أولًا: تواترت الأخبار واشتهرت بإنفاق الصديق على دين الله وإعتاقه المعذبين في الله، وليس إنكار الشيعة لذلك إلا حماقة لا دليل عليها، وإليك بعض ما ذكر عن إنفاق الصديق من كتب أهل السنة.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «مَا أَحَدٌ عِنْدِي أَعْظَمَ يَدًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ؛ وَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَأَنْكَحَنِي ابْنَتَهُ»([1])، فهذا النبي r يذكر أن أبا بكر قد واساه بماله.
وعنْ زيدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ r أَنْ نَتَصَدَّقَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ، إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ r: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قُلْتُ: مِثْلَهُ. وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟!» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ. فَقُلْتُ: لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا»([2])، فمَن مثل الصديق يخرج ماله كله دفعة واحدة؟!
قال ابن حزم رحمه الله: «وحمل أبو بكر مع نفسِه جميعَ ماله، وهو نحو ستة آلاف درهم»([3])، هذا وهو مهاجر، أما ما قبل الهجرة فقد أسلم وله أربعون ألفًا.
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عن هشامِ بنِ عروة، عنْ أَبِيه قال: «أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَنْفَقَهَا كُلَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ r فِي سَبِيلِ اللهِ، وقال رَسُول اللهِ r: «مَا نَفَعَنِي مَالٌ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ»، وأعتق أَبُو بَكْر سبعةً كانوا يعذبون فِي الله، منهم: بلال، وعامر بْن فهيرة»([4]).
وقد أنفق كل ذلك في سبيل الله، بل إن شهرة إنفاقه كانت حتى قبل الإسلام؛ ولذلك قال له ابْنُ الدَّغِنَةِ: «أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي، فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: مِثْلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ»([5])، وهي نفس صفات النبي r التي وصفته بها خديجة رضي الله عنها في حادثة نزول الوحي([6]).
فلو صح إنكار إنفاق الصديق صح إنكار مسلَّمَات التاريخ، ومنها كون النبي r وصف بالصادق الأمين في مكة!
وأما عتقه للعبيد ومشاركته بماله لتحرير المسلمين من ذل العذاب والعبودية فأشهر وأشهر، قال ابن حزم: «وأعتق أبو بكر بلال بن رباح، وأمه حمامة مولدة، وأعتق عامر بن فهيرة، وأعتق أم عبيس، وزِنِّيرة، والنهدية وابنتها، وجارية لبني عدي بن كعب كان عمر بن الخطاب يعذبها على الإسلام، وذلك قبل أن يسلم.
وقيل: إن أبا قحافة قال: يا بني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت قومًا جلدًا يمنعونك؛ فقال أبو بكر: يا أبةِ، إني أريد ما أريد، قيل: ففيه أنزل الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 17 - 18] إلى آخر السورة، رضوان الله ورحمته وبركاته على الصديق»([7]).
وقال النووي: «وأسلم على يده خلائق من الصحابة، منهم خمسة من العشرة سبق بيانهم في ترجمتهم، وهم: عثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن، وسعد بن أبي وقاص، وأعتق سبعة كانوا يعذبون في الله تعالى، منهم: بلال، وعمار، وكان من رؤساء قريش في الجاهلية، وأهل مشاورتهم، ومحببًا فيهم، وأعلم لمعالمهم، فلما جاء الإسلام آثره على ما سواه، ودخل فيه أكمل دخول، ولم يزل مترقيًا في معارفه متزايدًا في محاسنه حتى توفي، وصحب النبي r من حين أسلم إلى أن توفي رسول الله r، فلم يفارقه في حضر ولا سفر»([8]).
قال الحضرمي الشافعي: «وأمَّا بلال فكان أميَّة بن خلف يخرج به فيضع الصُّخور على صدره، ويتركها كذلك حتَّى يكاد يموت، فيرفعها، وبلال يقول: أحَد، أحد، فمر به أبو بكر t فقال لأميَّة: ألا تتَّقي الله في هذا العبد؟ فقال: أنت الَّذي أفسدته عليَّ، فقال: بِعْنِيه، فباعه منه فأعتقه»([9]).
