زعمهم أن عليًّا كان أحب إلى النبي صلي الله عليه وسلم من الصديق

الشبهة:

ذكرت الشيعة عدة روايات يظنونها تعارِضُ ما ثبت من أن الصديق كان أحبَّ الرجال إلى رسول الله e، كما ثبت في الصحيحين من حديث عَمْرِو بْنِ العَاصِ t أَنَّ النَّبِيَّ e بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، قال: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ»، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: «أَبُوهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ» فَعَدَّ رِجَالًا([1]).

فذكروا روايات أخرى: «ومن تلك: حديث نصَّتْ فيه أي: أمُّ المؤمنين عائشة- بأن عليًّا أحب إلى النبي صلى الله عليه وآله منها ومن أبيها! وذلك حين وقعت بينها وبين النبي مشاجرة دفعتها لأن ترفع صوتها عليه وتقسم قائلة.

فقد أخرج أحمد والبزار عن النعمان بن بشير قال: «اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ e، فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا وَهِيَ تَقُولُ: وَاللهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ عَلِيًّا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَبِي، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا بِنْتَ فُلَانَةَ، أَلَا أَسْمَعُكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ e»([2]).

وفي رواية النسائي عَن النعمان بن بشير قال: «أَسْتَأْذن أَبُو بكر على النَّبِي e فَسمع صَوت عَائِشَة عَالِيا وَهِي تَقول: وَالله لقد علمت أَن عليًّا أحبُّ إِلَيْك من أبي، فَأَهوى إِلَيْهَا أَبُو بكرٍ ليَلْطِمَهَا وَقَالَ: يَا ابْنةَ فُلَانَة، أَرَاكِ ترفعينَ صَوْتكِ على رَسُول الله e»([3]).

كما أنها نصت على كونها لا تعلم رجلًا أحب إلى النبي من عليٍّ عليه السلام، ولا تعلم امرأةً أحب إليه من فاطمة صلوات الله عليها.

أخرج الحاكمُ بسندهِ عن جميع بن عمير قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ أُمِّي عَلَى عَائِشَةَ، فَسَمِعْتُهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَهِيَ تَسْأَلُهَا، عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَتْ: «تَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ t مِنْ عَلِيٍّ، وَلَا فِي الْأَرْضِ امْرَأَةٌ كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ e مِنِ امْرَأَتِهِ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»([4]).

وفي رواية الترمذي عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ عَمَّتِي عَلَى عَائِشَةَـ فَسُئِلَتْ: أَيُّ النَّاسِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ e»؟ قَالَتْ: «فَاطِمَةُ»، فَقِيلَ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَتْ: «زَوْجُهَا»، إِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا»([5]).

وفي رواية النسائي([6]) وغيره عن جَمِيعٍ وَهُوَ ابْن عُمَيْر قَالَ: «دخلتُ مَعَ أُمِّي على عَائِشَة وَأَنا غُلَام، فَذكرت لَهَا عليًّا فَقَالَتْ: مَا رَأَيْت رجلًا أحبَّ إِلَى رَسُول الله r مِنْهُ، وَلَا امْرَأَة أحب إِلَى رَسُول الله r مِنِ امْرَأَته»([7]).

قال الشيعيُّ معلقًا: «فلا أقل بعد هذه الأحاديث من التساقط للتعارض، مع أنه يمكن ترجيح هذه الطائفة من أحاديث عائشة بأن عليًّا وفاطمة كانا الأحب؛ لأن فيها شهادةً لخصومها، والحال معكوسة هناك»([8]).

 

 ([1]) صحيح البخاري (٥/٥)، صحيح مسلم (١٨٥٦/٤).

 ([2]) مسند أحمد (30/373) ط الرسالة.

 ([3]) خصائص علي، النسائي (ص127).

 ([4]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم (3/167)، وجميع بن عمير متهم.

 ([5]) سنن الترمذي (٧٠١/٥) ت شاكر، وجميع بن عمير متهم.

 ([6]) أشار الخبيث في الهامش إلى كتاب «سنن النسائي» والرواية ليست في «السنن» وإنما في «الخصائص».

 ([7]) خصائص علي، النسائي (ص١٢٧).

 ([8]) الفاحشة (ص280 - 282).

الرد علي الشبهة:

أولًا: الرواية الأولى: اختلف في إسنادها ومتنها.

