الروايةُ التي أشار إليها الكوراني هي التي رواها القمي في تفسيره عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أنهُ قَالَ: »انْتَهَى رَسُولُ اللهِ (ص) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ قَدْ جَمَعَ رَمْلًا- وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَيْهِ فَحَرَّكَهُ بِرِجْلِهِ- ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ يَا دَابَّةَ اللهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُسَمِّي بَعْضُنَا بَعْضًا بِهَذَا الِاسْمِ؟ فَقَالَ: لَا وَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا لَهُ خَاصَّةً- وَهُوَ الدَّابَّةُ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: [ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ] {النمل:82}، ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ، إِذَا كَانَ آخِرُ الزَّمَانِ أَخْرَجَكَ اللهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَمَعَكَ مِيسَمٌ تَسِمُ بِهِ أَعْدَاءَكَ، فَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: هَذِهِ الدَّابَّةُ إِنَّمَا تَكْلِمُهُمْ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): كَلَمَهُمُ اللهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، إِنَّمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ مِنَ الْكَلَامِ...».([1])
وهذه الرواية فيها من جهل واضعها ما يُغني كل باحث عن النظر فيها؛ وذلك لما يلي:
1. الدابة لفظ مؤنث.
الدابة في اللغة هي صيغة المؤنث لفاعل دب([2]) ودلالة التأنيث في الآية في منتهى الوضوح، ولذلك قال الله: [ﮏ] {النمل:82} وذلك لأنها مؤنثة، ولو كانت مذكرة لقال سبحانه: (يكلمهم) وهو ما لم يكن، فيلزمهم على مقتضى اللغة والكتاب أن يقولوا: إن علي بن أبي طالب I قد تأنث أو تخنث، عياذًا بالله!
2. دابة الأرض لفظ مركب يشير للحيوان.
أن دابة الأرض هي عبارة عن لفظ مركب، فلا يكون المبحث آنذاك عن لفظة دابة، ولكن عن اللفظ المركب، وهذا اللفظ المركب «دابة الأرض» هو حيوان ظهوره من شرائط الساعة أو أول علاماتها، واستعمال هذا التركيب إنما هو مقتصر على الاستعمال في الجنس الحيواني لا الآدمي، وله نظير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: [ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ] {سبأ:14} ودابة الأرض في الآية هي الأَرَضَة، وهي من الجنس الحيواني لا الآدمي.
3. أوصاف الدابة في الموروث الروائي.
أوصاف هذه الدابة المذكورة في الحديث عند الإمامية تدل صراحة على أنها من الجنس الحيواني لا الآدمي، قال علي اليزدي الحائري: «ثمَّ بعد ذلك تخرج دابة من الأرض لها رأس كرأس الفيل، ولها وبر وصوف وشعر وريش، من كلِّ لون، ومعها عصا مُوسی، وخاتم سليمان...».([3])
وهذه الأوصاف لا يمكن القول بأنَّها أوصافٌ لآدمي فضلًا عن أن يُقال: إنها أوصافٌ لعليٍّ I.
ولشناعة تلك الأوصاف أن يوصف بها آدمي، فضلًا عن علي I، فقد اعترض علماء الإمامية على وصف أمير المؤمنين بهذه الصفة.
ولما كان هذا الوصف على هذا القدر من البشاعة فقد استنكره طائفة من علماء الإمامية، فقال آيتهم العظمى السيد محمد حسين فضل الله: «يجب أن ندقق في الحديث؛ لأنه ليس كل حديث يجب أن نأخذ به، خصوصًا إذا أردنا أن نعرضه على القرآن، فدابة الأرض هو التعبير عن الدابّة بخصوص اللفظ، أما أن يعبّر عن الإمام علي بالدابة فهذا تعبير لا ينسجم مع موقع الإمام (ع)؛ لأن دابة الأرض هي حشرات الأرض، وإذا أردنا أن نعظم الإمام عليًّا (ع) فيجب أن نأتي بكلمة تليق به، وحتى لو كانت استعارة لمعنى آخر فلا بد أن تتناسب مع طبيعة المعنى الجديد، إننا عندما ننطلق مع السياق القرآني نرى أنه لا ينسجم مع مقام الإمام علي (ع)»([4]).
الحديث الذي أورده القمي واستدل عليه من استدل في إثبات أن دابة الأرض هي علي بن أبي طالب لا يثبت، وإن ثبت عندهم فلا يبنون عليه عملًا أو اعتقادًا.
قال محمد جواد مُغنية: «وأما الدابة فقد كثر الكلام فيها، والله سبحانه لم يبيّن لنا ما هي، والحديث عن المعصوم في بيانها لم يثبت، حتى ولو صح سنده لم نعمل به؛ لأنه خبر واحد، وهو حجة في الأحكام الفرعية، لا في الموضوعات وأصول العقيدة، والقول بغير علم حرام، فلم يبق إلا الأخذ بظاهر الآية الذي يدل على أن الله سبحانه عندما يحشر الناس للحساب يخرج من الأرض مخلوقًا يعلن أن الكافرين جحدوا الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته، ونبوة رسله».([5])
الرواية فيها أن النبيَّ H حرّك عليًّا I برجله وهو نائم، وهو ما فهم منه بعض علماء الإمامية نسبة سوء للخلق للنبي H، وبه اعترض على الرواية.
