أولًا: ثبت بالتواتر القطعي الذي لا مجال لرده أن الصديق كان أميرَ الناس على الحج سنة تسعٍ من الهجرة، وهذا التواتر لا يرده خلاف الشيعة في ذلك، مع أننا سننقل من كتبهم ما يؤيد ذلك أيضًا، مع التنبيه على أنه حتى لو ثبت إجماعهم على خلاف الثابت عند المسلمين فإن خلافهم لنا ليس إلا كخلاف اليهود والنصارى لا يعتد به في شيء.
قال ابن حزم: «فَإِن الروافض لَيْسُوا من الْمُسلمين، إِنَّمَا هِيَ فرق حدث أَولهَا بعد موت النَّبِي r بِخمْس وَعشْرين سنة، وَكَانَ مبدؤها إِجَابَة من خذله الله تَعَالَى لدَعْوَة من كَاد الْإِسْلَام، وَهِي طَائِفَة تجْرِي مجْرى الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الْكَذِب وَالْكفْر»([1]).
وفي «صحيح البخاري» من حديثِ أبي هريرة: «قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ، في مُؤَذِّنِينَ يوْمَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ r عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِـ «براءة». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَان»([2]).
قال البغويُّ في تفسيرِه: «وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ هُوَ الْأَمِيرَ: ... وسَاقَ إسنادَهُ إلى روايَةِ البخَارِيِّ»([3]).
وفي «سنن البيهقي»: «قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثنا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَحُكِيَ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمِنًى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ إِسْنَادُهُ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ،...»([4]).
وقد اعترَفَت الشيعة بإمارة أبي بكر للحج في ذلك العام.
قال المؤرخ الشيعيُّ المسعودي([5]) في «مروج الذهب»: «ثم كانت سنة تسع، فحج بالناس أبُو بكر الصديق رضي الله عنه، حين خرج من المدينة مع ثلاثمائة، وبعث رسول الله r معه عشرين بَدَنَةً، ثم أرسل على أثره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأدركه بالعرج ومعه سورة براءة، فأذن بها يوم النحر عند العقبة، فأقام أبو بكر الحج، وخطب أبو بكر بمكة قبل التروية بيوم، ويوم عرفة بعرفة، ويوم النحر بمنى»([6]).
وقال شيخُهُم الشيعيُّ علِي كاشف الغطاء: «وفي السنة التاسعة حج بالناس أبو بكر»([7]).
وقد اعترف الشريفُ المرتضى بأن أكثر الأخبار إنما تنص على أن أمير الناس في تلك السنة هو الصديق رضي الله عنه، ولم يخالف فيه إلا بعض الإمامية الذين رووا عكس ذلك.
يقول الشريف المرتضى: «إِنا لا ننكر أن تكون أكثر الأخبار واردةً بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة، إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك، وأن أمير المؤمنين عليه السلام كان أمير الموسم في تلك السنة، وأن عزله الرجل كان عن الأمرين، فاستكبار ذلك وفيه خلاف لا معنى له»([8]).
قلت: وقد ذكرنا أن خلاف الرافضة مع المسلمين لا يعتد به، فكيف بخلاف بعضهم؟!
ثانيًا: الثابت عن علِي نفسه أنه أُرسل فقط لبلاغِ البراءة لحل العقد مع المشركين، وهو ما رواه الترمذي في سننه: «عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا: بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي الحَجَّةِ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: أَلَّا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ r عَهْدٌ فَهُوَ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا». وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ([9]).
فأنت ترى أن عليًّا لم يقل إنه بعث بإمارة الناس وهي الأصل وما دونها فرع، فلا يمكن إهمال الأصل، مع ذكر تفاصيل الفرع، فلو كان النبي r قد بعثه أميرًا لذكره من بابٍ أولى.
ثالثًا: الروايات التي ذكروها في عزل الصديق أو رجوعه عن الحج لا تصح لا عند أهل السنة ولا عند الشيعة.
