من الطيب، فالشكر هنا صبر وزيادة.([11])

تاسعًا: متفرقات
(أ) إذا ارتد الصحابة فكيف يصاهرهم أمير المؤمنين؟

يعتقد الإمامية أن عليًّا I إمام معصوم، ثم نجده باعترافهم- يزوج ابنته أم كلثوم «شقيقة الحسن والحسين» من عمر بن الخطاب I!! فيلزم الشيعة أحد أمرين أحلاهما مُرٌّ:

الأول: أن عليًّا I غير معصوم؛ لأنه زوج ابنته من مرتد! وهذا ما يناقض أساسات المذهب، بل يترتب عليه أن غيره من الأئمة غير معصومين.

الثاني: أن عمر I مسلمٌ! قد ارتضى علي I مصاهرته، وهذان جوابان محيّران.

(ب) البيعة للكافرين تستلزم الكفر.

يزعم الإمامية أن أبا بكر وعمر L كانا كافرَيْن، ثم نجد أن عليًّا I وهو الإمام المعصوم وصاحب الولاية التكوينية عندهم قد بايعهما الواحد تلو الآخر، ولم يخرج عليهما، وهذا يلزم منه أن عليًّا غير معصوم؛ حيث إنه بايع كافرين ناصبَيْن ظالـمَيْن إقرارًا منه لهما، وهذا خارم للعصمة والدين، وعون للظالم على ظلمه، ومثله لا يقع من معصومٍ قطُّ.

فإن قلتم: بايع قهرًا، فأين الولاية التكوينية لديه؟ وإن قلتم: بايع حفاظًا على بيضة الإسلام، فأي إسلام وهم مرتدون لديكم؟

فيكون الشيعة قد خالفوا إمامهم فِي تكفيرهما وسبهما ولعنهما وعدم الرضا بخلافتهما! فنقع في حيرة من أمرنا: إما أن نسلك سبيل أبي الحسن رضوان الله عليه، أو نسلك سبيل شيعته الْمُبَدِّلين الْمُغَيِّريِن؟!

(ج) الأمر بالاتباع دليل على الهدى والرضى. 

اتباعُ الصحابة دليلُ هدًى وتوفيقٍ من الله سبحانه، قال تعالى: [ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ] {البقرة:137} فهل يأمرنا الله باتباع المرتدين؟

(د) تعديل الله لهم وتوبتهم عليهم من كل ذنب.

- قال الله تعالى: [ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ] {التوبة:117}.

- وقال تعالى: [ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ] {الفتح:18}.

فهل مَن تاب الله عليه وعلى ما في قلبه من خير وأنزل عليه السكينة يرتد بعد كل هذا الثناء.

(هـ) إذا كانت الردة عدم النصرة، فالشيعة أولى بالردة وأحق.

إذا كان سبب ردة الصحابة عندكم عدم مبايعه علي I وتزعمون أنهم بايعوه يوم الغدير ثم نكثوا بعد ذلك.

فالسؤال الآن: هل الإمام الغائب يعلم أنه لو خرج فستنصرونه؟!

لو قلتم: نعم، فقد اتهمتموه بالتخلي عنكم رغم علمه بنصركم له! وهذا إقرار منكم بردتكم وأثبتم على أنفسكم الردة نفسها التي رميتم بها أصحاب النبي H.

ولو قلتم: لا يعلم، فقد اتهمتموه بالجهل، وهو معارض لأصولكم.

(و) عدم الهجرة دليل إما على الرضى أو الردة.

كيف رضي علي I أن يعيش بين الكفار والمنافقين ويرضى بالذل ولا يهاجر كما فعل النبي H والله تعالى: [ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ] {النساء:97}.

فإن قلتم: هو وبنوه قد دخلوا في قوله تعالى: [ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ] {النساء: 98- 99}.

فقد عارضتم أصولكم في الولاية التكوينية التي للأئمة، التي تخضع لها ذرات الكون! وأقررتم أن أئمتكم قد ارتكبوا ذنبًا يفتقرون فيه إلى عفو الله عنهم ومغفرته لهم، وهو معارض كذلك لأصولكم في عصمتهم.

 

_ _ _

 

 

([1]) «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» المجلسي (2/290).

([2]) «دلائل النبوة» البيهقي (3/249).

([3]) «تفسير الرازي» (9/376)، وقد نقله عن الزمخشري، «الكشاف» (1/423).

([4]) «زاد المعاد في هدي خير العباد» ط. الرسالة (3/201- 202).

([5]) «البيان في تفسير القرآن» السيد أبو القاسم الخوئي (1/216).

([6]) «الميزان في تفسير القرآن» الطباطبائي (9/372).

([7]) «نهج البلاغة» ت. الحسون، الشريف الرضي (1/116).

([8]) «أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق» تقريرًا لأبحاث الشيخ مسلم الداوري، بقلم محمد علي المعلم (٢/٢٦٢).

([9]) «تفسير القرطبي» (4/222- 223).

([10])   «فضائل الصحابة» أحمد بن حنبل (2/652)، «المعجم الكبير» الطبراني (1/107)، «المستدرك على الصحيحين» الحاكم، ط. العلمية (3/136).

([11])   «التفسير الوسيط» طنطاوي (2/284).