زعمهم أن الصديق رضي الله عنه كان يســـــــرق من بيت مال المسلمين

الشبهة:

قالوا: لما احتضر أبو بكر قال لعائشة: يا بنية، إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذا الحلاب وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب([1])، وأنه أخذ من بيت المال ستة آلاف، وشجعه على ذلك عمر بن الخطاب([2]).

 

 ([1]) الداء والدواء، ابن القيم (ص92).

 ([2]) علِي إمامنا وأبو بكر إمامكم، محمد الرضي الرضوي (ص260).

الرد علي الشبهة:

لن تجد أحمقَ مِن رافضي؛ إذ كلتا الروايتين من مناقب الصديق، لكن الشيعيَّ يأبى إلا يفيض بما امتلأ به قلبُه غيظًا وحنقًا على أصحاب رسول الله r.

أولًا: للإمام الحق في قبضِ ما يكفيه من بيت مال المسلمين؛ لأنه يعمل ويحترف للمسلمين، فهو أجير يتفرغ لخدمتهم، ولأداء الأمانة الملقاة على عاتقه، فوجب على المسلمين أن يوفروا له ما يسد حاجته نظير تفرغه لهذا العمل.

وقد جعل الله تعالى للعاملين على الصدقات سهمًا منها نظير عملهم، فقال تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا» [التوبة:60] الآية، والحاكم أحدُ هؤلاء العاملين، ليس على الصدقات وحدها، وإنما على سائر الولايات في الدولة الإسلامية، فصار من حقه على الدولة أن تحدد له راتبًا يكفيه وأهله؛ ليتفرغ للمهام الموكولة إليه.

قال ابن كثير في تفسيره: «قال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين: أجرة مثله، أو قدر حاجته، واختلفوا: هل يردُّ إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما: لا؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرًا، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي؛ لأن الآية أباحت الأكلَ من غير بدل، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب، حدثنا حسين، عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلًا سأل رسولَ الله r فقال: ليس لي مالٌ ولي يتيمٌ؟ فقال: «كُلْ من مالِ يتيمك غيرَ مُسْرِف ولا مُبذر، ولا متأثِّل مالًا، ومن غير أن تَقِيَ مالَك -أو قال: تَفدِي مالك- بمالِه»»([1]).

قال ابن جماعة: للسلطان أن يأخذَ من بيت المال كفايتَه اللائقة بحاله وأهله، وعبيده وإمائه، وخدمه وغلمانه، ودوابه، بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير، قال عمر رضي الله عنه: «إني أنزلتُ نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرت أكلتُ بالمعروف»([2]).

ووجه الدلالة من الأثر: أفاد اعتذار أبي بكر عن الأخذ من المال الذي وليه للمسلمين بانشغاله بأمرهم، واحترافه لهم فيه أمرين:

1- أنه ليس بماله؛ إذ لو كان ماله لما احتاج أن يعتذر عن الأخذ منه.

2- أنه مال المسلمين؛ لأنه علل الأخذ منه بانشغاله بأمرهم، وإلا لم تظهر مناسبة بين العلة والمعلول، فكأنه قال: إنما أخذت من مالهم عوض عملي لهم.

ثانيًا: المال الذي أخذه الصديق من بيت المال كان مقابل تفرغه -كما أسلفنا-، وقد أراد حين تولى أن يتاجر، لكن عمر وأبا عبيدة رفضا حتى لا ينشغل عن مصالح المسلمين.

فعن عطاء بن السائب قال: «لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتَّجِر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟!

قال: السوق.

قالا: تصنع ماذا، وقد وليت أمر المسلمين؟!

قال: فمن أين أطعم عيالي؟

قالا: انطلق حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهم، ففرضوا له»([3]).

وعن عائشة قالت: «لما ولي أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن لتعجِزَ عن مئونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، وسأحترف للمسلمين في مالهم، وسيأكل آل أبي بكر من هذا المال»([4]).

ثالثًا: رغم أن هذا المال من حق الوالي ولا شيء فيه، لكن مع هذا أرجعه أبو بكر رضي الله عنه لبيت مال المسلمين؛ تورعًا وزهدًا.

قال الحسنُ البصري: «لما حضرتْ أبا بكر الوفاةُ قال: انظروا كم أنفقت من مال الله، فوجدوه قد أنفق في سنتين ونصف ثمانية آلاف درهم، قال: اقضوها عني، فقضوها عنه»([5]).

ولذا قال عمر رضي الله عنه: «رحمةُ الله على أبي بكرٍ؛ لقد أتعب مَن بعده تعبًا شديدًا»([6]).

وقد سار عمر على نفس طريق الصديق رضي الله عنهما:

فقد روى البيهقي أن عمرَ بنِ الخطاب قال: «إني أنزلتُ نفسي من مال الله سبحانه بمنزلة وليِّ اليتيم؛ إن استغنيتُ استعففت، وإن افتقرت أَكلْتُ بالمعروف»([7]).

وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: «نزلتُ على عمر رضي الله عنه فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنًا أنكره، فقال: ويحك، من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الناقة انفلت عليها ولدُها فشربها، فحلبت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك، تسقيني نارًا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل: هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها»([8]).

ومن جميل ما يُحكى عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: «أنه مرض يومًا، فوصفوا له العسل كدواء، وكان بيت المال به عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداوَ عمرُ رضي الله عنه بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس وصعِد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليَّ حرام، فبكى الناس إشفاقًا عليه، وأذِنوا له جميعًا، ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر، لقد أتعبت الخلفاء بعدك»([9]).

هكذا كانت سيرة الشيخين العظيمين رضي الله عنهما، لكن القوم (فِي قلوبِهم مرضٌ فزادَهُم الله مرضًا).

 

 

 

 ([1]) تفسير ابن كثير (2/216).

 ([2]) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ابن جماعة (ص122).

 ([3]) الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/130).

 ([4]) صحيح البخاري (4/355).

 ([5]) سراج الملوك، الطرطوشي (ص130).

 ([6]) المصنف، ابن أبي شيبة (7/15).

 ([7]) معرفة السنن والآثار، البيهقي (9/287).

 ([8]) تاريخ المدينة المنورة (ص702).

 ([9]) فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب، الصلابي (ص188).