قال في «أنيس الساري»: «أخرجه أحمد (4/271 - 272) وفي «فضائل الصحابة» (ص38): عن وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن العَيزار بن حُريث، عن النعمان بن بشير قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي e فسمع عائشة وهي رافعة صوتها على رسول الله e، فأذن له فدخل فقال: يا ابنة أم رُومان، وتناولها، أترفعين صوتك على رسول الله e؟ قال: فحال النبي e بينه وبينها، قال: فلما خرج أبو بكر جعل النبي e يقول لها يترضاها: «أَلَا تَرَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَكِ» قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه فوجده يضاحكها، قال: فأذن له فدخل، فقال له أبو بكر: يا رسول الله، أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في حربكما».

ورواته ثقات إلا أنّ أبا إسحاق السبيعي كان مدلسًا ولم يذكر سماعًا من العيزار، وكان قد اختلط أيضا، وسماع إسرائيل منه بعد اختلاطه. ورواه يونس بن أبي إسحاق واختلف عنه:

فرواه أبو نُعيم الفضل بن دُكين عن يونس عن العيزار عن النعمان: أخرجه أحمد (4/275) وفي «الفضائل» (39) والبزار (3275) والطحاوي في «المشكل» برقم (5309) وابن قانع في «الصحابة» (3/144).

وتابعه عمرو بن مُحَمَّدٍ العنقزي، أنا يونس به: أخرجه النسائي في «الكبرى» (ص9155) وفي «خصائص علي» (ص110).

ورواه حجاج بن مُحَمَّدٍ الأعور، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن العيزار، عن النعمان: أخرجه أبو داود برقم (4999)([1]).

فأنت ترى أن يونس بن أبي إسحاق اختلف عنه في إسناده، ففي إحدى روايتي أحمد، وهو طريق أبي نعيم عنه، صرح بالسماع من العيزار، بخلافِ طريق إسرائيل عنه، وكذا رواية النسائي وأبي داود والبزار، فليس فيها التصريح بالسماع، ومعلوم أن يونس بن أبي إسحاق يتوسع في التصريح بالسماع ففي «تهذيب التهذيب»: «وقال بندار عن سلم بن قتيبة: قدمت من الكوفة فقال لي شعبة: من لقيت؟ قلت: فلان وفلان ويونس بن أبي إسحاق، قال: ما حدثك؟ فأخبرته وقلت: قال: ثنا بكر بن ماعز فسكت ساعة ثم قال: فلم يقل لك: ثنا عبد الله بن مسعود؟»([2]).

فبين شعبة هنا أن يونس يتوسع في ذكر (حدثنا) حتى فيمن لم يسمع منه، ولذلك قال له تعجبًا «فلم يقل لك: ثنا عبد الله بن مسعود؟!».

فهذا اختلاف في السند.

أما الاختلاف في المتن فقد جاء هذا الحديث عند أبي داود برقم (4999): حدثنا يحيى بن معين، ثنا حجاج بن محمد، ثنا يونس بن ابي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، عن النعمان به (دون ذكر اللفظة موضع الاحتجاج). قال نور الدين الهيثمي: «قُلْتُ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، خَلا قَوْلِهَا: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عَلِيًّا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَبِي»([3]).

وكذلك روى هذا الحديث إسرائيل بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن النعمان به «دون هذه اللفظة» كما عند أحمد (4/272) برقم (18394) وفي فضائل الصحابة لأحمد برقم (38).

وإسرائيل مقدم على أبيه يونس في حديث أبي إسحاق كما قال أحمد، ويونس بن أبي إسحاق قد تكلم العلماء في حفظه:

«قال صالح بن أحمد عن علي بن المديني: سمعت يحيى وذكر يونس بن أبي إسحاق فقال: كانت فيه غفلة شديدة، وكانت فيه سخنة»([4]).

وقال الأثرم: «سمعت أحمد يضعف حديث يونس عن أبيه، وقال: حديث إسرائيل أحب إلي منه، وقال أبو طالب عن أحمد: في حديثه زيادة على حديث الناس، قلت: يقولون إنه سمع في الكتب فهيرًا، ثم قال إسرائيل: إنه قد سمع وكتب فلم يكن فيه زيادة مثل يونس، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: حديثه مضطرب، وقال أيضًا: سألت أبي عن عيسى بن يونس قال: عن مثل عيسى تسأل؟! قلت: فأبوه يونس قال كذا وكذا»([5]).

