استدلال الشيعة بقوله تعالى: [ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ] {الرعد:39} على عقيدة البَدَاء

الشبهة:

اتهم الشيعةُ ربَّ العالمين سبحانه وتعالى بأنه يجهل بعض الأمور، واستدلوا على هذه العقيدة بقوله تعالى: [ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ] {الرعد:39}. 

فأخرج الكليني([1]) في كافيه بسنده عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَحَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ S قَالَ فِي هذِهِ الْآيَةِ: [ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ] قَالَ: « وَهَلْ يُمْحى إِلَّا مَا كَانَ ثَابِتًا؟ وَهَلْ يُثْبَتُ إِلَّا مَا لَمْ يَكُنْ؟».([2])

وعن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو جعفر وأبو عبد الله R: «يا أبا حمزة، إن حدثناك بأمر أنه يجيء من ها هنا فجاء من ها هنا، فإن الله يصنع ما يشاء، وإن حدثناك اليوم بحديث وحدثناك غدًا بخلافه فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت».([3])

ثم زاد الشيعة في الموروثِ الروائي وكلام علمائهم في مسألة البَدَاء واستفاضوا، فمِنْ جملة ما استدلت به في الموروث الروائي:

«ما عُبد الله بشيء مثل البداء»([4])، و«ما عُظِّم الله D بمثل البداء»([5])، و«لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه»([6])، و«ما بعث الله نبيًّا قط إلا بتحريم الخمر، وأن يقر لله بالبداء»([7])، وعن أبي عبد الله أنه قال: «ما تنبَّأ نبيٌّ قطُّ حتى يُقرَّ لله بخمس: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة»([8])، وعن أبي جعفر S في قوله تعالى: [ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ] {البقرة:51} قال: «كانَ فِي العِلمِ وَالتَّقديرِ ثَلاثينَ لَيلَةً، ثُمَّ بَدا لله فَزادَ عَشرًا، فَتَمَّ ميقاتُ رَبِّهِ لِلأَوَّلِ وَالآخِرِ أربَعينَ لَيلَةً».([9])

 

([1]) ولعل أول من تكلم في البَدَاء عند الشيعة الكليني (ت328 أو 329ه‍) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصّص له بابًا بعنوان «باب البداء» وذكر فيه ستَّة عشر حديثًا من الأحاديث المنسوبة للأئمة، وجاء من بعده ابن بابويه (ت381ه‍)، وسجل ذلك ضمن عقائد طائفته، وعقد له بابًا خاصًا بعنوان «باب البداء»، وذلك في كتاب «الاعتقادات» الذي يسمى دين الإمامية (الاعتقادات: ص89). ومثل ذلك فعل في كتابه «التوحيد» (التوحيد: ص331)، وقد اهتمّ المجلسي (ت1111ه‍) بأمر البداء وبوّب له في بحاره تبويبًا بعنوان «باب النّسخ والبداء»، وذكر (70) حديثًا من أحاديثهم عن الأئمة (بحار الأنوار: 4/92129).

([2]) الكافي (1/358).

([3]) بحار الأنوار: (4/119)، تفسير العياشي: (2/217)، البرهان: (2/299).

([4]) أصول الكافي، كتاب التوحيد، باب البداء: (1/146)، ابن بابويه، التوحيد، باب البداء: (ص332)، بحار الأنوار، كتاب التوحيد، باب البداء (4/107).

([5]) أصول الكافي: (1/146)، التوحيد لابن بابويه (ص333)، بحار الأنوار (4/107).

([6]) أصول الكافي: (1/148)، التوحيد لابن بابويه: (ص334)، بحار الأنوار (4/108).

([7]) أصول الكافي: (1/148)، التوحيد لابن بابويه: (ص334)، بحار الأنوار (4/108).

([8]) التّوحيد لابن بابويه: (ص336).

([9]) «تفسير العياشي» (1/44).

