قول الطبرسي: «وورد عن آل محمد Q: أن الله تعالى يحيي عند قيام المهدي S قومًا من أعدائهم قد بلغوا الغاية في ظلمهم واعتدائهم، وقومًا من مخلصي أوليائهم قد ابتلوا بمعاناة كل عناء ومحنة في ولائهم؛ لينتقم هؤلاء من أولئك، ويتشفوا مما تجرعوه من الغموم بذلك، وينال كل من الفريقين بعض ما استحقه من الثواب والعقاب»
يرده كلام المفيد –وقد اضطرب هو نفسه فيه- الذي زعم فيه أن الرجعة تكون خاصة بهذه الأمة دون غيرها من الأمم، فقال: «والرجعة إنما هي لممحضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون مَن سلف مِن الأمم الخالية»([1]).
والآية تنص على أن هذا الحشر عام من كل أمة، وليس مخصوصًا بأمة دون غيرها، وليس فيها ذكر لحشر المؤمنين إنما حشرٌ للمكذبين، بل وليس الحشر لبعض المكذبين فقط، بل الحشر لكل المكذبين، فلفظة (مِن) في الآية ليست للتبعيض إنما هي بيانية، وبه صرح محمد جواد مغنية قائلًا: «(من) هنا بيانية وليست للتبعيض تمامًا كخاتم من حديد»([2]).
فحصل التعارض من وجهين: وجه عموم المحشور، ووجه تخصيصه في المكذبين.
واستدل الطبرسي بعدم إحالة العقول لوقوع ذلك، وأنه ليس على الله بمستحيل في قوله: «وهذا غير مستحيل في العقول فإن أحدا من المسلمين لا يشك في أنه مقدور لله تعالى».
وهذا استدلال غلط جملةً وتفصيلًا، فالمسألة لا تتعلق بالجواز العقلي ولا استحالته، ولا بالقدرة الإلهية من عدمها، فلا أحد ينازع في قدرته سبحانه وتعالى المطلقة في الفعل، بل هي متعلقة إما بموافقة النص أو مخالفته، فلا دخل للإمكان أو الاستحالة العقلية ولا حتى القدرة الإلهية من عدمها، إنما صحة الدليل المجرد، فيُقال هذا القول الذي قاله الطبرسي، بعد إثبات المسألة ابتداء، فإثبات العرش سابق على نقشه وليس العكس!
الآية تتكلم عن الحشر في يوم القيامة وليس في الدنيا، وبقولنا قال محمد جواد مغنية في تفسيره: «والمعنى أن في الأمم مصدقين ومكذبين بآيات الله وبيناته، وهو يحشر للحساب والجزاء جميع المكذبين بلا استثناء..»([3]).
وقد يستشكل بعضهم بأنَّ هذا الحشر مخالفٌ لما ورد في الآية الأخرى التي جاء فيها أن الحشر يوم القيامة يكون عامًّا لكل الخلق([4])، بخلاف هذه الآية فإن الحشر فيها خاصٌّ لبعض الخلق دون البعض الآخر، وأن هذا غير متصور في الحشر الذي يكون يوم القيامة.
والجواب عن ذلك أنه مدفوع من وجهين:
الأول: لفظة (من) توكيدية.
أي أنها زائدة للتوكيد وليست للتبعيض، ويكون المعنى آنذاك في قول الله تعالى: [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ] {النمل:83} يوم نحشر كلَّ أمَّةٍ فَوْجًا فَوْجًا.
وإلى هذا المعنى أشارَ الطوسيُّ بقوله: «ومَن حمَلَ الآية على أن المراد باليوم يوم القيامة قال: إن (مِنْ) زائدة، والتقدير: [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ] أي: فوجًا فوجًا من الَّذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة».([5])
الثاني: لو كانت تبعيضية فهي تفيد حشرًا خاصًّا.
إن حملنا (مِنْ) على أنها تبعيضية فلا منافاةَ بين الآيات؛ لإمكان حملها على الحشر الخاص الذي يكون بعد الحشر العام، وهو خاصٌّ بالمتبوعين والرؤساء من الكفرة، قال صديق حسن خان: [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ] {النمل:83} العامل في الظرف فعل محذوف خوطب به النبي H، والحشر: الجمع، قيل: والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب الخاص بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق».([6])
وهذا بعينه هو الذي ذهب إليه محمد جواد مغنية فقال: «وهو يحشر للحساب والجزاء جميع المكذبين بلا استثناء، وخصهم بالحشر مع أنه يعم الجميع؛ لأنه تعالى قصد التهديد والوعيد».([7])
وعلى الوجهين سواء كانت للتوكيد أو للتبعيض، فهي في سياق ذكر الحشر للكافرين يوم القيامة، وليس في الحياة الدنيا.