وإليك بعض ما استدلوا به:
الروايةُ الأولى: عند ابن حبان قال: «أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى عَبْدَانُ بِعَسْكَرِ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَوْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ r أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ضَجْنَانَ سَمِعَ بُغَامَ نَاقَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَعَرَفَهُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنِي؟ قَالَ: خَيْرٌ، إِنَّ النَّبِيَّ r بَعَثَنِي بِبَرَاءَةَ، فَلَمَّا رَجَعْنَا انْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي؟ قَالَ: «خَيْرٌ أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ، [وَأَنْتَ مَعِي عَلَى الحَوْضِ] غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ غَيْرِي، أَوْ رَجُلٌ مِنِّي - يَعْنِي عَلِيًّا»([10]).
وهذه رواية ضعيفة.
قال المحقق في الهامش: «إسناده ضعيف، أبو ربيعة: اسمه زيد بن عوف القطعي، روى عن أبي عوانة، وحماد بن سلمة، وعون بن موسى، وهشيم، وشريك، وغيرهم، ضعفه غير واحد، وذكره المؤلف في «المجروحين» (1/311)، فقال: كان ممن اختلط بآخره، فما حدث قبل اختلاطه فمستقيم، وما حدث بعد التخليط ففيه المناكير، ويجب التنكب عما انفرد به من الأخبار، وكان يحيى بن معين سيئ الرأي فيه»([11]).
وهناك مَن صحح الرواية لغيرها، كالشيخ الألباني رحمه الله([12]).
وعلى القول بصحة الرواية فهي دليل لنا على أن عليًّا إنما كان فقط مأمورًا ببلاغ براءة، وكان الصديق هو الأمير على الناس ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولذلك جاء نص الرواية: «فَلَمَّا رَجَعْنَا انْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لِي؟ قال: «خيرٌ، أنتَ صاحبي في الْغَار، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَلِّغُ غَيْرِي، أَوْ رَجُلٌ مني -يعني عليًّا»، وهو نص في أن الرجوع إنما كان بعد أداء فريضة الحج، وهو نص في أن عليّا كانت مَهَمَّتُهُ فقط تبليغَ سورة براءة.
قَالَ الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ، بَلِ الْمُرَادُ رَجَعَ مِنْ حَجَّتِهِ»([13]).
الرواية الثانية: في مسند أحمد قال: «حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: قَالَ إِسْرَائِيلُ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ r بَعَثَهُ بِبَرَاءَةٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ، لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ r مُدَّةٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَاللهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَسَارَ بِهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْحَقْهُ فَرُدَّ عَلَيَّ أَبَا بَكْرٍ، وَبَلِّغْهَا أَنْتَ، قَالَ: فَفَعَلَ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ r أَبُو بَكْرٍ بَكَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدَثَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ: مَا حَدَثَ فِيكَ إِلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنْ أُمِرْتُ أَنْ لَا يُبَلِّغَهُ إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنِّي»([14]).
وهذه رواية ضعيفة.
قال محققو المسند: «إسناده ضعيف، رجاله ثقات رجال الشيخين غيرَ زيد بن يُثيع -ويقال: أثيع- فقد روى له الترمذي والنسائي في «الخصائص»، و«مسند علي»، وانفرد بالرواية عنه أبو إسحاق، ولم يوثقه غير العجلي وابن حبان، فهو في عداد المجهولين، وقال ابن حجر في «أطراف المسند» 2/ ورقة 312: هذا منقطع –يعني: بين زيد وأبي بكر-.
وأخرجه الجورقاني في «الأباطيل والمناكير» (124) من طريق أحمد بن حنبل بهذا الإسناد. وقال: هذا حديث منكر، ثم أورد نحوه من عدة روايات، وقال: فهذه الروايات كلها مضطربة مختلفة منكرة. وأخرجه المروزي (132)، وأبو يعلى (104) من طريق وكيع به، وسيأتي في مسند علي مختصرًا برقم (594) وهو المحفوظ، وله شواهد من حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر بن عبد الله. وأخرجه الطبري 10/64 من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع مرسلًا»([15]).