الرد علي الشبهة:

أولًا: معنى البَدَاء في اللغة.

قال ابن منظور: «وبَدا لِي بَدَاءٌ أَي: تَغَيَّر رأْيي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: بَدَا لِي مِنْ أَمْرِكَ بَداءٌ أَي ظَهَرَ لِي، وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع: خَرَجْتُ أَنا وربَاحٌ مَوْلَى رسول الله H وَمَعِي فرسُ أَبي طَلْحَةَ أُبَدِّيهِ مَعَ الإِبل، أَي: أُبْرزُه مَعَهَا إِلَى مَوْضِعِ الكَلإِ.

وَكُلُّ شَيْءٍ أَظهرتَه فَقَدْ أَبْدَيْتَه وبَدَّيتَه؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: أَنه أَمر أَن يُبَادِيَ الناسَ بأَمره أَي يُظْهِرَهُ لَهُمْ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَه نُقِمْ عَلَيْهِ كتابَ اللهِ أَي مَنْ يُظْهِرُ لَنَا فِعْلَهُ الَّذِي كَانَ يُخْفِيهِ أَقمنا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَفِي حَدِيثِ الأَقْرع والأَبْرص والأَعمى: بَدَا اللهُ D أَن يَبْتَلِيَهُمْ أَي قَضَى بِذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الأَثير: وَهُوَ مَعنَى البَداء هَا هُنَا لأَن الْقَضَاءَ سَابِقٌ، والبَدَاءُ اسْتِصْوَابُ شَيْءٍ عُلم بَعْدَ أَن لَمْ يُعْلم، وَذَلِكَ عَلَى اللهِ غَيْرُ جَائِزٍ.

وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بَدَا لِي بَدَاءٌ أَي ظَهَرَ لِي رأْيٌ آخَرُ؛ وأَنشد: لَوْ عَلَى العَهْدِ لَمْ يَخُنه لَدُمْنا،... ثُمَّ لَمْ يَبْدُ لِي سِوَاهُ بَدَاءُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَبَدَا لَهُ فِي الأَمر بَدَاءً، مَمْدُودَةً، أَي نشأَ لَهُ فِيهِ رأْيٌ، وَهُوَ ذُو بَدَواتٍ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: صَوَابُهُ بَداءٌ، بِالرَّفْعِ، لأَنه الْفَاعِلُ وَتَفْسِيرُهُ بنَشَأَ لَهُ فِيهِ رأْيٌ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: لعَلَّكَ، والموعودُ حَقٌّ لِقاؤه،... بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوص بَدَاءُ».([1])

وقال الفيروزأبادي: «بدا بدوًا وبدوًا وبداءة: ظهر. وبدا له في الأمر بدوًا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي».([2])

إذًا البداء في اللغة له معنيان:

 الأول: الظهور بعد الخفاء.

ومنه قوله تعالى: [ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ] {البقرة:284} وقوله: [ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ] {الزمر:47}.

الثاني: نشأة رأي لم يكن من قبل.

ومنه قوله: [ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ] {يوسف:35}.

والمعنيان يلزم منهما أمران:

الأول: سبق الجهل.

الثاني: استحداث العلم.

وكلاهما ممتنع في حق الله تبارك وتعالى.

ثانيًا: إثبات علماء الإمامية لمعنى الجهل ونسبته لله في عقيدة البداء.

