زعمهم عدم حضور الصديق دفن النبي صلي الله عليه وسلم والصلاة عليه

الشبهة:

يقول نبيل الحسني: « وها هو شيخ البخاري في مصنفه يقول: «إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي، كانا في الأنصار فدفن قبل أن يرجِعا»، وها هو ابن عبد البر يقول: «ولم يلِهِ إلا أقاربه! وقد شغل الناس عن دفنه بشأن الأنصار»، ولم يشأ ابن عبد البر أن يسمي أحدًا فنسب الأمر إلى الناس؛ ولم يسأل: أين صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الوقت؟!

وها هو شيخ البخاري مرةً أخرى يصرح بكل ألم وفاجعة قائلًا: «إن الذي وَلِيَ دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة دون الناس، علي، والعباس، والفضل، وصالح مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم»، فأين ذهب المهاجرون؟! وبماذا انشغل الأنصار عن دفن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم؟! وهل كان عنده أحد منهم حتى يكون هناك نزاع أو خلاف؟!»([1]).

 

 ([1]) وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره (1/43).

الرد علي الشبهة:

أولًا: الروايات في ذلك لا تصح، وإليك بيانها:

الرواية الأولى: رواية ابن أبي شيبة، قال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير عن هشام بن عروة، عن أبيه «أن أبا بكر وعمر لم (يشهدا) دفن النبي r، (كانا) في الأنصار (فبويعا) قبل أن يرجعا»([1]).

والرواية منقطعة؛ لأن عروة لم يحضر وفاة النبي r، قال الذهبي في السير: «قَالَ خَلِيْفَةُ: وُلِدَ عُرْوَةُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ، فَهَذَا قَوْلٌ قَوِيٌّ. وَقِيْلَ: مَوْلِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ مُصْعَبُ بنُ عَبْدِ اللهِ: وُلِدَ لَسِتِّ سِنِيْنَ خَلَتْ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقَالَ مَرَّةً: وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ»([2]).

وعليه فالرواية لا تصح.

الرواية الثانية التي نسبها صاحب الشبهة لابن عبد البر، وكان الواجب عليه أن يذكر أنها روايةٌ وليست قولًا لصاحب الكتاب.

فقد روى ابن عبد البر بإسناده عن ابنِ شهاب قال: «توفِّي رسولُ الله r على صدرِ عائشة، وفي يومِها يوم الاثنين حينَ زاغَت الشمس، فشُغِل الناسُ عن دفنِه بشأنِ الأنصار، فلم يُدْفَنْ حتى كانت العَتَمة، ولم يَلِه إلا أقاربُه، ولم يُصَلِّ الناسُ عليه إلَّا عُصَبًا بعضُهم قبلَ بعض»([3]).

وهذه الرواية أيضا لا تصح؛ لأنها من مراسيل الزهري التي هي كالريح.

قال الإمام ابن رجب: «وخرج البيهقي من طريق أبي قدامة السرخسي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: مرسل الزهري شر من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكل ما يقدر أن يسمى سمي، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه.

وقال يحيى بن معين: مراسيل الزهري ليس بشيء.

وقال الشافعي: إرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم.

وقد روي أيضا تضعيف مراسيل الزهري عن يحيى بن سعيد، وأن أحمد بن صالح المصري أنكر ذلك عليه، لكن من وجه لا يثبت»([4]).

وعليه فما استدلوا به على عدم حضور الصديق وغيره من الأنصار جنازة النبي r لا يصح، وصاحب الدعوى إذًا لم يثبتها بمستند صحيح، وعليه فهي دعوى ساقطة.

 

ثانيًا: لم يشترط أحد ذكر أسماء كل من حضر جنازة النبي r، أو من حضر الصلاة عليه حتى تلزمونا بتسمية من حضر، مع وجود التفريق بين الصلاة وحضور الدفن، وذلك أن الثابت عند السنة والشيعة أن الصحابة صلوا على النبي r جماعات جماعات بلا إمام.