وقال ابن هشام: «عَامِرُ بْنُ فُهَيْرة مُوَلَّد من مُوَلَّدي الأسَيْد، أسْوَد، اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ t منهم»([10])، والنقول في ذلك كثيرة.
ثانيًا: جاء في كتب الشيعة أن الصديق كان له مال ويواسي به المسلمين، حتى إنه كان سببًا في تزويج علي من فاطمة([11]).
ففي «كشف الغمَّة»: «عن أمِّ سلمة، وسلمان الفارسي، وعليِّ بن أبي طالب عليه السَّلام، وكلٌّ قالوا: إنَّه لما أدركت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدرك النساء خطبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام، والشرف والمال، وكان كلَّما ذكرها رجل من قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوجهه، حتّى كان الرجل منهم يظنُّ في نفسه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساخط عليه، أو قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وحي من السماء، ولقد خطبها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرها إلى ربِّها؛ وخطبها بعد أبي بكر عمر بن الخطَّاب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمقالته لأبي بكر، قال: وإنَّ أبا بكر وعمر كانا ذات يوم جالسين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعهما سعد بن معاذ الأنصاري ثمّ الأوسي، فتذاكروا أمر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال أبو بكر: قد خطبها الأشراف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنَّ أمرها إلى ربِّها إن شاء أن يزوِّجها زوَّجها.
وإنَّ عليَّ بن أبي طالب لم يخطبها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكرها له، ولا أراه يمنعه من ذلك إلَّا قلَّة ذات اليد، وإنَّه ليقع في نفسي أنَّ الله U ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما يحبسانها عليه؛ قال: ثم أقبل أبو بكر على عمر بن الخطَّاب وعلى سعد بن معاذ فقال: هل لكما في القيام إلى عليِّ بن أبي طالب حتَّى نذكر له هذا؟ فإنْ منعه قلَّة ذات اليد واسيناه وأسعفناه، فقال له سعد بن معاذ: قوموا بنا على بركة الله ويمنه.
قال سلمان الفارسي: فخرجوا من المسجد والتمسوا عليًّا عليه السلام في منزله فلم يجدوه، وكان ينضح([12]) ببعير -كان له- الماءَ على نخل رجل من الأنصار بأجرة، فانطلقوا نحوه؛ فلمَّا نظر إليهم عليٌّ عليه السلام قال: ما وراءكم؟ وما الذي جئتم له؟ فقال أبو بكر: يا أبا الحسن، إنَّه لم يبق خصلة من خصال الخير إلَّا ولك فيها سابقة وفضل، وأنت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمكان الذي قد عرفت من القرابة والصحبة والسابقة، وقد خطب الأشراف من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة فردَّهم، وقال: إنَّ أمرها إلى ربِّها إن شاء أن يزوِّجها زوَّجها، فما يمنعك أن تذكرها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتخطبها منه؛ فإنِّي أرجو أن يكون الله U ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يحبسانها عليك.
قال: فتغرغرت عينا عليٍّ بالدموع، وقال: يا أبا بكر! لقد هيَّجت منِّي ساكنًا، وأيقظتني لأمر كنت عنه غافلًا، واللهِ إنَّ فاطمة لموضع رغبة، وما مثلي قعد عن مثلها، غير أنَّه يمنعني من ذلك قلَّة ذات اليد، فقال أبو بكر: لا تقل هذا يا أبا الحسن! فإنَّ الدنيا وما فيها عند الله تعالى ورسوله كهباء منثور، قال: ثمَّ إنَّ عليَّ بن أبي طالب عليه السلام حلَّ عن ناضحه([13])، وأقبل يقوده إلى منزله، فشدَّه فيه، ولبس نعله، وأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منزل زوجته أمِّ سلمة ابنة أبي أميّة بن المغيرة المخزومي، فدقَّ عليٌّ عليه السلام الباب، فقالت أمُّ سلمة: مَن بالباب؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ قبل أن يقول عليٌّ: أنا عليٌّ، قومي يا أمَّ سلمة، فافتحي له الباب ومُريه بالدخول، فهذا رجل يحبُّه الله ورسوله ويحبُّهما، فقالت أمُّ سلمة: فِداك أبي وأمّي، ومن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره؟!»([14]).