قال بعض علماء الإمامية المتقدمين بجواز نسبة البداء على معنى الجهل إلى الله سبحانه وتعالى، فقال المرتضى: «يمكن حمل ذلك على حقيقته، بأن يقال: بدا له تعالى، بمعنى: أنه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهرًا له، وبدا له من النهي ما لم يكن ظاهرًا له؛ لأن قبل وجود الأمر والنهي لا يكونان ظاهرَين مدركَين، وإنما يعلم أنه يأمر وينهى في المستقبل، فأما كونه آمرًا وناهيًا فلا يصح أن يعلمه إلا إذا وجد الأمر والنهي، وجرى ذلك مجرى أحد الوجهين المذكورين في قوله تعالى: [ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ] {محمد:31} بأن نحمله على أن المراد به حتى نعلم جهادكم موجودًا؛ لأن قبل وجود الجهاد لا يعلم الجهاد موجودًا، وإنما نعلم ذلك بعد حصوله، فكذلك القول في البَدَاء»([3])، وقد عقب الطوسي عليه بقوله: «وهذا وجه حسن جدًّا»([4])، فهذا ظاهر جدًّا في اعتبار معنى البداء بالجهل وظهور ما لم يكن ظاهرًا ولا معروفًا لله D، وهو تصريح منه بنسبة الجهل إلى الله سبحانه.

قال السيد مسلم الحليُّ تعقيبًا على كلام المرتضى: «لكن فيه: أنه يرى أنه تعالى غير عالم بالأشياء قبل الوقوع، كما ترى صريحه وتصريحه، وهو مذهب مهجور عند أصحابنا الإمامية، وهو بما قال أعرف، وتحقيق الحق في ذلك يطلب من موسوعات الكتب الكلامية»([5]).

ثانيًا: فساد تأويل البَدَاء بمعنى النسخ.

وذكر بعض علماء الإمامية أن البداء يأتي بمعنى النسخ، قال الطوسي: «وأما البداء فحقيقته في اللغة هو الظهور »ولذلك يقال: «بدا لنا سور المدينة» و«بدا لنا وجه الرأي»، وقال الله تعالى: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ] و[ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ] ويراد بذلك كله «ظهر»، وقد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلًا، وكذلك في الظن، فأما إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه، ومنه ما لا يجوز: فأما ما يجوز من ذلك، فهو ما أفاد النسخ بعينه، ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين R من الأخبار المتضمنة لإضافة البَدَاء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه، من حصول العلم بعد أن لم يكن، ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالى والتشبيه هو أنه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرًا لهم، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم، أطلق على ذلك لفظ البداء».([6])

وهذا الكلام الذي ذكره الطوسي من توجيه معنى البداء بأنه هو النسخ فهو غير صحيح وباطل جملةً وتفصيلًا، وذلك لأن البداء يكون فيما ظهر بعد خفاء، أو فيما نشأ من رأي جديد، والناسخ والمنسوخ كلاهما ليس من هذا الباب؛ إذ إنهما جميعًا في علمه تبارك وتعالى.

واستشهد الطوسي بكلام المرتضى السابق على توجيه معنى البداء بأنه هو النسخ، وهو باطلٌ أيضًا؛ لأن كلام المرتضى يعارض كلام الطوسي، فالمرتضى ينسب البداء بمعنى عدم العلم والجهل إلى الله سبحانه وتعالى وليس إلى المخلوق؛ لذلك تعقبه مسلم الحلي بقوله: «وأنت ترى أن هذا الكلام صريح كل الصراحة في أن البَدَاء في نظر السيد المرتضى (قدس سرَّه) ليس هو المراد من النسخ، كما أن الشيخ نفسه جعله مقابلًا للمعنى المذكور للنسخ المعروف فيه»([7]).

