أولًا: هذه الرواية باطلة لا تصح، وفيها أربع علل:
- محمد بن عمرو الحراني، مجهول.
- رواية عتاب بن بشير عن خصيف منكرة.
- خصيف، ضعفه كثير من أهل العلم.
- لا يعرف لمقسم سماع من أم المؤمنين عائشة كما قال البخاري.
وإليك التفصيل:
- محمد بن عمرو بن خالد الحراني، مجهولُ الحال والرتبة، ولم أجد له ترجمة في كتب الرجال تبين حاله.
قال محقق الدعاء للطبراني: «لم أقف له على ترجمة»([1])، وعليه فالرجل مجهول الحال؛ حيث لم يرد فيه جرح ولا تعديل من الحفاظ.
- عتاب بن بشير، قال الإمام أحمد لما سئل عنه: «أرجو ألَّا يكون به بأس. روى بأخرة أحاديث منكرة، وما أرى أنها إلا من قبل خصيف»([2]). وقال أيضًا: «أحاديث عتاب عن خصيف منكرة»([3]). وقال النسائي: «ليس بذاك في الحديث»([4]).
- خصيف بن عبد الرحمن الحراني ضعيف، قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد بن حنبل: «ليس بحجة ولا قوي في الحديث. وقال أبو طالب، عن أحمد بن حنبل: ضعيف الحديث»([5]).
وقال أبو حاتم: «صالح يخلِط، وتُكُلِّمَ فيه بسوء حفظه. وقال النسائي فيما قرأت بخطه: عتاب ليس بالقوي، ولا خصيف»([6]).
قال المنذري: «في إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني، وهو ضعيف»([7])، قال الزيلعي: «وخصيف غير محتج به»([8])، وقال أيضًا: «وخصيف بن عبد الرحمن الحراني كنيته أبو عون، ضعفه غير واحد»([9])، وقال الحافظ: «خصيف: صدوق سيئ الحفظ، خلط بأخرة، ورُمِيَ بالإرجاء» ([10])، وذكره برهان الدين الحلبي في المختلطين([11]).
وقال ابن حبان: «خصيف بن عبد الرحمن... تركه جماعة من أئمتنا واحتج به جماعة آخرون، وكان خصيفٌ شيخُنَا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروي، وينفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف في أمره قبول ما وافق الثقات من الروايات وترك ما لم يتابع عليه وإن كان له مدخل في الثقات، وهو ممن أستخير الله فيه»([12]).
وقال الألباني: «وهذا إسناد فيه ضعف، رجاله ثقات، غير أن خصيفًا وهو ابن عبد الرحمن الجزري سيئ الحفظ»([13]).
- مقسم بن بجرة، لم يَرْوِ عن عائشة، وقد ذكر الحافظ المِزِّيُّ أن له روايةً عن عائشة في سنن النسائي([14]).
وروايته تلك التي أشار إليها الحافظ المِزي مرسلة، وليس له في الكتب الستة غيرها، وأما الرواية التي معنا فلا يحتج بها في سماع مقسم من عائشة، فهي ساقطة كما مَرَّ بيانه، ولا يعرف لمقسم سماع من عائشة، وهذا نصَّ عليه البخاري، ونقله الحافظ المزي وابن حجر، قال في تهذيب التهذيب:« وقال البخاري في التاريخ الصغير: لا يعرف لمقسم سماع من أم سلمة ولا ميمونة ولا عائشة»([15]).
وعليه فالرواية فضلًا عن ضعف رجالها فهي منقطعة.
وهذه كلها علل في الرواية، كل واحدة منها كافية لردها، فكيف إذا انضم الجميع؟!
ثانيًا: موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الإفك.
أما موقف الصديق رضي الله عنه من الإفك، فقلبي عند قلبه، فهو العفيف الصديق، الدَّيِّنُ الرفيق، الوالد الشفيق، فسبحان من ابتلاه بمثل هذا الأمر! يُرْمى رضي الله عنه وأرضاه في شرفه، ويتهم في عرض ابنته، وزوج نبيه وخليله r، فسبحان الله العظيم، سبحان من قدر الإفك على هؤلاء؛ نبي كريم، وطاهرة عفيفة، وصِدِّيق ذي نسب ومكانة!
قال الحافظ: «وفيه تثبُّتُ أبي بكر الصديق في الأمور؛ لأنه لم يُنْقَلْ عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهرًا كلمةٌ فما فوقها، إلا ما ورد عنه في بعض طرق الحديث أنه قال: والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية، فكيف بعد أن أعزَّنَا الله بالإسلام؟! وقع ذلك في حديث ابن عمر عند الطبراني»([16]).
قال الشيخ سليم بن عيد الهلالي في تعليقه على كتاب «حديث الإفك» للمقدسي: «ومما ينبغي تسجيله باعتباره درسًا يستفاد منه في هذه الحادثة موقف أبي بكر رضي الله عنه:
- لم يخبر ابنته بما حدث.
- تأثره الشديد وبكاؤه مع ابنته؛ مما يدل على رأفته، ورحمته، وشدته في بعد الأذى عنها.
- اهتمامه بها، وجلوسه عندها؛ لا سيما عند اشتداد الأزمة في أيامها الأخيرة.
- تسليمه المطلق لرسول الله r، وإيمانه العميق بالوحي.
- تثبته في الأمور وبعد نظره، ورسوخه في فقه العواقب ومآلات الأفعال، مع اقتناعه ببراءة ابنته»([17]).
قال ابن حجر: «وفي رواية هشام بن عروة: فاستعبرتُ فبكيتُ، فسمِعَ أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ، فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلَغَها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليكِ يا بنيةُ إلا رجعتِ إلى بيتِكِ فرجعت»([18]).