فانظر إلى قول أبي بكر: «فإنْ منعه قلَّةُ ذات اليد واسيناه وأسعفناه» أليس هذا دليلًا أن على الصديق كان يواسي المسلمين بماله، ومنهم علي بن أبي طالب t؟!
ثالثًا: القول بأن أبا قحافة كان يعمل عِضْرُوطًا -يخدم الناس بطعام بطنه- عند ابن جدعان إنما هو مأخوذ من كتب الرافضة([15])، وهم أكذب خلق الله على الإطلاق، ولا يوثق بنقلهم، ومع ذلك فلو ثبت فلا عيب فيه؛ إذ إنهم أقروا أن عليًّا كان يؤاجر نفسه على طعامه، وهو كذلك عندنا، فقد أخرج ابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس: «أن عليًّا أَجَرَ نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة»([16]).
روى المرعشي الشيعي أنَّ علِيًّا t قال: «جُعْتُ مرةً جُوعًا شديدًا، فخرجت لطلَبِ العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرًا تريد بلَّه، فقاطعتُها كل ذَنُوبٍ على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبًا حتى مَجِلَتْ يدَاي([17])، ثم أتيتُها فعدَّتْ لي ست عشرة تمرةً، فأتيت النبي r فأخبرته فأكل معي منها، رواه أحمد وابن ماجة بسند صححه ابن السكن، وجوَّدَ الحافظ ابن حجر إسناد أحمد .... فقال: وأخرج البيهقي وابن ماجه من حديث ابن عباس بلفظ: أن عليًّا آجَرَ نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة، وقال فيه (أي في الحديث): بيان ما كانت عليه الصحابة من الحاجة وشدة الفاقة والصبر على الجوع، وبذل الأنفس وإتعابها في تحصيل القوام من العيش؛ للتعفف عن السؤال وتحمل المنن، وأن تأجير النفس لا يعد دناءة وإن كان المستأجر غيْرَ شريف أو كافرًا، والأجيرُ من أشراف الناس وعظمائهم»([18]).
فإذا كانت مؤاجرة الناس على طعام البطن طعنًا؛ فقد رجع الطعن إلى الشيعة في علي t، وحاشاه.
رابعًا: قوله بأن في البخاري أن الصديق كان خياطًا كَذِبٌ على البخاري وكذب على الصديق t، وإنما أخذها من قال بها من كتب الشيعة لا غير ذلك([19]).
ولعلهم لشدة عُجْمَتِهم فهموا أن البزازَ -مهنة الصديق- تعني الخياط، وقد ذكر الشيعة أن الصديق كان بزازًا، يقول نجاح الطائي: «مهنة الخلفاء وبعض الصحابة، ذكر التوحيدي في كتاب «بصائر القدماء وسرائر الحكماء صناعة» كل من علمت صناعته من قريش، فقال: كان أبو بكر الصديق t بزازا»([20])، «والبَزَّ: بفتح الباء: الثياب، وقيل: ضرب من الثياب، وقيل: البز من الثياب أمتعة البزاز، أو متاع البيت من الثياب خاصة ونحوها؛ قال الشاعر:
أحسن بيت أهرًا وبزَّا * كأنما لزَّ بصخر لزَّا
والبَزُّ: السلاح يدخل فيه الدرع والمغفر والسيف، والبِزَّة بالكسر: الهيئة والشارة واللبسة، يقال: إنه لذو بزة حسنة؛ أي: هيئة ولباس جيد»([21]).