وقال أبو حاتم: «كان صدوقًا، إلَّا أنه لا يحتج بحديثه، وقال النسائي: ليس به بأسٌ، وقال ابن عدي: له أحاديث حسان، وروى عنه الناس، وحديث أهل الكوفة عامته يدور على ذلك البيت. وذكره ابن حبان في «الثقات» ووثقه ابن سعد، وابن معين، وقال الساجي: صدوق، كان يقدِّم عثمانَ علَى علِي. وضعفه بعضهم، وقال أبو أحمد الحاكم: ربما وَهِمَ في روايته، وقال العجلي: جائزُ الحديث، وقال ابن معين: ليس به بأس»([6]).

وعليه: فعامة أهْلِ العلم أن حديث يونس بن أبي إسحاق لا يحتج به وإن كان صدوقًا في نفسه، فكيف وقد خالف ما هو أصح منه وأشهر؟!

فنقول: إذا صح إسناد في هذا الأثر، فلا يعني الحكم بالصحة لكل كلمة فيه؛ وإلا فإن اللفظة موضع الاحتجاج خلت منها عدة روايات، وهذا أظنه- الذي قصده الإمام أحمد لما حكم على حديث يونس بالاضطراب، كما سبق نقله.

ونخرج من هذا: إلى أن هذه جملة: «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ عَلِيًّا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَبِي» لفظة منكرة لا يحتج بها.

قال الشيخ الحويني حفظه الله: «إسنادُه صحيحٌ على نكارةٍ في جملة من متنه، كما يأتي إن شاء الله، وعبدة ثقة، وكذا عمرو، ومن بعده، ولكن اختلف في إسناد هذا الحديث: فرواه يونس عن العيزار عن النعمان أخرجه البزار (3/194 -195) من طريق أبي نعيم ثنا يونس به، وخالفه ابنه إسرائيل، فرواه عن أبي إسحق عن العيزار، أخرجه أحمد (4/271 -272).

واختلف على يونس فيه، فرواه عمرو بن محمد العنقري عنه عن أبي إسحق، أخرجه أبو داود برقم (4999) والوجه الأول أرجح، وهو الخالي من ذكر أبي إسحق، ثم إن قول عائشة: «لقد علمت أن عليًّا أحب إليك مني» هذه الجملة -عندي- منكرة، وسائر الروايات لم تذكر الأمر الذي جعل عائشة رضي الله عنها ترفع صوتها على النبي r»([7]).

وعليه: فلا نتكلَّف الجمع بين حديثٍ في أعلى درجات الصحة، والذي أثبت أن أحب الرجال إلى رسول الله e أبو بكر الصديق، وأحب النساء إليه عائشة، وبين اللفظة الأخرى التي هي موضع الاحتجاج؛ لأن الحفاظ قد حكموا عليها بالنكارة.

وإذا تكلفنا الجمع بين الروايتين فما هو إلا تنزلٌ.

ثانيًا: لو صح الحديثان لقلنا برجحان رواية الصحيحين بلا شك، والرواية عن عَمْرِو بْنِ العَاصِ t أَنَّ النَّبِيَّ e بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السُّلاَسِلِ، قالَ: «فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: «عَائِشَةُ»، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: «أَبُوهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب»، فَعَدَّ رِجَالًا»([8]).

فهذه الرواية أرجح بلا شك؛ وذلك لأمرين:

١- أنها في الصحيحين، وما فيهما يقدم عند التعارض على غيرهما؛ لأن الأصح يقدم على الصحيح إجماعًا، قال ابن الصلاح -وهو يتكلم على مراتب وأقسام الصحيح-:

«فَأَوَّلُهُمَا: صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا.

الثَّانِي: صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، أَيْ عَنْ مُسْلِمٍ.

الثَّالِثُ: صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، أَيْ عَنِ الْبُخَارِيِّ.

الرَّابِعُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا لَمْ يُخْرِجَاهُ.

الْخَامِسُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُخْرِجْهُ.

السَّادِسُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَمْ يُخْرِجْهُ.