قلت: ودائمًا ما يذكرون سياقَ رواية خصائص النسائي «عَن أبي إِسْحَاق، عَن زيد بن يثيع، عَن عَليٍّ أَن رَسُول الله r بعث بِبَرَاءَة إِلَى أهل مَكَّة مَعَ أبي بكر ثمَّ أتبعه بعلي، فَقَالَ لَهُ: خُذِ الْكتاب فامْضِ بِهِ إِلَى أهلِ مَكَّة، قَالَ: فلحِقْتُهُ فَأخذْتُ الْكتُبَ مِنْهُ، فانصرف أَبُو بكر وَهُوَ كئِيبٌ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أنزل فِي شَيْء؟ قَالَ: لَا، إِلَّا إِنِّي أمرت»([16]).
والرواية ضعيفة، كما سبق ذكره في كلام محققي المسند.
رابعًا: زعم الشيعة أننا قلنا بأن النبي r لم يُؤمِّر على عليٍّ أحدًا طيلة حياته، فهذا من الكذب على أهل السنة ولا يوجد في كتاب أحد منهم؛ وذلك لأن النبي r لم يكن من سنته جعل الأمير شخصًا واحدًا بعينه في كل سرية أو غزوة، وإنما كان يناوب بين أصحابه في القيادة، وقد ولى عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وغيرهم وهؤلاء، كان في الصحابة من هو أفضل منهم، إنما كانت تقتضي المصلحة تولية خالد مثلًا وفي جيشه من هو أفضل منهم؛ لأمور تخص المهمة التي كُلف بها.
والأصل أن عليًّا كغيره من الصحابة، إذا تولى أحدهم قيادة جيش كان الجميع بمن فيهم عليٌّ تحت لوائه، وقد قال r: «.. طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ»([17]).
وقد ثبت بالتواتر تولية غير علي رضي الله عنه على سرايا وغزوات، فإن كان علي قد تخلف عن كل غزوة وكل سرية لم يحضرها رسول الله r فقد بطل قولهم أن الإسلام لم ينتصر إلا بسيفِ علِي، وإذا كان النصر لا يكون إلا بعلي؛ فلماذا أخرج النبي r جيشَ مؤتة بقيادةِ زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب؟ فإن كان علِي فيهم فقد بطل قول الشيعة: إن عليًّا لم يكن تحت إمرة أحد، وإن لم يكن فيهم فقد اتهموا النبي r أنه أراد هزيمة الإسلام والمسلمين؛ كونه لم يخرج عليًّا الذي هو سبب النصر في كل معركة!
خامسًا: إرسال علِي لبلاغ براءة ليس طعنًا في الصديق، بل هو غاية المدح؛ ليكون علي تحت إمرةِ الصديق، وهو المبلغ بفضائله، وذلك أن سورة التوبة تنطق بفضل الصديق الذي كان مع النبي في الغار، ومعلوم أن أهل العلم ذكروا في سبب إرسال علي بالبراءة أن العقد مع المشركين كان لا يحله إلا المطاع، أو رجل من أهله.
قال ابن العربي: «وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَقْدُ إلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ r أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ، وَأَنْ يُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيَّ مِنْ بَيْتِهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ، حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ. وَهَذَا بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ»([18]).
وقال ابن الجوزي: «ثم لما رجع من تبوك أمَّر أبا بكر على الموسم، يقيم الحج والصلاة، ويأمر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأتبعه بعلي لأجل نقض العهود؛ إذ كانت عادة العرب أنهم لا يقبلون إلا من المطاع الكبير، أو من رجل من أهل بيته»([19]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضِيِّ: إِنَّهُ لَمَّا أَنْفَذَهُ بِبَرَاءَةَ رَدَّهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَهَذَا مِنَ الْكَذِبِ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَذِبٌ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ r لَمَّا أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ ذَهَبَ كَمَا أَمَرَهُ، وَأَقَامَ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، عَامِ تِسْعٍ، لِلنَّاسِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى قَضَى الْحَجَّ، وَأَنْفَذَ فِيهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ النَّبِيُّ r، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ، وَكَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَكَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ r وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عُهُودٌ مُطْلَقَةٌ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ: «أَلّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»، فَنَادَى بِذَلِكَ مَنْ أَمَرَهُ أَبُو بَكْرٍ بِالنِّدَاءِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ نَادَى بِذَلِكَ فِي الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَكِنْ لَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ r بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ لِيَنْبِذَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْعُهُودَ.