قال جعفر مرتضى العاملي: «غير أن لنا تحفظًا مُهِمًّا على هذه الرواية؛ لأجل ما تضمنته من أن النبي صلى الله عليه وآله قد حرك عليًّا S وعمارًا برجله، فإن هذا لا يمكن أن يصح؛ لأنه ينافي أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله... فلا بد من طرح هذه الفقرة من الرواية، أو القول بحصول تصحيف فيها».([6])
اعترف بعض مراجع الشيعة المعاصرين بعدم دلالة الآية على عقيدة الرجعة، وإن دلت الآية -جدلًا- على الرجعة فليس على اصطلاح الإمامية ولا مفهومهم، وبهذا الكلام قال محمد الصدر (مع اعتراضنا على بعض موارده واستنباطاته إلا أنه قد أدى المطلوب في خاتمة كلامه، وليس هذا مبحث مناقشة كلامه): [ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ] {النمل:82} وطريقة دلالتها على الرجعة بأحد أسلوبين:
الأسلوب الأول: أن حادثة خروج دابة الأرض تكون عند الرجعة، فهي تخرج مع الراجعين لتقوم بوظيفتها بينهم، إلا أن هذا الأسلوب غير صحيح بكل وضوح؛ لأن الآية لا تشير إلا إلى خروج دابة الأرض، وأما أنها تخرج في جيل طبيعي في جيل الرجعة، فهذا ما لا تشير إليه الآية إليه بحال.
الأسلوب الثاني: أنها تشير إلى رجعة دابة الأرض نفسها أعني حياتها بعد الموت، فهي تشير إلى رجعة شخص واحد لا أكثر، وإذا أمكن ذلك في شخص أمكن في عديدين، وهذا يتوقف على أن نفهم من (دابة الأرض) أنها إنسان سبق له أن عاش في هذه الحياة، وفي الآية قرينة على بشرية هذه الدابة وهي قوله: [ﮏ ] فإن الكلام يكون من البشر دون غيره، ويتوقف على أن نفهم من قوله: [ﮊ] معنى: أرجعنا إلى الحياة بعد الموت، لا أن هذا الإنسان يولد في حينه، وقد يجعل قوله تعالى: [ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ] دليلًا على ذلك؛ لأن الآية إنما تكون بالرجوع بعد الموت، وأما لو كان يولد في زمانه لما حدثت الآية، وقد قامت الأخبار التي سمعنا طرفًا منها، بتعيين هذا الإنسان بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
والإنصاف أن فكرة الأسلوب الثاني هي المستفادة من الآية الكريمة، فدابة الأرض هو إنسان بعينه، وقوله: [ﮊ] دال على الإيجاد غير الطبيعي لا على مجرد الولادة، إذًا فالآية الكريمة دالة على رجعة هذا الإنسان.
غير أنها لا تدل على أي معنى آخر للرجعة، لا العام ولا الخاص، ومن المحتمل -بل المؤكد- أن هناك مصلحةً في حكمة الله تعالى لرجوع دابة الأرض، لا تتوفر في أي بشري آخر، ومعه لا يمكن القول بالتعميم منه إلى رجعة أي شخص آخر، ومجرد الإمكان في قدرة الله، وهو مما لا شك فيه، لا يدل على الوقوع الفعلي، وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة، استطعنا أن نستنتج نتيجةً أخرى مُهِمةً، وهي: التوحيد بين مدلول القرآن ومدلول الأخبار، فإننا عرفنا أن الأخبار لا يمكنها أن تثبت إلا المعنى الإجمالي الذي تواترت الأخبار عليه، وهو رجوع بعض الأموات إلى الحياة قبل يوم القيامة، بشكل يناسب أن يكون هذا الراجع واحدًا لا أكثر، وهذا صالح للانطباق على ما دل عليه القرآن الكريم من رجعة دابة الأرض، فإن هذا المعنى الإجمالي لم يثبت انطباقه بدليلٍ كافٍ إلا على دابة الأرض، فيتعين فيه بعد ضم الدليلين إلى بعضهما.
ومعه في الإمكان القول: إن المقدار الثابت في السنة الشريفة، ليس أكثر مما دل عليه القرآن الكريم، كما أن ما دل عليه القرآن الكريم هو بعينه ما ثبت في السنة.
ومعه، فلم يثبت أي معنى من معاني الرجعة ولا احتمالاتها السابقة، وإنما لا بد لنا كمسلمين، أن نتعبد بخروج دابة الأرض التي نطق بها القرآن الكريم، وفي الإمكان أن نسمي ذلك بالرجعة إلا أنه على خلاف اصطلاحهم».([7])
ولم ينفرد محمد الصدر بهذا الكلام، وإنما قال بمثله غيره من علماء الإمامية([8]).
_ _ _
([1]) «تفسير القمي» (2/130).
([2]) معجم اللغة العربية المعاصرة (1/718).
([3]) «إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب» علِي الیزدي الحائري (2/173). وهذا جزء من الخطبة المنسوبة لعلي بن أبي طالب I، والمسماة خطبة البيان.
([5]) «التفسير الكاشف» محمد جواد مغنية (6/40).
([6]) «الصحيح من سيرة الإمام علي» جعفر مرتضى العاملي (2/249).
([7]) «تاريخ ما بعد الظهور» محمد صادق الصدر (ص639).
([8]) قال محمد جواد مغنية: «[ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ]: ما بيَّن سبحانه حقيقة هذه الدابة في كتابه، ولا ثبت عندنا في سنة نبيه الكريم، ولا يسوغ الكلام بغير علم، فلم يبق إلا الوقوف عند ظاهر الآية الذي يدل على أن الله سبحانه يخرج من الأرض عند النشر مخلوقًا يعلن أن ما من أحد جحد بالله إلا مع قيام البينات والآيات الواضحات على وجوده تعالى، نقول هذا في تفسير هذه الدابة، ونسكت عما سكت الله عنه». «التفسير المبين» محمد جواد مغنية (ص504).