أولًا: أَمَر النبي r وحَثَّ الناس على إنفاذ جيش أسامة، ولم يكن للمسلمين ديوان، ولم يكن من عادته r تحديد الأسماء، ولذلك كان الأمر بتجهيز جيشٍ ليغير على مُؤْتة وعلى جانب فلسطين، فتجهز الجيش وكانوا ثلاثة آلاف فقط، وهذا عدد قليل مقارنة بجيش العسرة الذي كان قبلها بسنة ونصف تقريبًا وقد بلغ عدُده ثلاثين ألفًا، وعليه فحتى يصِح تحديد الأسماء فلا بد من رواية صحيحة في ذلك، وهذا ما لم يحصل قط.
روى الإمام البيهقي عن موسى بن عقبة قال: «وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ تَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ، وَخَرَجَ فِي نَقْلِهِ إِلَى الْجُرُفِ، فَأَقَامَ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِشَكْوَى رسُولِ الله r، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ r قَدْ أَمَّرَهُ عَلَى جيشٍ عامتُهُم الْمُهَاجِرُونَ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ r أَنْ يُغِيرَ عَلَى مُؤْتَةَ، وَعَلَى جَانِبِ فِلَسْطِينَ؛ حَيْثُ أُصِيبَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ r إِلَى ذَلِكَ الْجِذْعِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُونَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، وَدَعَا رَسُولُ اللهِ r أُسَامَةَ بن زَيْدٍ فَقَالَ: «اغْدُ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، وَالنَّصْرِ وَالْعَافِيَةِ، ثُمَّ أَغِرْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ أَنْ تُغِيرَ»، قَالَ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ أَصْبَحْتَ مُفِيقًا، وَأَرْجُو أَنْ يكونَ اللهُ U قَدْ عَافَاكَ، فَائْذَنْ لِي، فَأَمْكُثَ حَتَّى يَشْفِيَكَ اللهُ، فَإِنِّي إِنْ خَرَجْتُ وَأَنْتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، خَرَجْتُ وَفِي نَفْسِي مِنْكَ قُرْحَةٌ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْكَ النَّاسَ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ الله r»([1]).
فالروايةُ إذًا لم تذكر أن أبا بكرٍ كان فيهم، ولم يعزم النبي r على أحدٍ بالخروج مع أسامة، وإنما كان كل فرد ينتدب نفسه إذا رأى قوة لذلك.
ثانيًا: الروايةُ التي فيها أن النبي r لعن من تخلف عن جيش أسامة روايةٌ مردودةٌ من وجوهٍ:
الوجه الأول: أنها لم تُرْوَ في دواوين السنة المعروفة، وإنما نسبها ابن أبي الحديد إلى كتابٍ منسوب إلى أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وهذا الكتاب لم يثبت عن صاحبه، كما هو معلوم عند أهل الحديث.
الوجه الثاني: أن الإسناد الذي في كتاب السقيفة وفدك إسناد ساقط على مباني السنة والشيعة.
قال الشيخ الألباني رحمه الله في حديث: «أنفذوا بعث أسامة، لعن الله من تخلف عنه، وكرر ذلك»: منكر؛ أخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في «كتاب السقيفة» قال: حدثنا حمد بن إسحاق بن صالح، عن أحمد بن سيار، عن سعيد بن كثير الأنصاري، عن رجاله، عن عبد الله بن عبد الرحمن، «أن رسول الله r في مرض موته أمَّر أسامة بن زيد بن حارثة على جيشٍ فيه جِلَّة المهاجرين والأنصار؛ منهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وأَمَرَه أن يغير على مؤتة»، قلت: فساق الحديث فيه: «وقام أسامة فتجهز للخروج، فلما أفاق رسول الله r سأل عن أسامة والبعث، فأخبر أنهم يتجهزون، فجعل يقول:...» فَذَكَرَه.
وإسناد الحديث ضعيف لا يصح، وبيان هذا من وجوهٍ:
الأول: أن عبد الله بن عبد الرحمن هذا يغلب على الظن أنه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري الذي روى له ابن جرير في «تاريخه» (3/218 -222) قطعةً كبيرةً من قصة بيعة السقيفة، ولم أجد من ذكره غير ابن أبي حاتم (2/96). وقال: «روى عن جده أبي عمرة، روى عنه المسعودي». ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا!
الثاني: رجال سعيد بن كثير الأنصاري مبهمون لا يعرفون.
الثالث: حمد بن إسحاق بن صالح لم أجده.
الرابع: أحمد بن عبد العزيز الجوهري، هو من رجال الشيعة المجهولين، أورده الطوسي في «الفهرست» (36/100). وقال: «له كتاب السقيفة»، ولم يزد على ذلك شيئًا، فدل على أنه غير معروف لديهم، فضلًا عن غيرهم من أهل السنة، فقد قال في «المقدمة» (ص2): «.. فإذا ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلا بد من أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح، وهل يعول على روايته أم لا؟ ...».
قلت: ومن هذا تعلم جهل عبد الحسين الشيعي حتى برجال مذهبه! فيحتج بحديث الجوهري هذا؛ وهو غير معروف عندهم، فضلًا عمن فوقه ممن لا يُعرفون أيضًا!