وقد اعترض المرتضى على التسوية بين البداء والنسخ فقال: «اعلم أنّ البداء في وضع اللّغة هو الظهور، وإنّما يقال: «بدا لفلان في كذا» إذا ظهر له من علم أو ظنّ ما لم يكن ظاهرًا، وللبداء شرائط، وهي أربعة: أن يكون الفعل المأمور به واحدًا، والمكلّف واحدًا، والوجه كذلك، والوقت كذلك، فما اختصّ بهذه الوجوه الأربعة من أمر بعد نهي، أو نهي بعد أمر؛ اقتضى البداء، وإنّما قلنا: إنّ ذلك يدلّ على البداء؛ لأنّه لا وجه له إلَّا تغيّر حال المكلّف في العلم أو الظنّ؛ لأنّه لو كانت حاله على ما كانت عليه؛ لما أمر بنفس ما نهى عنه، أو نهى عن نفس ما أمر به مع باقي الشرائط، وكان أبو هاشم يمنع في الله تعالى أن يأمر بما نهى عنه مع باقي الشرائط لوجهين: أحدهما: أنه دلالة البداء، والآخر: أنّه يقتضي إضافة قبيح إليه تعالى إمّا الأمر، أو النهي، وهو أحد قولي أبي عليّ. والقول الآخر له: أنّه يمنع من وقوعه منه تعالى للوجه الأخير الّذي ذكرناه، من اقتضائه إضافة قبيح إليه تعالى؛ لأنَّ البداء لا يتصوَّر فيمن هو عالم بنفسه.

والأولى أن يمنع منه للوجهين؛ لأنَّ ما من شأنه أن يدلَّ على أمر من الأمور يجب ألَّا يختاره القديم تعالى مع فقد مدلوله؛ لأنّ ذلك يجري مجرى فعل قبيح، ألا ترى أنّ فعله تعالى ما يطابق اقتراح الطالب لتصديقه، لَمَّا كان دلالة التصديق لم يجز أن يفعله من الكذّاب؛ لأنّه يدلُّ على خلاف ما الحال عليه، والنسخ إنّما يخالف البداء بتغاير الفعلين؛ فإنَّ فعل المأمور به غير المنهيّ عنه.

وإذا تغاير الفعلان، فلا بدّ من تغاير الوقتين، فكان النسخ يخالف البداء بتغاير الفعلين والوقتين».([8])

ثالثًا: لو سلمنا جدلًا أن البداء هو النسخ، فقد اتهمتم الله بالكذب.

فلو اعتبرنا جدلًا أنَّ البَدَاء الذي جاء في رواياتكم هو النسخ كما زعمتم، فيلزم منه نسبتكم الكذب له سبحانه؛ لأن النسخ إنما يكون في التشريع (الأمر والنهي) ولا يجوز النسخ مطلقًا بحال من الأحوال في الأخبار؛ لأن نسخ الأخبار مقتضاه الكذب قولًا واحدًا.

يقول ابن عطية: «والنسخ لا يجوز في الإخبار، وإنما هو مختص بالأوامر والنواهي»([9]).

ويقول الفناري: «لا يجوز نسخ الخبر عند الجمهور ماضيًا ومستقبلًا»([10]).

ولنضرب لذلك مثالًا يتضح به المقال، ويُفهم منه هذه القاعدة:

لو أن الله تعالى أخبر أنَّ فلانًا معصومٌ، ثم أخبر بعدها أن نفس فلان هذا ليس إمامًا ولا معصومًا، فهذا لازمه الكذب لا غير؛ إذ الإمام المعصوم لا يمكن أن ينقلب غير إمام وغير معصوم، فيلزم الجهل والكذب ولا مفر، ومثل هذا هو الذي منعه أهل السنة باتفاق.

ومن تلك الروايات التي جاءت في البَدَاء، والتي لا يفهم منها إلا التناقض والجهل والكذب، قولهم بأن الامام الصادق قد أشار إلى إمامة إسماعيل ابنه، فلما مات قال بالبَدَاء، فرجع بعض أصحابه عن إمامته واتهموه بالكذب.