قَالُوا: وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَلَّا يَعْقِدَ الْعُهُودَ وَلَا يَفْسَخُهَا إِلَّا الْمُطَاعُ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَبَعَثَ عَلِيًّا لِأَجْلِ فَسْخِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، لَمْ يَبْعَثْهُ لِشَيْءٍ آخَرَ، وَلِهَذَا كَانَ عَلِيٌّ يُصَلِّي خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، وَيَدْفَعُ بِدَفْعِهِ فِي الْحَجِّ، كَسَائِرِ رَعِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فِي الْمَوْسِمِ، وَكَانَ هَذَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَاسْتِخْلَافِهِ لَهُ فِيهَا عَلَى مَنْ تَرَكَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقَوْلُهُ لَهُ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»؟
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ، وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ مَأْمُورًا عَلَيْهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً لَهُ، إِلَّا مُدَّةَ مَغِيبِهِ عَنِ الْمَدِينَةِ فَقَطْ، ثُمَّ أَمَّرَ أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَامَ تِسْعٍ...»([20]).
سادسًا: قول الشيعة: «إن الصديق لا يصلح لبلاغ سورة براءة، ولا يصلح لها إلا علي؛ ولذلك أرسله»، هذا جوابه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الكلام من أبين الباطل، وذلك أنه خلاف المعلوم من الدين بالضرورة من أن البلاغ لدين الله إنما يكون من كل مسلم قدر استطاعته.
يقول محمد رشيد رضا في ذلك : «إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلي عليه السلام كعادتهم، ويضيفون إليها ما لا تصح به رواية، ولا تؤيده دراية، فيستدلون بها على تفضيله على أبي بكر رضي الله عنهما، وكونه أحق بالخلافة منه، ويزعمون أن النبي r عزل أبا بكر من تبليغ سورة براءة؛ لأن جبريل أمره بذلك، وأنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه، ولا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود وما يتعلق به، بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله، مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة، كالجهاد في حمايته والدفاع عنه، وكونه فريضة لا فضيلة فقط، ومنها قوله r في حجة الوداع على مسمع الألوف من الناس: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب»، وهو مكرر في الصحيين وغيرهما، وفي بعض الروايات عن ابن عباس: «فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته: فليبلغ الشاهد الغائب» إلخ، وحديث: «بلغوا عني ولو آية» رواه البخاري في صحيحه والترمذي، ولولا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السريع في العالم»([21]).
الوجه الثاني: أن هذا فيه طعن في عصمة النبي r عند الشيعة، وذلك أنهم رووا أن الله عز وجل عاتب النبي r لسوء اختياره -وحاشاه- حين اختار الصديق لبلاغ سورة براءة.
ففي «بصائر الدرجات»: «عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللهِ (ص) بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ تَتْرُكُ مَنْ نَاجَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَتَبْعَثُ مَنْ لَمْ أُنَاجِهِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ (ص) فَأَخَذَ بَرَاءَةَ مِنْهُ وَدَفَعَهَا إِلَى عَلِيٍّ (ع) فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللهِ (ص)، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ اللهَ يُوصِيكَ وَيُنَاجِيكَ، قَالَ: فَنَاجَاهُ يَوْمَ بَرَاءَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْأُولَى إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ»([22]).
فأين هي دعوى العصمة المطلقة مع هذا العتاب الشديد والتجهيل للنبي r؟!