وقال الْمطَرِّزِيُّ: «(الْبَزُّ) عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ: مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنْ الثِّيَابِ خَاصَّةً، وَعَنِ اللَّيْثِ ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ، (وَمِنْهُ): ابْتَزَّ جَارِيَتَهُ إذَا جَرَّدَهَا مِنْ ثِيَابِهَا، وَعَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ: رَجُلٌ (حَسَنُ الْبَزِّ) أَيِ: الثِّيَابِ، وَعَنِ الْجَوْهَرِيِّ: هُوَ مِنَ الثِّيَابِ أَمْتِعَةُ الْبَزَّازِ وَالْبِزَازَةُ حِرْفَتُهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللهُ فِي السِّيَرِ: الْبَزُّ عِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ثِيَابُ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ لَا ثِيَابُ الصُّوفِ، وَالْخَزِّ وَالْبِزَّةُ بِالْهَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْهَيْئَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حَسَنُ (الْبِزَّةِ) وَقِيلَ: هِيَ الثِّيَابُ وَالسِّلَاحُ»([22]).
والذي يتاجر في الثياب والسلاح يقال له: بَزَّاز، قال الصاحب بن عباد: «البَز: ضرْب من الثيَابِ، والبِزَازَةُ: حِرْفَةُ البَزّازِ، والسَّيْفُ، والسلَاحُ»([23])، و«(الْبَزَّاز) هو: بَائِع الْبَز»([24])، فهذا قول أهل اللغة في مهنة الصديق t.
والتجارة كانت أشرف مكاسب العرب، وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة، وقد عمل بها النبي r قبل البعثة كما هو معلوم، وقد ظل الصديق t تاجرًا حتى تولى الخلافة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَقَوْلُهُ: إِنَّ الصِّدِّيقَ كَانَ خَيَّاطًا فِي الْإِسْلَامِ وَلَمَّا وَلِيَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ مَنَعَهُ النَّاسُ عَنِ الْخِيَاطَةِ كَذِبٌ ظَاهِرٌ، يَعْرِفُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَإِنْ كَانَ لَا غَضَاضَةَ فِيهِ لَوْ كَانَ حَقًّا، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ خَيَّاطًا، وَإِنَّمَا كَانَ تَاجِرًا تَارَةً يُسَافِرُ فِي تِجَارَتِهِ وَتَارَةً لَا يُسَافِرُ، وَقَدْ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فِي تِجَارَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالتِّجَارَةُ كَانَتْ أَفْضَلَ مَكَاسِبِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ خِيَارُ أَهْلِ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ أَهْلَ التِّجَارَةِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُمْ بِالتِّجَارَةِ، وَلَمَّا وُلِّيَ أَرَادَ أَنْ يَتَّجِرَ لِعِيَالِهِ فَمَنَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَالُوا: هَذَا يَشْغَلُكَ عَنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَانَ عَامَّةُ مَلَابِسِهِمُ الْأَرْدِيَةَ وَالْأُرُزَ، فَكَانَتِ الْخِيَاطَةُ فِيهِمْ قَلِيلَةً جِدًّا، وَقَدْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ خَيَّاطٌ دَعَا النَّبِيَّ r إِلَى بَيْتِهِ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ الْمَشْهُورُونَ فَمَا أَعْلَمُ فِيهِمْ خَيَّاطًا، مَعَ أَنَّ الْخِيَاطَةَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّنَاعَاتِ وَأَجَلِّهَا، وَإِنْفَاقُ أَبِي بَكْرٍ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ هُوَ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي قُرَيْشٍ مُحَبَّبًا مُؤْلَفًا خَبِيرًا بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَأَيَّامِهِمْ، وَكَانُوا يَأْتُونَهُ لِمَقَاصِدِ التِّجَارَةِ وَلِعِلْمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ لَهُ ابْنُ الدَّغِنَّةِ، «مِثْلُكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ».
وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ عَابَ أَبَا بَكْرٍ بِعَيْبٍ، وَلَا نَقَصَهُ وَلَا اسْتَرْذَلَهُ، كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُمْ عَيْبٌ إِلَّا إِيمَانُهُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ r لَمْ يَكُنْ قَطُّ بِهِ عَيْبٌ عِنْدَ قُرَيْشٍ وَلَا نَقْصٌ وَلَا يَذُمُّونَهُ بِشَيْءٍ قَطُّ، بَلْ كَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَهُمْ بَيْتًا وَنَسَبًا، مَعْرُوفًا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَكَذَلِكَ صِدِّيقُهُ الْأَكْبَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُيُوبِ، وَابْنُ الدَّغِنَّةِ سَيِّدُ الْقَارَةِ إِحْدَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ»([25]).