أورد المجلسيُّ قائلًا: «كتاب زيد النرسي، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله S قال: ما بدَا لله بَدَاء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني، ومنه: عن أبي عبد الله S قال: إني ناجيت الله ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون من بعدي، فأبى ربي إلا أن يكون موسى ابني، ومنه: عن أبي عبد الله S قال: إن شيطانًا قد ولع بابني إسماعيل يتصور في صورته ليفتن به الناس، وإنه لا يتصور في صورة نبي ولا وصي نبي، فمن قال لك من الناس: إن إسماعيل ابني حي لم يمت، فإنما ذلك الشيطان تمثل له في صورة إسماعيل، ما زلت أبتهل إلى الله D في إسماعيل ابني أن يحييه لي ويكون القيم من بعدي فأبى ربي ذلك».([11])

ومنها ما أورده الصفار: «حدثنا أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبيه، عن ابن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله S قال: سألته وطلبت وقضيت إليه أن يجعل هذا الأمر إلى إسماعيل، فأبى الله إلا أن يجعله لأبي الحسن موسى (ع)».([12])

وهنا يعلق النوبختي مُبينًا سبب انقسام الشيعة فيقول: «وأما الفرقة الأخرى من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي S فنزلت إلى القول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد S، فلم تزل ثابتة على إمامته أيام حياته غير نفر منهم يسير، فإنهم لما أشار جعفر بن محمد إلى إمامة ابنه إسماعيل، ثم مات إسماعيل في حياة أبيه رجعوا عن إمامة جعفر وقالوا: كَذَبَنَا ولم يكن إمامًا؛ لأن الإمام لا يكذب ولا يقول ما لا يكون، وحكموا على جعفر أنه قال: إن الله D بدا له في إمامة إسماعيل، فأنكروا البَدَاء والمشيئة من الله، وقالوا: هذا باطل لا يجوز، ومالوا إلى مقالة البترية ومقالة سليمان بن جرير...».([13])

فعقيدة البَدَاء تنفي مسألة النص المزعوم عن النبي H، وتنفي عصمة الأئمة ومعرفتهم للغيب، بل وتنفي علم الإمام حتى بمن يخلفه من بعده في الإمامة، وتنفي أن الإمامة تكون بمجرد الولادة كما يزعمون.

وإذا كان قول الإمام هو قول الله فقد نسبوا إلى الله الجهل بالإمام؛ لأنه نص -كما يزعمون- على إسماعيل بن جعفر ثم مات، فإن تخلَّوا عن عقيدتهم في أنَّ قول الإمام هو قول الله فقد نسبوا للإمام الجهل، وأنه يأبى على الله وينطق بجهل، وكفى به هدمًا لمذهبهم.

رابعًا: القول بالبَدَاء في حقيقتِه هو للتلاعب بالدين.

لقد وضعت الإمامية هذه العقيدة حتى تتمكن من التلاعب بالنصوص حيث شاءت، كحال الكهان والسحرة قديمًا، فيخبرون الناس بأخبار، فإذا وقعت فقد حصل المقصود، وإذا لم تقع فالحجة عندهم هو إطلاق القول بأنه قد بدا لله في الأمر فبدَّلَه!

قال الرازي V في خاتمة كتاب «المحصل»: «ولنختم هذا الكلام بما يحكى عن سليمان بن جرير الزيدي أنه قال: إن أئمة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم:

الأولى: القول بالبَدَاء، فاذا قالوا: إنه سيكون لهم قوة وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا: بدا لله تعالى فيه...

والثانية: التقِيَّة، فكلما أرادوا شيئًا تكلموا به، فإذا قيل لهم: هذا خطأ وظهر بطلانه قالوا: إنما قلناه تقيَّة».([14])

وأما الآية التي يستدلون بها وهي: [ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ] {الرعد:39} أو غيرها من الآيات فإن المقصود بها واضح، وهو أنه سبحانه يمحو ما يشاء من الأقدار بما علمه قبل ذلك، ولذلك قال: [ﯛ ﯜ ﯝ].

يقول الشيخ السعدي: [ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ] من الأقدار [] ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير؛ لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل؛ ولهذا قال: [ﯛ ﯜ ﯝ] أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها، وهي فروع له وشعب، فالتغيير والتبديل يقعان في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابًا ولمحوها أسبابًا، لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببًا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببًا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببًا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ».([15])

 

_ _ _

 

 

([1]) لسان العرب (14/65).

