أولًا: هذا إسنادٌ واهٍ (ضعيفٌ جدًّا):
- فالحكيم الترمذيُّ رحمه الله ترجم له الحافظ الذهبي في «السير» فقال:
«الإِمَامُ، الحَافِظُ، العَارِفُ، الزَّاهِدُ، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيِّ بنِ الحَسَنِ بنِ بِشْر الحَكِيْم التِّرْمِذِيّ. كَانَ ذَا رحلَةٍ وَمَعْرِفَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ وَفضَائِلُ، وَلَهُ حَكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَجَلَالَةٌ، لَوْلَا هَفْوَةٌ بَدَتْ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو عبدِ الرَّحْمَن السُّلَمِيُّ: أَخرَجُوا الحَكِيْمَ مِنْ تِرْمِذٍ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِالكُفْر، وَذَلِكَ بِسبب تَصنيفه كِتَاب «ختم الولَايَة»، وَكِتَاب «علل الشَّرِيْعَة»، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَقُوْلُ: إِنَّ للأَوْلِيَاء خَاتمًا كَالأَنْبِيَاء لَهُم خَاتم، وَإِنَّهُ يُفَضِّل الوِلَايَةَ عَلَى النُّبُوَّة، وَاحتج بِحَدِيْث: (يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ).
فَقَدِمَ بَلْخَ، فَقَبِلُوهُ لموَافقته لَهُم فِي المَذْهَب»([1]). انتهى ملخصًا.
- وأبوه لم نقف له على ترجمةٍ، وقد تفرد بهذا الحديث عن سعد بن حفص، وهو ثقة، روى عنه الحفاظ كالبخاري والذهلي والدوري والدارمي وغيرهم، فانفراد علي بن الحسن والد الحكيم الترمذي عنه بهذا الحديث مما يدل على أنه غير محفوظ.
- ويحيى بن أبي كثير من صغارِ التابعين، من الطبقة الخامسة عند الحافظ، وهم الذين رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت لهم سماع من أحد منهم، وهو ثقة، لكنه يدلس ويرسل([2]).
فهذا إسناد واهٍ لا يصلُحُ ولا في الشواهد.
ثانيًا: روى هذا الحديثَ الخرائطيُّ في «مساوئ الأخلاق»، والضياءُ في «المختارة» من طريقِ عَبَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْغُبَرِيِّ قالَ: ثنا حِبَّانُ بْنُ هِلالٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أنبا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَتِ الْعَرَبُ يَخْدُمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَسْفَارِ، وَكَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَجُلٌ يَخْدُمُهُمَا، فَنَامَ، وَاسْتَيْقَظَا وَلَمْ يُهَيِّئْ طَعَامًا، فَقَالَا: إِنَّ هَذَا لَنَؤُومٌ، فَأَيْقَظَاهُ فَقَالَا: ائْتِ رَسُولَ اللهِ r فَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُقْرِآنِكَ السَّلَامَ، وَهُمَا يَسْتَأْدِمَانِكَ. فَأَتَاهُ، فَقَالَ r: «أَخْبِرْهُمَا أَنَّهُمَا قَدِ ائْتَدَمَا»، فَفَزِعَا، فَجَاءَا إِلَى النَّبِيِّ r، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، بَعَثْنَا نَسْتَأْدِمُكَ، فَقُلْتَ: ائْتَدَمَا، فَبِأَيِّ شَيْءٍ ائْتَدَمْنَا؟ فَقَالَ: «بِأَكْلِكُمَا لَحْمَ أَخِيكُمَا، إِنِّي لَأَرَى لَحْمَهُ بَيْنَ ثَنَايَاكُما»، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَاسْتَغْفِرْ لَنَا، قَالَ: «هُوَ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمَا»([3]).
قال الشيخ الألباني رحمه الله في «الصحيحة»:
«وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقاتٌ رجال مسلم غير أبي بدر الغبري، قال أبو حاتم وتبعه الحافظ: «صدوق»، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وروى عنه جمع من الحفاظ الثقات، وقد توبع، فقال الضياء عقبه: «وقد رواه عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن العرب كانت تخدم بعضهم بعضا في الأسفار... فذكره»([4]). انتهى.
والذي ذكره الضياء معلقًا، وصله أبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» من طريقِ جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، ثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به مرسلًا([5]).
وعفان ثقة حافظ متقن، من رجال الشيخين، وهو من أوثق الناس في حماد بن سلمة، قال يحيى بن معين: من أرادَ أن يكتب حديث حماد بن سلمة، فعليه بعفان بن مسلم([6]).
فروايتُه مقدمةٌ على رواية الغبري الذي غاية ما قيل فيه أنه صدوق.
وعلى ذلك فرواية عفان المرسلة تُعِلّ رواية الغبري الموصولة، ولا تشهد لها.