السَّابِعُ: صَحِيحٌ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

هَذِهِ أُمَّهَاتُ أَقْسَامِهِ، وَأَعْلَاهَا الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ كَثِيرًا: «صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ»، يُطْلِقُونَ ذَلِكَ وَيَعْنُونَ بِهِ اتِّفَاقَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، لَا اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ لَازِمٌ مِنْ ذَلِكَ وَحَاصِلٌ مَعَهُ؛ لِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى تَلَقِّي مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ»([9]).

٢- روايةُ الصحيحين قولٌ، وروايةُ أحمد تقريرٌ، والقولُ مقدم على التقرير عند التعارض، قال الحافظ: «لَكِنْ يُرَجَّحُ حَدِيثَ عَمْرٍو أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ e وَهَذَا مِنْ تَقْرِيرِهِ»([10]).

ثانيًا: يمكن الجمعُ باختلافِ جهة المحبة، فيكون عليٌّ وفاطمةُ أحبَّ أهل البيت جميعًا إلى رسول الله e، وأبو بكر وعائشة أحبَّ الناس جميعًا، قال الحافظ ابن حجر: «وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِاخْتِلَافِ جِهَةِ الْمَحَبَّةِ، فَيَكُونُ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ عَلَى عُمُومِهِ بِخِلَافِ عَلِيٍّ»([11]).

ثالثًا: أن الأحبةَ قد يتعددون، وقد ثبت عن النبي e في غير ما حديث يذكر فيه أحب الأعمال إلى الله فيغاير بينها:

* ومنه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ e: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ»([12]).

* ومنه: عن عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ e: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»([13]).

* ومنه: عند أبي يعْلَى: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ»([14]).

* ومنه: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ»([15]).

فقد تتعدد الأحبةُ دون تعارض فيكون أحبَّ الرجال إلى النبي e أبو بكر وعلي، وأحب النساء عائشة وفاطمة رضي الله عنهم.

رابعًا: حتى لو رجحنا أن عليًّا وفاطمة أحب من أبي بكر وعائشة عند رسول الله e، فهذا يثبت المحبة للصديق وحبيبة الحبيب، ولم يكن رسول الله يحبُّ إلا طيبًا.

وهذا كله -كما قلنا- تنزلًا، وإلا فاللفظة موضع الاحتجاج لا تصح، ولو قلنا بصحة رواية الحاكم تنزلًا فنقول- كما قال الطحاوي -:«أنها «أخبرت» عَلَى مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهَا، مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ r، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ»([16]).

وهو الذي ثبت خلافُه من حديثِ عمرٍو وغيرِه، وإلا فالبحث ساقط بضعف رواية الحاكم، قال الطحاوي أيضًا: «وَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ e أَبَا بَكْرٍ فِيهَا، بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُهُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ e، وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مَوْضِعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ e مِنْ مَحَبَّةٍ، وَمِنْ فَضْلٍ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى سَائِرِ أَصْحَابِهِ سِوَاهُمَا، وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ»([17]).

خامسًا: أما باقي الروايات: فكلُّها كما ذكر صاحب الشبهة من طريق جُميع بن عمير، وهو ضعيفٌ لا يُحتج به على الراجح إذا لم يَرْوِ ما يؤيد بدعته وهي التشيع، فإذا روى ما يؤيد بدعته فحديثه مردود إجماعًا.

قال الحافظ ابن حجر: «قال ابن عدي: هو كما قال البخاري في أحاديثه نظر، وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد... وقال ابن نمير: «كان من أكذب الناس، كان يقول: أن الكراكي تفرخ في السماء ولا يقع فراخها»، رواه ابن حبان في كتاب «الضعفاء» بإسناده، وقال: «كان رافضيًّا يضع الحديث»، وقال الساجي: «له أحاديث مناكير، وفيه نظر، وهو صدوق». وقال العجلي: «تابعي ثقة»، وقال أبو العرب الصقلي: «ليس يتابع أبو الحسن على هذا»([18]).

فأنت ترى تضعيفَ أهلِ العلم له، ويكفي أن البخاري قال: «فيه نظر»، فقد قال الذهبي رحمه الله: «وكذا عادتُه -يعني البخاري- إذا قال: «فيه نظر» بمعنى أنه متهم، أو ليس بثقة، فهو عنده أسوأ حالًا من الضعيف»([19]).

