أولًا: عجبًا لمن يعمِدُ إلى فضيلةٍ واضحةٍ فيعميه حقدُه إلى أن يجعلها رذيلةً، فيؤول ذلك للطعن في أنبياء الله تعالى الذين حزنوا ونهاهم الله عن الحزن.
وأما حزن الصديق فهو في مقام التسلية، وفي هذا دليل على قرب أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله r ومحبته له، ولو كان الحزن مذمومًا -والعياذ بالله- للزم من ذلك ذم الأنبياء صلوات الله عليهم الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بأنهم حزنوا.
قال الله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا{[آل عمران:176].
وقال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41].
وقال تعالى مخبرًا عن نبيه يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13].
وقال تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].
وقال تعالى: {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سيئ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33].
وقال تعالى: {فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس:76].
وقال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
وقال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86].
وقال تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].
فهذه الآيات دالةٌ على حزنِ بعض الأنبياء، بل وفيها خوف بعضهم، ومن المستحيل أن تُحمل على الذم، أو الجبن.
ولذلك قال الشريف المرتضى: «وقد يَرِدُ على الإنسان من الحزن ما لا يملك ردَّه ولا يقوى على دفعه؛ ولهذا لا يكون أحدنَا منهيًّا عن مجرد الحزن والبكاء، وإنما نهي عن اللطم والنوح، وإن يطلق لسانه فيما يسخط ربه، وقد بكى نبينا صلى الله عليه على ابنه إبراهيم عند وفاته. وقال: العين تدمع، والقلب يخشع، ولا نقول ما يسخط الرب»([1]).
ثانيًا: قولهم: (إن الحزن إذا كان طاعة فلماذا ينهى عنه والعكس)، فالجواب عنه بعد لزومهم مثل ذلك في الأنبياء أن يقال: إن الحزن إنما يقع تحت مسمى الطاعة والمعصية بحسب الحال، فقد يثاب المرء على الحزن، كما في حالة فقد الولد، وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيميَّة وغيره.
قال ابن مفلح: «قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ فَجَزَعَ الْحَسَنُ جَزَعًا شَدِيدًا، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا سَمِعْت اللهَ عَابَ عَلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحُزْنَ؛ حَيْثُ قَالَ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84].
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي «التُّحْفَةِ الْعِرَاقِيَّةِ» أَنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ مُسْتَحَبٌّ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ، بِخِلَافِ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ حَظِّهِ مِنْهُ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ r لَمَّا بَكَى عَلَى الْمَيِّتِ وَقَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ»، وَإِنَّ هَذَا لَيْسَ كَبُكَاءِ مَنْ يَبْكِي لِحَظِّهِ لَا لِرَحْمَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّ الْفُضَيْلَ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ ضَحِكَ وَقَالَ: رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ قَدْ قَضَى فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ حَالُهُ حَالٌ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْجَزَعِ، فَأَمَّا رَحْمَةُ الْمَيِّتِ وَالرِّضَاءُ بِالْقَضَاءِ وَحَمْدُ اللَّهِ كَحَالِ النَّبِيِّ r، فَهَذَا أَكْمَلُ»([2]).
وعليه فالحزن لا بد من حمله على الطاعة كونه عبودية لله تعالى، كما هو واضح.
وكذلك حزن أبي بكر كان طاعة؛ لكونه من الحزن على الإسلام وعلى النبي r، ولكن تلك الطاعة في مثل هذا الموضع قد تضر بصاحبها، فجاء النهي عنه مكافأة للصديق على تلك الطاعة، فأذهب الله عنه حزنه بذكر الخبر بحصول المعية، وهي فضيلة للصديق ثمرتها النصر الذي يزيل الحزن، فكان الحزن قبل النهي طاعة، وكان النهي عنه مكافأة على الطاعة.
ولا يلزم النهي عن الشيء كونه معصية، فلقد نهي الله لأنبيائه عن الحزن والخوف وغير ذلك.