ثالثًا: من أدل الأدلة على كذب تلك الرواية ما صح في روايات البخاري ومسلم([19]) وغيرهما أن أم المؤمنين قالت لأبيها: «أجب عني رسول الله»، وفي رواية: «أجيبا عني رسول الله».
قال العراقي: «قولها لأبويها: «أجيبا عني» فيه تفويض الكلام إلى الكبار؛ لأنهم أعرف بمقاصده واللائق بالمواطن منه، وأبواها يعرفان حالها، وأما قول أبويها: «لا ندري ما نقول» فمعناه: أن الأمر الذي سألتهما عنه لا يقفان منه على زائد على ما عند رسول الله r قبل نزول الوحي من حسن الظن بها والسرائر إلى الله تعالى، ورُوِّينَا من طريق عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا بنية، وكيف أعذرك بما لا أعلم؟! وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت ما لا أعلم؟!
وروى أبو بكرٍ البزارُ في مسنده بإسناد رجالِه رجالِ الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها لما أنزل عُذْرها قبَّل أبو بكر رأسَها فقالت: أَلَا عذرتَنِي؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني؟»([20]).
وقال ابن حجر: «وروى الطبري وأبو عوانة من طريق أبي حصين عن مجاهد قال: قالت عائشة لما نزل عذرها -فقبل أبو بكر رأسها-: ألا عَذَرْتَني؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم قولَهُ؟! فأنزل الله تعالى: [ النور:11] العشر الآيات كلها»([21]).
وقال في منار القاري: «قلت لأبي: أجب عني رسول الله r، قال: والله ما أدرى ما أقول»؛ لأن الصدمة النفسية كانت قاسيةً عنيفةً غلبت عليه وعلى تفكيره، وأعجزت لسانه عن الإجابة، فهو في موقف يحَار فيه أعظم الرجال؛ ماذا يقول؟ وبماذا يجيب؟ إذا نظر هنا وجد رسول الله r ومقامه فوق كل مقام، وإذا نظر هناك وجد عائشة ابنته الكريمة الشريفة الطاهرة المطهرة تتعرض لهذه التهمة الشنيعة، أمران يحق للمرء أن يقول أمامهما لا أدري ما أقول»([22]).
رابعًا: ورد أن النبي r قد أقام الحد على من قذف أم المؤمنين، ولم يقل أحد قط بأن الصديق قد أقيم عليه ذلك، عياذًا بالله.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة وعبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، وساق الحديث، وفي آخره: «ويقول: أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك، قالت: قلت: بحمد الله، ثم خرج إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن في ذلك، ثم أمر بمِسْطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم»([23]).
وعن أبي هريرة قال: «كان رسول الله r إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه...»، وساق الحديث، وفيه: «وأنزل الله في ذلك عشر آيات: [النور:11]. قال: فحد رسول الله r مِسطحًا، وحَمْنة، وحسانًا» رواه البزار، وفيه محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات»([24]).
قال الدكتور قريبي: «فهذان الحديثان صريحان في إقامة الحد على هؤلاء المذكورين؛ تطهيرًا لما علق بهم من درن مقالة أهل الإفك والافتراء، وكلا الحديثين حسن لذاته.
وعلى هذا فلا يلتفت إلى قول من قال بأن الحد لم يقم عليهم مستندًا إلى أن الحد لا يثبت إلا ببينة أو إقرار، فهذان الحديثان من أبيَنِ البينات في ذلك»([25]).
وذَكَر محسنٌ الأمين أن النبي r قد أقام الحد على القاذفين، فقال: «وقع في هذه الغزاة حديث الإفك، وحاصله أن عائشة أم المؤمنين كانت مع النبي r في هذه الغزاة.... ثم نزل عليه الوحي ببراءتها بقوله تعالى: [النور:11] الآيات العشر وأقيم الحد على من قذفها كحسانٍ ومسطحٍ وغيرهما، لكنهم لم يذكروا أنه أقيم على عبد الله بْنِ أُبي»([26]).
فإقامة الحد على القاذفين مما يبين كذب ذلك الكلام المنسوب للصديق رضي الله عنه.
([1]) الدعاء، الطبراني- تحقيق الدكتور محمد سعيد بن محمد حسن البخاري (ص611).
([2]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (19/287).
([3]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (19/288).
([4]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (19/288).
([5]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (8/258).
([6]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (8/259).
([7]) مختصر سنن أبي داود للمنذري- ت حلاق (1/515).
([8]) نصب الراية (2/345).
([9]) نصب الراية (3/123).
([10]) تقريب التهذيب (ص193).
([11]) الاغتباط بمن رمي من الرواة بالاختلاط (ص109).
([12]) المجروحين لابن حبان (1/287).
([13]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (4/432).
([14]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (28/462).
([15]) تهذيب التهذيب (10/289).
([16]) فتح الباري، ابن حجر (8/480).
([17]) حديث الإفك، المقدسي، ت سليم بن عيد الهلالي (ص147).
([18]) فتح الباري، ابن حجر (8/467).
([19]) صحيح البخاري (3/173)، صحيح مسلم (4/2129).
([20]) طرح التثريب في شرح التقريب (8/67).
([21]) فتح الباري، ابن حجر (8/477).
([22]) منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، حمزة محمد قاسم (4/40).
([23]) سيرة ابن هشام- ت السقا (2/297 - 302).
([24]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/230).
([25]) مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، إبراهيم بن إبراهيم قريبي (ص239).
([26]) أعيان الشيعة (1/388).