زعمهم مغالاة أهل السنة في الصديق رضي الله عنه

الشبهة:

ذكر الشيعةُ في كتبهم روايةً موجودةً في كتب أهل السنة على أنها من الكذب، فذكروها تشنيعًا، وهم يعلمون أننا لا نُقِرُّها، فقالوا: «هناك حديثٌ ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أنَّه قال: «ما صب الله في صدري شيئًا إلَّا وصببته في صدر أبي بكر».

والجواب: أ- أنَّ آثار الاختلاق على هذا الحديث ظاهرة؛ لأنَّ مفادَه المساواة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر في جميع العلوم، وهذا مما يقطع ببطلانه كلُّ مسلم»([1]).

وقال الميلاني: «ولا يوجد حديث آخر في باب العلم يروونه بحق أبي بكر سوى هذا الحديث الذي ذكرته»([2]).

 

 ([1]) ولاية أهل البيت عليهم السلام في القرآن والسنَّة، حسينة حسن الدريب (1/314).

 ([2]) الدليل العقلي على إمامة علِي عليه السلام، علي الميلاني (1/40).

الرد علي الشبهة:

أولًا: نصَّ أهل العلم على بطلان هذا الحديث:

فقد ذكره الشوكاني في «الفوائد المجموعة»، وقال: «ذكره صاحب الخلاصة وقال: موضوع»([1])، ونص ابن الجوزي في «الموضوعات» على أنه «لا أصل له، لا في الصحيح ولا في الموضوع»([2])، وقال في «كشف الخفا»: «ما صب الله في صدري شيئًا؛ إلا وصببته في صدر أبي بكر.. وحديث: كان e إذا اشتاق إلى الجنة؛ قبل شيبة أبي بكر..، وحديث: أنا وأبو بكر كفرسي رهان..، وحديث: إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر..، وأمثال هذا من المفتريات المعلوم بطلانها ببديهة العقل»([3]).

بل وذكر ابن القيم هذا الأثرَ المكذوبَ وغيرَه مما وُضِعَ في فضل أبي بكر وكذَّبه، فقال: «وَمِمَّا وَضَعَهُ جَهَلَةُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ فِي فَضَائِلَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

239 حَدِيثُ: «إِنَّ اللهَ يَتَجَلَّى لِلنَّاسِ عَامَّةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلأَبِي بَكْرٍ خَاصَّةً».

240- وَحَدِيثُ: «مَا صَبَّ اللهُ فِي صَدْرِي شَيْئًا إِلا صَبَبْتُهُ فِي صدر أبي بكر».

241- وَحَدِيثُ: «كَانَ إِذَا اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ قَبَّلَ شَيْبَةَ أَبِي بَكْرٍ».

242- وَحَدِيثُ: «أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ كَفَرَسَيْ رهان».

243- وَحَدِيثُ: «إِنَّ اللهَ لَمَّا اخْتَارَ الأَرْوَاحَ اخْتَارَ رُوحَ أَبِي بَكْرٍ».

244- وَحَدِيثُ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ r وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْتُ كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا».

245- وَحَدِيثُ: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِفَضَائِلِ عُمَرَ عُمْرَ نُوحٍ في قيومه مَا فَنِيَتْ، وَإِنَّ عُمَرَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ أبي بكر».

246- وَحَدِيثُ: «مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلا صَلاةٍ، إِنَّمَا سَبَقَكُمْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ» وَهَذَا مِنْ كَلامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ»([4]).

ثانيًا: إذا كان هذا من الغلو في أبي بكر، وهو محال؛ لأنه يلزم منه التساوي في العلم مع رسول الله e، فماذا يقول الشيعة فيما ذكروه عن علي بن أبي طالب والأئمة؟!

فمن ذلك الغلو الذي يعتقده الشيعة رفعا لمقام أئمتهم أنهم قالوا: بأن علوم الأنبياء لا تقارن بعلوم الأئمة، بل قالوا بأن عندهم علم جميع الأنبياء، واشتد الغلو، فقالوا بأن الأئمة هم الذين علَّموا الأنبياء علومهم، حتى إن المجلسي في كتابه «بحار الأنوار» عرض هذه المسألة في باب خاص بعنوان: «باب أنهم أعلم من الأنبياء»([5]).

وأورد تحت هذا الباب ثلاثَ عشرةَ رواية تقول بتفضيل الأئمة على الأنبياء من حيث العلم.

بل وبوَّب بابًا آخر بعنوان: «باب أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء، وأنهم أعطوا ما أعطاه الله الأنبياء، وأن كل إمام يعلم جميع علم الإمام الذي قبله..»([6]).

بل لقد قالوا: إن الأئمة هم الذين علَّموا الأنبياء علومهم، كما ذكر المجلسي في «البحار» عن أبي محمد العسكري، قال: «فنحن السنام الأعظم، وفينا النبوة والولاية والكرم، ونحن منار الهدى والعروة الوثقى، والأنبياء كانوا يقتبسون من أنوارنا، ويقتفون من آثارنا ...»([7]).