خامسًا: جاء في كتب الشيعة أن أئمتهم كانوا يرتعون في الأموال ويتمتعون بالدنيا غاية المتعة.
ففي (الكافي): «ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ قَالَ: دَخَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَلى أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام، فَرَأى عَلَيْهِ ثِيَابَ بِيضٍ كَأَنَّهَا غِرْقِئُ الْبَيْضِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هذَا اللِّبَاسَ لَيْسَ مِنْ لِبَاسِكَ، فَقَالَ لَهُ: اسْمَعْ مِنِّي وَعِ مَا أَقُولُ لَكَ؛ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ عَاجِلًا وَآجِلًا، إِنْ أَنْتَ مِتَّ عَلَى السُّنَّةِ وَالْحَقِّ، وَلَمْ تَمُتْ عَلى بِدْعَةٍ، أُخْبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ فِي زَمَانٍ مُقْفِرٍ جَدْبٍ، فَأَمَّا إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا، فَأَحَقُّ أَهْلِهَا بِهَا أَبْرَارُهَا، لَا فُجَّارُهَا، وَمُؤْمِنُوهَا، لَا مُنَافِقُوهَا، وَمُسْلِمُوهَا، لَا كُفَّارُهَا، فَمَا أَنْكَرْتَ يَا ثَوْرِيُّ...؟» إلى أن قال: «فَهذِهِ أَحَادِيثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُصَدِّقُهَا الْكِتَابُ، وَالْكِتَابُ يُصَدِّقُهُ أَهْلُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ مَوْتِهِ؛ حَيْثُ قِيلَ لَهُ: أَوْصِ، فَقَالَ: أُوصِي بِالْخُمُسِ، وَالْخُمُسُ كَثِيرٌ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ رَضِيَ بِالْخُمُسِ، فَأَوْصى بِالْخُمُسِ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ الثُّلُثَ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الثُّلُثَ خَيْرٌ لَهُ أَوْصَى بِهِ، ثُمَّ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ بَعْدَهُ فِي فَضْلِهِ وَزُهْدِهِ سَلْمَانُ t وَأَبُو ذَرٍّ رَحِمَهُ اللهُ»([26]).
فهذا جعفر الصادق في كتب الشيعة يبرر لنفسه عدم الزهد في الدنيا بقوله: «إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها»! وقد ذكرنا عن الكاظم أنه كان يعيش مُطلق الحريَّة في بغداد، ويتوسَّط لذوي الميول العبَّاسيَّة لترويج معاملاتهم الماليَّة، ويجلس على أفخر الموائد وألذِّها:
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: «لَمَّا حُمِلَ سَيِّدِي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَى هَارُونَ، جَاءَ إِلَيْهِ هِشَامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبَّاسِيُّ، فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي، قَدْ كُتِبَ لِي صَكٌّ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ يُونُسَ فَسَلْهُ أَنْ يُرَوِّجَ أَمْرِي، قَالَ: فَرَكِبَ إِلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ (ع) فَدَخَلَ إِلَيْهِ حَاجِبُهُ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى (ع) بِالْبَابِ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَلَكَ كَذَا وَكَذَا! فَخَرَجَ الْفَضْلُ بْنُ يُونُسَ حَافِيًا يَعْدُو، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ فَوَقَعَ عَلَى قَدَمَيْهِ يُقَبِّلُهَا، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ! فَدَخَلَ، فَقَالَ لَهُ: اقْضِ حَاجَةَ هِشَامٍ! فَقَضَاهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ حَضَرَ الْغَدَاءُ فَتُكْرِمُنِي أَنْ تَتَغَدَّى عِنْدِي! فَقَالَ: هَاتِ! فَجَاءَ بِالْمَائِدَةِ وَعَلَيْهَا الْبَوَارِدُ، فَأَجَالَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) يَدَهُ فِي الْبَارِدِ، وَقَالَ: الْبَارِدُ تُجَالُ الْيَدُ فِيهِ، فَلَمَّا رَفَعُوا الْبَارِدَ وَجَاءُوا بِالْحَارِّ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (ع): الْحَارُّ حُمَّى»([27]).