وقد تناول الآلوسي هذه المسألة بنوع من الإسهاب الذي يُطرِبُ الأسماع فقال: «و(مِنْ) الثانية بيانيةٌ جيء بها لبيان فَوْجًا، و(مِنْ) الأولى تبعيضية؛ لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي: ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء ، أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا [ﮠ ﮡ] {النمل:83} أي: يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى، وقيل: (مِنْ) الثانية تبعيضية كالأولى، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة، وعن ابن عباس: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة، يساقون بين يدي أهل مكة، وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار، وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة... وأنت تعلم أنه لا صحة لإرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية؛ لإفادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته، بل ظاهر ما بعد ذلك يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة، مع أنها تفيد أيضًا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب، ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة.
وربما يقال أيضًا: -مما يأبَى حمل الحشر المذكور على الرجعة- أن فيه راحةً لهم في الجملة؛ حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية، وأيضًا: كيف تصح إرادة الرجعة منها وفي الآيات ما يأبى ذلك؟ منه قوله تعالى: [ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ] {المؤمنون: 99-100} فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقًا، وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له مما لا ينتطح فيه كبشان، إلا أن الكلام في وقوعه، وأهل السُّنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها.
على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها، وإنما الدليل إجماع الإمامية والتعويل ليس إلا عليه، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هذا، فلا ينتهض ذلك حجة عليه، مع أن له إجماعًا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلَّى الله تعالى عليه وسلم، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السني مثله في إجماعهم».([8])
قال محمد صادق الصدر: «ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة باستقلالها، لن نجدها دالةً على الرجعة بحال، ولا أقل من احتمال معنى آخر بديل لمعنى الرجعة، لا تكون الآية دالةً عليه أقل من دلالتها على معنى الرجعة، وهذا المعنى هو الحشر التدريجي، فإن الحشر والحساب في يوم القيامة له أحد أسلوبين محتملين:
الأسلوب الأول: الحشر الدفعي أو المجموعي، بمعنى: أن يحشر الناس كلهم من أول البشرية إلى آخرها سويةً، ويحاسبون على أعمالهم، وهذا هو المركوز في الأذهان عادة، غير أنه ليس في القرآن ما يدل عليه، وترد عليه بعض المناقشات لسنا الآن في صددها.
الأسلوب الثاني: الحشر التدريجي، جيلًا بعد جيل أو دينًا بعد، أو مجموعة بعدد معين بعد مجموعة وهكذا، وحتى يتم حساب الدفعة الأولى تحشر الدفعة الثانية وهكذا، فقد تكون الآية التي نحن بصددها دالة على هذا الأسلوب من الحشر؛ حيث يقول: [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ] لأن حشر الجيل الواحد يتضمن أن يعود إلى الحياة جماعة من كل مذهب ودين: مِن [ﮙ ﮚ ﮛ] كما كان عليه الحال في الدنيا، وهو لا يريد إهمال الآخرين، بل هو يشير إلى دفعة واحدة من الحشر التدريجي، وأما الدفعات الأخرى فيأتي دورها تباعًا، ولن تكون مهملة بدليل قوله تعالى: [ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ] {الكهف:47} أي أن الحشر التدريجي سيستوعب في النتيجة كل البشرية من أولها إلى آخرها، إذًا فكلتا الآيتين تشير إلى يوم القيامة، ولا تمت إلى الرجعة بصلة، ولا أقل من احتمال ذلك؛ بحيث تكون دلالتها على الرجعة غير ظاهرة».([9])
_ _ _
([1]) المسائل السروية (1/35).
([2]) التفسير المبين (ص504).
([3]) التفسير المبين (ص504).
([4]) كقوله سبحانه وتعالى: [ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ] {الأنعام:22} وقوله سبحانه وتعالى: [ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ] {يونس:28}.
([5]) «تفسير التبيان» الطوسي (8/120).
([6]) «فتح البيان في مقاصد القرآن» صديق حسن خان (10/74).
([7]) «التفسير المبين» محمد جواد مغنية (ص504).
([8]) «روح المعاني» الآلوسي (10/237).
([9]) «تاريخ ما بعد الظهور» محمد صادق الصدر (ص639).