وقال هاشم البحراني في «ينابيع المعاجز وأصول الدلائل»: «الباب الخامس عندهم (ع) علم ما في السماء وما في الأرض، وعلم ما كان وعلم ما يكون، وما يحدث بالليل والنهار، وساعة وساعة، وعندهم علم النبيين (ع) وزيادة»([8]).

ولذلك فإن الأئمة لا يكتفون بعلم الكتاب والسنة، بل لهم مصادر أخرى كثيرة!

يقول محمد السند: «واعلم أنَّه لا ينحصر الأمر لدى الأئمَّة عليهم السلام بظاهر تنزيل الكتاب، وظاهر السنَّة اللفظيَّة، بل هناك مصادر جمَّة أخرى لعلومهم، مثل كتاب علِي عليه السلام، والجفر، والجامعة، والمصحف عليها السلام، وروايات ازدياد العلم، وغيرها من المصادر الأخرى»([9]).

وبلغ بهم الغلو أن قال أحدهم: «وإن الذي وصل إلى الأنبياء قطرة من بحرهم، ولمعة من نورهم، وذرَّة من سرّهم، وذلك لأن الذي كان عند الأنبياء من الاسم الأعظم حرفان لا غير، وكانوا يفعلون بهما العجائب، وعند آل محمد سبعون حرفًا، وعندهم ما عند الأنبياء أيضًا مضاف إليه، فالكل منهم وعنهم»([10]).

ومن أسخف ما ورد في تفصيل ذلك عندهم: ما ذكره نعمة الله الجزائري في «الأنوار النعمانية» قال: «وروى صاحب بستان الكرامة أن النبي ﷺ كان جالسًا وعنده جبريل عليه السلام فدخل علي عليه السلام فقام له جبريل عليه السلام، فقال النبي ﷺ: أتقوم لهذا الفتى؟ فقال له ﷺ؟ نعم، إن له عليَّ حقَّ التعليم، فقال النبي ﷺ؟ كيف ذلك التعليم يا جبريل؟ قال: لما خلقني الله تعالَى سألني من أنت؟ وما اسمك؟ ومن أنا؟ وما اسمي؟ فتحيرت في الجواب وبقيت ساكتًا، ثم حضَر هذا الشاب في عالم الأنوار وعلمني الجواب، فقال: قل: أنت ربي الجليل، واسمك الجليل، وأنا العبد الذليل، واسمي جبريل؛ ولهذا قمت له وعظمته. فقال النبي: كم عمرك يا جبريل؟ فقال: يا رسول الله، يطلع نجم من العرش في كل ثلاثين ألف سنة مرة، وقد شاهدته طالعًا ثلاثين ألف مرة»([11]).

ولم يقتصر تعليم علِي لجبريل فقط، بل لقد علَّم جميع الملائكة، قال الجزائري: «الرابع: ما رواه ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّا لنحنُ الصافُّونَ * وإنا لنَحْنُ المسبِّحُون) [الصافات: ۱۹۰-۱۹۹]، قال: كنا عند رسول الله ﷺ فأقبل علي بن أبي طالب، فلما رآه النبي ﷺ تبسم في وجهه وقال: مرحبًا بمن خلقه الله تعالى قبل أبيه آدم عليه السلام بأربعين ألف عام، فقلت: يا رسول الله، أكان الابن قبل الأب؟! فقال: نعم، إن الله خلقني وخلق عليًّا قبل أن يخلق آدم عليه السلام بهذه المدة، خلق نورًا فقسمه نصفين، فخلقني من نصفه وخلق عليًّا من النصف الآخر قبل الأشياء، فنورها من نوري ونور علي، جعلنا عن يمين العرش ثم خلق الملائكة، فسبحنا فسبحت الملائكة، وهللنا فهللت الملائكة، وكان ذلك من تعليمي وتعليم علي، وكان ذلك في علم الله السابق أن الملائكة تتعلم منا التسبيح والتكبير والتهليل، وكل شيء سبح الله وكبره وهلله بتعليمي وتعليم علي، وكان في علم الله السابق...»([12]).

فإذا كان رب العالمين يقول عن النبي e: (وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ ۝ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیࣱ یُوحَىٰ ۝ عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ) [النجم 3 - 5] فالذي علَّم النبي هو جبريل والذي علَّم جبريل هو علي عند الشيعة، فأي غلو أكبر من هذا؟!

وقد زعمت الشيعة الإمامية أن الروايات في كون علوم الأئمة أكمل من علوم الأنبياء قد جاءت مستفيضة.

يقول الجزائري: «ما استفاض من الأخبار من أن علم الأئمة عليهم السلام أكمل من علوم الأنبياء»([13]).