وقال: «قال البخاري: فيه نظر، ولا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالبًا»([20]).

وقال الشيخ المعلمي رحمه الله: «وكلمة «فيه نظر» معدودة من أشد الجرح في اصطلاح البخاري»([21]).

ثم هذا الحديث مما يؤيد بدعته فتردُّ اتفاقًا، قال الحافظ ابن حجر: «وينبغي أن يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقًا ولم يكن داعية، بشرط ألا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشيدها، فإنا لا نأمن حينئذ عليه من غلبة الهوى»([22]).

وقال المعلمي عن ابن دقيق العيد: «إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخماداً لبدعته، وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفنا من صدقه، وتحرزه عن الكذب، واشتهاره بالتدين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته، فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره»([23]).

وعليه تسقط كل روايات الرافضي، ويسقط كل ما بناه عليها بفضل الله تعالى.

سابعًا: أجمعَ الصحابة على أنه لا يقدَّم علَى أبي بكرٍ في الفضل أحد، وهذا من علمهم بأنه لم يكن أحد يتقدم أبا بكر في قلب رسول الله e.

فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ e لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ e لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ»([24]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَفِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ لَمْ يَصْحَبْهُ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ؛ وَيَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي الْعَرِيشِ غَيْرُهُ وَقَالَ: «إنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا»، وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الصِّحَاحِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «كُنْت جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ e إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرْفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ e: «أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ» فَسَلَّمَ، وَقَالَ: إنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْت إلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْت فَسَأَلْته أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ فَأَتَيْتُك فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَك ثَلَاثًا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ e فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ e يَتَمَعَّرُ وَغَضِبَ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَنَا كُنْت أَظْلَمَ يَا رَسُولَ اللهِ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ e: «إنَّ اللهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. قَالَ الْبُخَارِيُّ: غَامَرَ سَبَقَ بِالْخَيْرِ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «وُضِعَ عُمَرُ عَلَى سَرِيرِهِ فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُثْنُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ؛ وَأَنَا فِيهِمْ فَلَمْ يَرُعْنِي إلَّا رَجُلٌ قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفَتّ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ؛ وَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْت أَحَدًا أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ U بِعَمَلِهِ مِنْك؛ وَأَيْمُ اللهِ إنْ كُنْت لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللهُ مَعَ صَاحِبَيْك. وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت كَثِيرًا مَا أَسْمَعُ النَّبِيَّ e يَقُولُ: جِئْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَإِنْ كُنْت أَرْجُو أَوْ أَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَك اللهُ مَعَهُمَا»([25]).

فهذه نصوص صحيحة صريحة واضحة في تقديم الصديق t على جميع الصحابة في المحبة وغيرها.

 

 

 

 ([1]) أنيس الساري تخريج أحاديث فتح الباري، نبيل البصارة (1/541).

 ([2]) تهذيب التهذيب، ابن حجر (11/433 - 434).

 ([3]) كشف الأستار عن زوائد البزار (3/195).

 ([4]) تهذيب التهذيب، ابن حجر (11/433).

 ([5]) تهذيب التهذيب (11/434).

 ([6]) تهذيب التهذيب (11/434).

 ([7]) انظر: تعليقه على خصائص علِي (ص106).

 ([8]) صحيح البخاري (5/5)، صحيح مسلم (4/1856).

 ([9]) مقدمة ابن الصلاح (ص٢٨).

 ([10]) فتح الباري، ابن حجر (7/27).

 ([11]) فتح الباري، ابن حجر (7/27).

 ([12]) صحيح البخاري (8/98).

 ([13]) صحيح مسلم (1/190).

 ([14]) مسند أبي يعلى الموصلي (12/229).

 ([15]) المعجم الكبير، الطبراني (20/106).

 ([16]) شرح مشكل الآثار (13/330).

 ([17]) شرح مشكل الآثار (13/330).

 ([18]) تهذيب التهذيب (2/112).

 ([19]) الموقظة (ص30).

 ([20]) الميزان (2/34).

 ([21]) التنكيل (1/270).

 ([22]) لسان الميزان (1/11).

 ([23]) التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل (ص236)، فتح المغيث (ص140).

 ([24]) صحيح البخاري (5/15) ط السلطانية.

 ([25]) مجموع الفتاوى (4/401- 402).