فهاهم الأئمة يرتعون على موائد الخلفاء ويتمتعون بالدنيا، وقد صدق الله العظيم حين قال: {وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللهِ وَلِلَّهِ مِیرَ اثُ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا یَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةࣰ مِّنَ ٱلَّذِینَ أَنفَقُوا۟ مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُوا وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ} [الحَدِيدِ:١٠].
فأين ما ادعاه الشيعة على الصديق t وقد ثبت إنفاقه على الدعوة من مهدها إلى أن لقي ربه U؟!
([1]) الأحاديث المختارة (11/242).
([2]) سنن أبي داود، ط مع عون المعبود (2/54)، سنن الترمذي، ت شاكر (5/615)، المنتخب من مسند عبد بن حميد، ت مصطفى العدوي (1/64)، مسند الدارمي، ت حسين أسد (2/1033)، السنة، ابن أبي عاصم (2/579).
([3]) جوامع السيرة، ط المعارف (ص92).
([4]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/966).
([5]) مصنف عبد الرزاق، ط التأصيل الثانية (6/55)، صحيح ابن حبان، التقاسيم والأنواع (4/148).
([6]) صحيح البخاري، ت البغا (1/5)، صحيح مسلم، ط التركية (1/97).
([7]) جوامع السيرة، ط المعارف (ص55).
([8]) تهذيب الأسماء واللغات (2/183).
([9]) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار (ص183).
([10]) سيرة ابن هشام، ت طه عبد الرؤوف سعد (1/236).
([11]) العوالم، السيدة الزهراء (س)، عبد الله البحراني (1/٤١٤).
([12]) العوالم، السيدة الزهراء (س)، عبد الله البحراني، (1/٤١٥)، المناقب، الخوارزمي (٣٤٤).
([13]) كشف الغمة في معرفة الأئمة، علي بن أبي الفتح الإربلي (1/٣٧٤).
([14]) رياض الأبرار في مناقب الأئمة الأطهار (ع)، نعمة الله الجزائري (1/٥٣).
([15]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (١٣/٢٧٥)، الشافي في الإمامة، المرتضى (٤/٢٥)، الإفصاح، المفيد (٢١٣).
([16]) ابن ماجه (2/818) برقم (2446)، والبيهقي (6/119)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه بمعناه عن علي t: أحمد (1/90) والترمذي (645 – 646) برقم (2473)، وأبو يعلى (1/387) برقم (502).
([17]) أي: نَفِطَتْ من العملِ فَمَرَنتْ وصَلُبَتْ، وثَخُنَ جِلدُها وَتَعَجَّرَ، وَظَهَرَ فِيهَا مَا يُشبهُ البَثَرَ من العملِ بالأشياءِ الصُّلبةِ الخَشِنةِ، تاج العروس (30/390).
([18]) شرح إحقاق الحق، المرعشي (٣٢/٢٩3 - ٢٩4).
([19]) الصراط المستقيم، البياضي (۳/۱۰)، تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي (۳۸۰)، التعجب الكراجکي (۱۲۹).
([20]) نظريات الخليفتين، نجاح الطائي (٢/٦٣).
([21]) المعجم العربي لأسماء الملابس (ص64).
([22]) المغرب في ترتيب المعرب (ص42).
([23]) المحيط في اللغة (2/291) بترقيم الشاملة آليًّا.
([24]) المعجم الوسيط (1/54)، المطلع على ألفاظ المقنع (390).
([25]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (8/545 - 547).
([26]) الكافي (9/509 - 516).
([27]) اختيار معرفة الرجال المعروف بـ«رجال الكَشي»، الطوسي (1/500).