ثم يقول: «وقد روي عنه عليه السلام: أنه قال في جواب من سأله عن فضله وفضل من تقدمه من الأنبياء، مع أنهم حازوا غاية الإعجاز؛ ... وأنطقت عيسى في المهد، وعلمته الإنجيل..»([14]).

ومن ضمن هذا الغلو: أنهم قالوا بأن جميع كتب الأنبياء كانت عندهم، ورثوها منهم، وكانوا يقرأون فيها، فقد روى ابن بابويه القمي في كتاب «التوحيد» عن هشام بن الحكم قصةً طويلة، وفيها دار حوار بينه وبين جاثليق من جثالقة النصارى يقال له: بريهة، ثم التقوا بموسى بن جعفر فحكى له هشام الحكاية، فلما فرغ قال موسى بن جعفر عليهما السلام: يا بريهة، كيف علمك بكتابك؟ قال: أنا به عالم، قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه، قال: فابتدأ موسى بن جعفر عليهما السلام، بقراءة الإنجيل، قال بريهة: والمسيح لقد كان يقرأ هكذا وما قرأ هذه القراءة إلا المسيح، ثم قال بريهة: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك، قال: فآمن وحسن إيمانه، وآمنت المرأة وحسن إيمانها.

قال: فدخل هشام وبريهة والمرأة على أبي عبد الله عليه السلام، وحكى هشام الحكاية والكلام الذي جرى بين موسى عليهالسلام وبريهة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم)، فقال بريهة: جعلت فداك، أَنَّى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم، نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوها، إن الله لا يجعل حجة في أرضه يسأل عن شيء فيقول: لا أدري»([15]).

وقال المجلسي: «روى ابن أبي البَخْتَري من ستة طرق، وابن المفضل من عشر طرق، وإبراهيم الثقفي من أربعة عشر طريقًا، منهم عدي بن حاتم، والأصبغ بن نباتة، وعلقمة بن قيس، ويحيى بن أم الطويل، وزر بن حبيش، وعباية بن ربعي، وعباية بن رفاعة، وأبو الطفيل، أن أمير المؤمنين عليه السلام قال بحضرة المهاجرين والأنصار وأشار إلى صدره: كيف ملئ علمًا لو وجدت له طالبًا، سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله ﷺ، هذا ما زَقَّني رسول الله ﷺ زقًّا، فاسألوني، فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثنيت لي الوسادة، ثم أجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينادي كل كتاب بأن عليًّا حكم في بحكم الله فيّ».

وفي رواية: «حتى ينطق الله التوراة والإنجيل».

وفي رواية: «حتى يزهر كل كتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب، إن عليًّا قضى بقضائك..»([16]).

فأي غلو أعظم من هذا؟

فانظر لأهل السنة كيف ردوا المكذوب، ولو كان مدحًا لمحبوبهم، وانظر إلى الشيعة، كيف اختلقوا الكذب الذي أيدوه وقبلوه، ولم يعدوا ذلك غلوا؟!([17])

 

 

 

 

 

 

 ([1]) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، محمد بن علي الشوكاني (1/335).

 ([2]) الموضوعات، ابن الجوزي (1/319).

 ([3]) كشف الخفاء (2/516) ت هنداوي.

 ([4]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص115) ت أبي غدة.

 ([5]) بحار الأنوار، المجلسي (٢٦/١٩٤) دار إحياء التراث العربي- الطبعة الثالثة.

 ([6]) بحار الأنوار (٢٦/159).

 ([7]) بحار الأنوار (٢٦/264).

 ([8]) ينابيع المعاجز وأصول الدلائل، هاشم البحراني (ص35) مؤسسة المعارف الإسلامية - الطبعة الأولى ١٤١٦.

 ([9]) مقامات فاطمة الزهراء في الكتاب والسنة، ويليه الوراثة الاصطفائية، تقرير لأبحاث المحقق آية الله محمد السند (١/٣٣٦)، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع لبنان بيروت- الطبعة الأولى ١٤٣٣-٢٠١٢.

 ([10]) مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين (ع)، رجب البرسي (١/١٥٨)، مؤسسة الأعلمي الطبعة الأولى ١٤٢٢هـ.

 ([11]) الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري (١/٢٧) مؤسسة الأعلمي للنشر والمطبوعات- الطبعة الأولى المصححة ١٤٣١-٢٠١٠م.

 ([12]) الأنوار النعمانية (١/33 - 34).

 ([13]) الأنوار النعمانية (١/34).

 ([14]) الأنوار النعمانية (١/41).

 ([15]) التوحيد، الصدوق (ص٧٠ - ٧٥) دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت لبنان.

 ([16]) بحار الأنوار (٤٠/١٥٣).

 ([17]) وأما الروايات في علم أبي بكر فكثيرةٌ جدًّا، وقد ذُكرت في بحث مستقل في رد شبهة بعنوان «لم يكن أبو بكر أعلم الصحابة بدلالة حديث (مدينة العلم)» فلتراجَع.