([2]) القاموس المحيط (ص1262).

([3]) نقله عنه الطوسي في العدة (2/496)

وأنا أزعم أن هذا النقل عن المرتضى كذب؛ إذ لا يوجد فيما نُقل عن المرتضى من كتب هذا النص ولا حتى ما هو قريب منه، بل الموجود في مؤلفاته ما هو معارض لذلك، منها ما قاله في الرسائل: «والبداء على ما حددناه لا يجوز على الله تعالى؛ لأنه عالم بنفسه، لا يجوز له أن يتجدد كونه عالما، ولا أن يظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهرًا». الرسائل (1/116).

ومنها في نفس الموضع (1/117) رده للروايات التي تنسب البداء له سبحانه وتعالى فقال: «وقد وردت أخبار آحاد لا توجب علمًا، ولا تقتضي قطعًا، بإضافة البداء إلى الله تعالى، وحملوها محققو أصحابنا على أن المراد بلفظة البداء فيها النسخ للشرائع، ولا خلاف بين العلماء في جواز النسخ للشرائع».

ومنه كذلك كلامه عند نقله لكلام المعتزلة قائلا: «اعلم أنّ البداء في وضع اللّغة هو الظهور، وإنّما يقال: «بدا لفلان في كذا» إذا ظهر له من علم أو ظنّ ما لم يكن ظاهرا، وللبداء شرائط، وهي أربعة: أن يكون الفعل المأمور به واحدا، والمكلّف واحدا، والوجه كذلك، والوقت كذلك، فما اختصّ بهذه الوجوه الأربعة من أمر بعد نهى، أو نهى بعد أمر؛ اقتضى البداء.

وإنّما قلنا: إنّ ذلك يدلّ على البداء؛ لأنّه لا وجه له إلاّ تغيّر حال المكلّف في العلم أو الظنّ، لأنّه لو كانت حاله على ما كانت عليه؛ لما أمر بنفس ما نهى عنه، أو نهى عن نفس ما أمر به مع باقي الشرائط، وكان أبو هاشم يمنع في اللّه تعالى أن يأمر بما نهى عنه مع باقي الشرائط لوجهين: أحدهما: أنه دلالة البداء، والآخر: أنّه يقتضي إضافة قبيح إليه تعالى إمّا الأمر، أو النهي، وهو أحد قولي أبي عليّ. والقول الآخر له: أنّه يمنع من وقوعه منه تعالى للوجه الأخير الّذي ذكرناه، من اقتضائه إضافة قبيح إليه تعالى؛ لأنّ البداء لا يتصوّر فيمن هو عالم بنفسه.

والأولى أن يمنع منه للوجهين؛ لأنّ ما من شأنه أن يدلّ على أمر من الأمور [يجب]ألاّ يختاره القديم تعالى مع فقد مدلوله؛ لأنّ ذلك يجري مجرى فعل قبيح، ألا ترى أنّ فعله تعالى ما يطابق اقتراح الطالب لتصديقه، لمّا كان دلالة التصديق لم يجز أن يفعله من الكذّاب؛ لأنّه يدلّ على خلاف ما الحال عليه). نفائس التأويل (1/179).

([4]) عدة الأصول، الطوسي (٢/٤٩٦).

([5]) القرآن والعقيدة (125/126)

([6]) عدة الأصول (2/495).

([7]) القرآن والعقيدة (125/126).

([8]) «نفائس التأويل» الشريف المرتضي (1/179).

([9]) «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» ابن عطية (1/191).

([10])   «فصول البدائع في أصول الشرائع» (2/153).

([11])   «بحار الأنوار» المجلسي (47/269).

([12])   «بصائر الدرجات» محمد بن الحسن الصفار (ص492).

([13])   «فرق الشيعة» النوبختي (63/64).

([14])   «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين» الرازي (249/250).

([15])   «تيسير الكريم الرحمن» عبد الرحمن السعدي (ص419).