وللحديث شاهد آخر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في «التوبيخ والتنبيه»: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى عَامِرٍ، عن أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: «زُعِمَ أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ r فِي سَفَرٍ يَخْدِمُهُمَا، وَيخِفُّ بِهِمَا، وَيَنَالُ مِنْ طَعَامِهِمَا، وَأَنَّ سَلْمَانَ لَمَّا سَارَ النَّاسُ ذَاتَ يَوْمٍ، بَقِيَ سَلْمَانُ نَائِمًا، لَمْ يَسِرْ مَعَهُمْ، فَنَزَلَ صَاحِبَاهُ، فَطَلَبَاهُ، فَلَمْ يَجِدَاهُ، فَضَرَبَا الْخِبَاءَ، فَقَالَا: مَا يُرِيدُ هَذَا الْعَبْدُ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ إِلَى طَعَامٍ مُعَدٍّ، وَخِبَاءٍ مَضْرُوبٍ؟ فَلَمَّا جَاءَ سَلْمَانُ، أَرْسَلَاهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ r، وَمَعَهُ قَدَحٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَعَثَنِي أَصْحَابِي لِتُؤْدِمَهُمْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ، قَالَ: «مَا يَصْنَعُ أَصْحَابُكَ بِالْأَدَمِ؟ قَدِ ائْتَدَمُوا»، فَرَجَعَ سَلْمَانُ فَأَخْبَرَهُمَا، فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللهِ r، فَقَالَا: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَصَبْنَا طَعَامًا مُنْذُ نَزَلْنَا، قَالَ: «إِنَّكُمَا قَدِ ائْتَدَمْتُمَا بِسَلْمَانَ بِقَوْلِكُمَا»، فَنَزَلَتْ: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) [الحجرات:12]([7]).
قال الألباني: «هذا مرسل، والسند إليه ضعيف»([8]).
والحاصل: أن الحديث ضعيف، لا يصح إلا مرسلًا، والرواية الأولى لا تصلح في الشواهد لشدة ضعفها، ورواية الوصل من حديث حماد بن سلمة معلولة بالإرسال، ولعله لذلك قال الحافظ العراقي رحمه الله: «روي نحوه مرسلًا»([9]).
ثالثًا: الحديث رواه حَبَّانُ بنُ هلالٍ، عنه، عن ثابت البناني، عن أنس. قاله عباد بن الوليد أبو بدر الغبري([10])، وخالفه عفان بن مسلم، فرواه عن حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلًا، قاله جعفر بن محمد الصائغ([11]).
والمرسَل هو الأشبه بالصواب.
وقد رواه أبو الشيخ الأصبهاني مِن رواية أسباط، عن السدي قال: «زُعِمَ أن سلمان كان مع رجلين مِن أصحاب النبي r» فذكره، مرسلًا([12]).
وقد ذكره الحكيم الترمذي بلا إسنادٍ عن يحيى بن أبي كثير مرسلًا([13]).
فالحديث ليس صحيحًا ولا يثبت.
والألباني رحمه الله نظر إلى ظاهر الإسناد فقال: «وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير أبي بدر الغبري، قال أبو حاتم وتبعه الحافظ: «صدوق». وذكره ابن حبان في الثقات. وروى عنه جمع من الحفاظ الثقات»([14]).
قلتُ: بل الذي قال عنه صدوقٌ إنما هو ابن أبي حاتم، وأمَّا أبو حاتم فقال عنه: «شيخ». وهذا مذكورٌ في ذات الموضع مِن ترجمة الغبري في الجرح والتعديل، فقد قال ابن أبي حاتم: «سمعتُ مِنه مع أبي، وهو صدوق. نا عبد الرحمن قال: سئل أبي عنه، فقال: شيخ».
وعِلَّة هذا الحديث أنَّ أبا بدر الغبري لَزِمَ الطريقَ وسَلَكَ الجادَّةَ فأسنده عن ثابت عن أنس، فخالَفَ مَن هو أوثق منه، وهو عفان بن مسلم؛ إذ رواه عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلًا، فأُعِلَّت روايته.
ومع ذلك يقول الألباني رحمه الله في رواية أبي بدر الغبري لهذا الحديث: «وقد توبع، فقال الضياء عقبه: وقد رواه عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن العرب كانت تخدم بعضهم بعضا في الأسفار. فذكره». اهـ
وهذه هفوةٌ مِن الشيخ غفر الله له؛ إذ كيف تكون المخالفةُ متابعةً! بل رواية عفان تُعِلُّ رواية الغبري لا أنها تقويها.
رابعًا: قال الشيخ خالد الحايك حفظه الله تعالى: «قلت: هذا حديث منكرٌ، وعلى كلام الألباني ملحوظات:
أ- قوله: «من طرق عن أبي بدر...» فيه نظر، فالخرائطي قال: «قالَ أَبُو بَدْرٍ عَبَّادُ بنُ الوَلِيدِ بنِ الغُبَرِيِّ: ثنا حَبَّانُ...»، فعلّقه وعباد من شيوخه، وله روايات كثيرة عنه، فكان الأولى بالشيخ أن يقول: «أخرجه الخرائطي عن أبي بدر...».