ومن الترجمة السابقة؛ تعلم أن كتاب «السقيفة» هو من كتب الشيعة التي لا يُعْتَمد عليها عندنا، وقد علق عليه السيد محمد صادق آل بحر العلوم بقوله: «يَنْقُلُ عن كتاب «السقيفة» هذا كَثِيرًا ابن أبي الحديد المعتزلي في «شرح نهج البلاغة»، مع نسبته لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري.. فراجع».
قلت: وعن ابن أبي الحديد الشيعي؛ نقله عبد الحسين -صاحب المراجعات-، كما صرح بذلك عقب الحديث، مع تدليسه على القراء وإيهامه إياهم أن مؤلف «السقيفة» هو من أهل السنة! كما يظهر ذلك لمن أمعن النظر في المراجعة (ص91)، وجوابه عليها في المراجعة التي بعدها!»([2]).
الوجه الثالث: ذكر محسن الأمين أن الرجل –أي الجوهري-كان شيعيًّا إِمَاميًّا، ومن قال بأنه من أهل السنة فهو واهم.
ففي «أعيان الشيعة»: «أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في «الفهرست»: أحمد بن عبد العزيز الجوهري له كتاب السقيفة، وظاهر الميرزا في رجاله أنه جعله هو والذي قبله واحدًا، ومقتضى ذكر الشيخ له في «الفهرست» أنه إمامي؛ لأنه موضوع لذكر مصنفي الإمامية، ولكن ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» قال عند الكلام على فدك: الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل الحديث وكتبهم، لا من كتب الشيعة ورجالهم؛ لأنا مشترطون على أنفسنا أن لا نحفل بذلك، وجميع ما نورده في هذا الفصل من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وهو عالم محدث كثير الأدب ثقة ورع، أثنى عليه المحدثون ورووا عنه مصنفاته، وهو كالصريح في أنه غير إمامي فيجوز أن يكون خفي حاله على ابن أبي الحديد»([3]).
وصرح الخوئي بأن الرجل شيعي، لكنه مجهول الحال عندهم، فقال بعدما نقل كلام ابن أبي الحديد: «صريح كلام ابن أبي الحديد أن الرجل من أهل السنة، ولكن ذِكر الشيخ له في الفهرست: كاشف عن (كونه شيعيًّا)، وعلى كل حال فالرجل لم تثبت وثاقته؛ إذ لا اعتداد بتوثيق ابن أبي الحديد»([4]).
وعليه: فالرجل وكتابه ساقطان عند الشيعة، وأما عند أهل السنة فلم يثبت أنه قد ألف هذا الكتاب المنسوب إليه([5]).
فضلًا عن سقوط الإسناد المذكور كما حققه الشيخ الألباني رحمه الله.
ثالثًا: نحن نقلبُهَا عليهم في علي t -وحاشاه- فنقول: إن عليًّا تخلف عن جيش أسامة فهو مشمولٌ باللعن، فإن قالوا: لم يكن علي معهم، قلنا: هاتوا لنا روايةً صحيحةً تستثني عليًّا من الخروج مع الجيش، وليس لهم مخرج إلا ما ذكرناه في أبي بكر، فإن سلموا لنا في أبي بكر فقد سقطت الشبهة، وإن لم يسلموا لزمهم ذلك في علي t، وحاشاه من طعن الرافضة.
رابعًا: معلوم أن أبا بكر كان يصلي بالناس في مرض رسول الله r، فلو فرضنا جدلًا أنه كان في الجيش في بداية الأمر ثم أمره النبي r أن يصليَ بالناس مدة مرضه r، فيكون الذي أَذِنَ له بعدم الخروج مع الجيش هو رسول الله r.
خامسًا: كيف يطعنون في الصديقِ في أمر هو الذي أصر عليه وأنفذه بعد موت رسول الله r؛ قال ابن كثير: «لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ -الردة- أَشَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى الصِّدِّيقِ أَنْ لَا يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ؛ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ الْآنَ مِمَّا جُهِّزَ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ السَّلَامَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ إِلَّا أَنْ يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحُلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُولُ اللهِ r، وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخَطَفُنَا، وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ أَنَّ الْكِلَابَ جَرَّتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ. فَجَهَّزَهُ وَأَمَرَ الْحَرَسَ يَكُونُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ خُرُوجُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ»([6]).
فرجَع ذم الرافضة للصديق مدحًا، وظهر أنه غاظهم لما أظهر قوة الإسلام والمسلمين بإنفاذ جيش أسامة وتنفيذ أمر رسول الله r.
([1]) دلائل النبوة للبيهقي (7/200).
([2]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني (10/718 – 720) بتصرف.
([3]) أعيان الشيعة، محسن الأمين (٣/٦).
([4]) معجم رجال الحديث (2/142 -143).
([5]) راجع ترجمته في كتاب إرشاد القاصي والداني إلى تراجم شيوخ الطبراني (ص167).
([6]) البداية والنهاية، ط هجر (9/421).