ولذلك فقد تناقض الشيعة في ذلك ورووا أن النبي r لم يرسل أبا بكر ببراءة أصلا، فقد رووا أن الباقر قال: «لا والله ما بعث رسول الله r أبا بكر ببراءة، أهو كان يبعث بها ثم يأخذها منه ؟! ... » إلخ الرواية([23]).
وهناك روايات تذكر أن عليًّا رضي الله عنه كان يحتج ويعتذر ليذهب النبي r بنفسه لتبليغها، فقد جاء في بحار الأنوار([24]) يوم أن أرسله النبي r بسورة براءة، فقال لرسول الله r: «إنك خطيب وأنا حديث السن»، فقال النبي r: «لا بد أن تذهب بها أو أذهب بها»، فقال علي رضي الله عنه: «أما إذا كان كذلك، فأنا أذهب يا رسول الله».
وكفى بهذا طعنًا في النبي r كونه يجهل تدبير الأمور فيعاتبه الله بهذا العتاب، وهو أيضا طعن في علي رضي الله عنه؛ كونه يؤمر من النبي r بالخروج فيعتذر بأنه حديث السن!
وخلاصة الأمر: أن النبي r لم يعزل الصديق عن إمارة الحج، بل الذي ثبت بالتواتر: أن عليًّا إنما ذهب لإعلان البراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وكان علي مأمورًا بأمر الصديق يصلي خلفه ويتصرف تحت قيادته.
([1]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (2/65).
([2]) صحيح البخاري (1/144) ت البغا.
([3]) تفسير البغوي (4/11).
([4]) السنن الكبرى، البيهقي (5/272) ط العلمية.
([5]) قال في منتهى المقال: «أقول: المسعودي هذا من أجلَّة العلماء الإماميّة، ومن قدماء الفضلاء الاثني عشريّة، وممّن صرّح بذلك أيضا: السيّد ابن طاووس في كتاب النجوم عند ذكر العلماء العالمين بالنجوم؛ حيث قال: ومنهم الشيخ الفاضل الشيعي علي بن الحسين بن علي المسعودي مصنّف كتاب مروج الذهب». انظر: منتهى المقال في أحوال الرجال، المازندراني (4/٣٩١) بتصرف.
([6]) مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي (4/٣٠١).
([7]) أدوار علم الفقه وأطواره، كاشف الغطاء (1/١٣).
([8]) الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى (4/١٥٥).
([9]) سنن الترمذي (5/127) ت بشار، ورواه الدارمي برقم (1919) كتاب المناسك، ورواه سعيد بن منصور في سننه (5/233) برقم (1005)، وقال محققه: «سنده صحيح»، ورواه الحاكم في المستدرك (4/178)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي».
([10]) صحيح ابن حبان (١٦/١٥).
([11]) صحيح ابن حبان (15/17).
([12]) قال في المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة لصهيب عبد الجبار (7/270): «[قال الألباني]: صحيح لغيره، «التعليق على صحيح كشف الأستار» (2485)، [وَأَنْتَ مَعِي عَلَى الحَوْضِ] قال الشيخ: زيادة من «الدُّرِّ المنثور» (3/210)، وقد عزاه لابن حبَّان، وابن مردويه، وهي ثابتة في بعض روايات القصَّة.
([13]) فتح الباري، ابن حجر (8/320).
([14]) مسند أحمد (1/183) ط الرسالة.
([15]) مسند أحمد (1/183) ط الرسالة.
([17]) صحيح البخاري (4/34).
([18]) أحكام القرآن، ابن العربي (2/454) ط العلمية.
([19]) الإيمان الأوسط، (ص529) ط ابن الجوزي.
([20]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (5/493).
([21]) رسائل السنة والشيعة، رشيد رضا (2/7 - 8).
([22]) بصائر الدرجات، الصفار القمي (1/411).
([23]) تفسير العياشي (2/80)، نور الثقلين (2/180)، تفسير البرهان (2/101)، بحار الأنوار (35/295).
([24]) بحار الأنوار (35/303).