وأما الحافظ الضياء فقد رواه بإسناده إلى أَبي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي شُرَيْحٍ، عن أَبي مُحَمَّدٍ يَحْيَى بنِ مُحَمَّدِ بنِ صَاعِدٍ، قال: أخبرنَا أَبُو بَدْرٍ عَبَّادُ بنُ الْوَلِيدِ الغُبَرِيُّ.. ثم ساقه.
فقد تابع ابن صاعد الخرائطي في روايته عن أبي بدر.
ب- قوله: «وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير أبي بدر الغبري» فيه نظر، فإسناده ليس بصحيح، بل ضعيف، بل معلول كما سيأتي بيانه.
ج- قوله: «قال أبو حاتم وتبعه الحافظ: صدوق» فيه وهم، فالذي قال عنه «صدوق» هو ابن أبي حاتم، وأبو حاتم إنما ضعَّفه!
قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (6/88): «سمعت منه مع أبي وهو صدوق»، ثم قال: سئل أبي عنه؟ فقال: «شيخ».
فقول أبي حاتم فيه: «شيخ»، وهذه من مراتب التضعيف كما بيَّنها ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه (2/37)، فإنه قال: «ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى، وإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن ثبت فهو ممن يحتج بحديثه، وإذا قيل له: إنه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية، وإذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية...».
فذكر هنا أن مرتبة من قيل فيه: «صدوق» ومن قيل فيه: «شيخ» ممن يكتب حديثهما وينظر فيه، إلا أن مرتبة «شيخ» دون مرتبة «صدوق»!
وعندما ننظر في حديث أبي بدر نجد أنَّ غيره يخالفه، فحديثه لا يُحتج به إلا إذا توبع عليه من ثقة.
د- قوله: «وروى عنه جمع من الحفاظ الثقات» أراد بذلك رفع مرتبة الراوي للاحتجاجِ به! وهذا لا يرفَع من مرتبة الراوي الحقيقيةِ! فكم من حافظٍ روى عن ضعفاء!
وهؤلاء الحفاظ الذين رووا عنه من الحفاظ المتأخرين، والذين كانوا يجمعون ما يقع لهم من روايات سواء كانت صحيحة أم ضعيفة.
ومن هؤلاء الذين رووا عنه: أبو بكر بن أبي الدنيا، وأحمد بن علي الأبار، ويحيى بن صاعد، وإسماعيل بن العباس الوراق، والقاضي المحاملي، ومحمد بن مخلد»([15]).
خامسًا: لو افترضنا صحة الحديث فقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «استغفر لنا يا رسول الله» مما يعني أنهما مقران بالذنب وطلبا من النبي r أن يستغفر لهما، وفي رواية الحكيم الترمذي أنه استغفر لهما بالفعل.
قال الآلوسي رحمه الله: «وهذا خبر صحيح، ولا طعن فيه على الشيخين، سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده؛ حيث لم يظنا بناءً على حسن الظن فيهما أن تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل، هذا والآية دالة على حرمة الغيبة»([16]).
سادسًا: سؤال: ماذا تعني الغيبة عند الشيعة؟
أخرج الكليني بسنده «عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي الوشاء، عن داود بن سرحان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الغيبة فقال: هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، وتبث عليه أمرًا قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حد»([17]).
ونستفيد من هذه الرواية الشيعية أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يذكرا الرجل في دينه ما لم يفعل، وبالتالي لا يعتبر ما فعلوه غيبةً بحسب دين الرافضة.
وهناك أمر آخر: هل تعلمُ أن الغيبة جائزةٌ عند الرافضة؟!
فعن أبي عبد الله: «أن الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله»([18]).
فكيف يعيبون على الشيخين رضي الله عنهما بما هو مباح في مروياتهم؟! هذا على فرض صحة الحديث أصلًا، لكنها لا تعمى الأبصار!
([1]) سير أعلام النبلاء (13/439 -441).
([3]) «مساوئ الأخلاق»، الخرائطي (ص95)، «المختارة»، الضياء (1697).
([5]) الترغيب والترهيب (2231).
([6]) شرح علل الترمذي (2/707)، وراجع: التهذيب (7/205 -209).
([7]) «التوبيخ والتنبيه» الأصبهاني (249).
([9]) «تخريج الإحياء» (3/180).
([10]) مساوئ الأخلاق (ص180)، الضياء (1696 -1697).
([11]) الترغيب والترهيب (2231)، وأشار إليه الضياء في المختارة عقب الرواية الموصولة.
([12]) التوبيخ والتنبيه (ص249).
([13]) نوادر الأصول (1/283).
([15]) https://rattibha.com/thread/1624207160254124032.
([16]) روح المعاني، الآلوسي (13/159).
([18]) مجمع البيان (2/131).