ثالثًا: ورد في كتب الرافضة حزن فاطمة رضي الله عنها، ففي «علل الشرائع» للصدوق: «حدثنا علي بن أحمد قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن يحيى، عن عمرو بن أبي المقدام وزياد بن عبد الله قالَا: أتى رجل أبا عبد الله (جعفرًا) عليه السلام أنه سُئل: هل تشيع الجنازة بنار ويُمشى معها بمجمرة، أو قنديل، أو غير ذلك مما يُضاد به؟ قال: فتغير لون أبي عبد الله عليه السلام من ذلك، واستوى جالسًا، ثم قال: إنه جاء شقي من الأشقياء إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: أما علمت أنَّ عليًّا قد خطب بنت أبي جهل، فقالت: حقًّا ما تقول؟ فقال: حقًّا ما أقول ثلاث مرات، فدخلها من الغَيْرة ما لا تملك نفسها، وذلك أنَّ الله تبارك وتعالى كتب على النساء غيرةً، وكتب على الرجال جهادًا، وجعل للمحتسبة الصابرة منهن من الأجر ما جعل للمرابط المهاجر في سبيل الله، قال: فاشتد غمُّ فاطمة من ذلك، وبقيت متفكرة حتى أمست، وجاء الليل فحملت الحسن على عاتقها الأيمن والحسين على عاتقها الأيسر، وأخذت بيد أم كلثوم اليسرى بيدها اليمنى، ثم تحولت إلى حجرة أبيها، فجاء علي فدخل حجرته فلم ير فاطمة، فاشتد لذلك غمه وعظم عليه ولم يعلم القصة ما هي، فاستحيا أن يدعوها من منزل أبيها، فخرج إلى المسجد يصلي فيه ما شاء الله، ثم جمع شيئًا من كثيب المسجد واتكأ عليه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما بفاطمة من الحزن؛ أفاض عليه الماء، ثم لبس ثوبه ودخل المسجد، فلم يزل يصلي بين راكع وساجد، وكلما صلى ركعتين دعا الله أن يُذهب ما بفاطمة من الحزن والغم، وذلك ألا يهنيها النوم وليس لها قرار، قال لها: قومي يا بنية فقامت، فحمل النبي عليه الصلاة والسلام الحسن، وحملت فاطمة الحسين، وأخذت بيد أم كلثوم، فانتهى إلى علي عليه السلام وهو نائم، فوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجله على رجل علي فغمزه، وقال: قم يا أبا تراب! فكم ساكن أزعجته، ادع لي أبا بكر من داره، وعمر من مجلسه، وطلحة، فخرج علي فاستخرجهما من منزلهما، واجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، أما علمت أنَّ فاطمة بَضْعَةٌ مني وأنا منها، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي»([3]).
فهذا النبي r يدعو ربه أن يزيل الحزن عن فاطمة، أما الصديق فأنزل الله قرآنًا يطمئن قلبه، وكم بين هذه وتلك من تفاوت في الفضل والقرب من رب العالمين.
وقد ورد عندهم خوف الأئمة أيضًا، ففي (الكافي): «وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ إِنَّهُ يَخَافُ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ يَعْنِي الْقَتْلَ»([4]).
وقال الطوسي: «لا علة تمنع من ظهوره إلا خوفه على نفسه من القتل؛ لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الاستتار»([5]).
وفي «الكافي»: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَلَّامٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) قَالَ: هُمُ الْأَوْصِيَاءُ مِنْ مَخَافَةِ عَدُوِّهِمْ»([6]).
وفي «موسوعة أحاديث أهل البيت»: «البرقي، عن أبيه، عن النضر، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: إني لأحسبك إذا شتم علي بين يديك لو تستطيع أن تأكل أنف شاتمه لفعلت، فقلت: إي والله جعلت فداك، إني لهكذا وأهل بيتي، فقال لي: فلا تفعل، فوالله لربما سمعت من يشتم عليًّا وما بيني وبينه إلا أسطوانة فأستتر بها، فإذا فرغت من صلواتي فأمُرُّ به فأسلم عليه وأصافحه. الرواية صحيحة الإسناد»([7]).
فهذا رعب الأئمةِ وخوفهم من قول كلمة الحق، وإيثارهم الحفاظ على النفس في مقابل ضياع الدين، بعكس الصديق الذي ما كان حزنه إلا للدين وخوفًا على نبيه محمد r.
والشيعة يعتقدون أن فاطمة بعد موت النبي r حزنت عليه حزنًا شديدًا، فجاء جبريل يسليها وينسيها هذا الحزن، ويقرأ عليها ما زعموا بعد ذلك أنه مصحف فاطمة، فالسؤال هنا: هل الحزن مأمور به أم لا؟ فإن كان مأمورًا به، فلماذا نزل ينهاها، ويسليها عند الحزن، وإن لم يكن مأموراً به وليس بحزن شرعي، فقد ارتكبت فاطمةُ ما خالف الشرع، فإن قالوا: إنه حزن طبيعي ناتج من الطبيعة البشرية؛ فيلزم من ذلك أن الحسين أفضل من رسول الله r؛ كونه مأمورًا بالحزن عليه عندهم، وهو ما يجددونه كل عام في عاشوراء.
([1]) تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضي (1/45).
([2]) الآداب الشرعية والمنح المرعية، ابن مفلح (1/4).
([3]) علل الشرائع، الصدوق (ص185 – 186).
([4]) الكافي، الكليني (1/340)، وقال المجلسي عن الرواية في «مرآة العقول»: موثق كالصحيح. (4/52).
([5]) الغيبة، الطوسي (ص329) .
([6]) الكافي، الكليني (1/427)، وقال المجلسي عن الرواية في «مرآة العقول»: مجهول، ورواه علي بن إبراهيم بسندين صحيحين (5/95).
([7]) موسوعة أحاديث أهل البيت، هادي النجفي (2/226).