فقد ثبت بإسناد صحيح في مسند أحمد: «عَنْ أَبِي عَسِيبٍ، أَوْ أَبِي عَسِيمٍ، قَالَ بَهْزٌ: إِنَّهُ شَهِدَ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ r، قَالُوا: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْهِ؟ قَالَ: «ادْخُلُوا أَرْسَالًا أَرْسَالًا»، قَالَ: فَكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ»([5]).

وقال ابن عبد البر: «وَأَمَّا صَلَاةُ النَّاسِ عَلَيْهِ أَفْذَاذًا فَمُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ، وَجَمَاعَةُ أَهْلِ النَّقْلِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ»([6]).

وعند الشيعة في «الكافي»: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنِ الْحَلَبِيِّ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَتَى الْعَبَّاسُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا أَنْ يَدْفِنُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ فِي بَقِيعِ الْمُصَلّى، وأَنْ يَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِمَامٌ حَيًّا ومَيِّتًا، وقَالَ: إِنِّي أُدْفَنُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أُقْبَضُ فِيهَا، ثُمَّ قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَصَلّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ عَشَرَةً عَشَرَةً يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ»([7]).

وعليه فصلاة المسلمين على رسول الله r أمر متفق عليه بين السنة والشيعة، ولم تنص الروايات على ذكر من حضر ومن لم يحضر، وعليه فالمطالبة باسم بعينه هو عين التحكم وهو باطل، وإلا فلو ادعى إنسان عدم حضور الحسن والحسين الصلاة أو الدفن لما استطاع القائل بحضورهم أن يأتي بدليل.

وأما بخصوص الدفن فإنه من المعلوم أن جنازة النبي r لم تشيع خارج بيته حتى يحضرها الناس ويشيعوها، وذلك أن الدفن إنما كان في غرفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والمكان ضيق لا يتسع لكل الناس، بل يكفي أن يحضر من يقوم بالواجب فقط.

ثالثًا: لو كان عدم حضور دفن النبي r مؤثرًا في دين المرء وطاعنًا فيه لوجب الطعن في جميع من لم يحضر الدفن، فلو فرضنا جدلًا أن الصحابة سلموا الخلافة لعلي، وفعلوا كل حسن بعد وفاة النبي r ثم تخلفوا عن الدفن؛ لكون الغرفة لا تتسع لأكثر من خمسة مثلا؛ أوجب الطعن في دين الجميع لمجرد عدم حضور الدفن، وهذا لا قائل به على الإطلاق.

رابعًا: لو فرضنا جدلًا أن الصحابة تركوا الصلاة على النبي r ولم يحضروا دفنه لتشاغلهم بعقد الإمامة، فهذا لا شيء فيه، بل إن هذا موجود مثله في فقه الشيعة.

خامسًا: بنفس مفهومكم أيضًا يجب أن تذموا سلمان وجابرا وأبا ذر؛ لأنهم لم يحضروا الدفن أيضًا!

قال أبو الحسن الأصفهاني:

«(مسألة8): إذا حضرت جنازة في وقت الفريضة فإن لم تزاحم الصلاة عليها مع  الفريضة من جهة سعة وقتها، ولم يخش من الفساد على الميّت لو أخّرت صلاته تخيّر بينهما، والأفضل تقديم صلاته، إلّا إذا زاحمت مع وقت فضيلة الفريضة فترجّح عليها.

ويجب تقديمها على الفريضة في سعة وقتها، إذا خيف على الميّت من الفساد لو أُخّرت صلاته، كما أنّه يجب تقديم الفريضة مع ضيق وقتها وعدم الخوف على الميّت»([8]).

ومن المعلوم أن عقد الإمامة واجب على الأمة، كما روى الشيعة أنفسهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل، ضالًّا كان أو مهتديًا، أن لا يعملوا عملًا ولا يقدموا يدًا ولا رجلًا، حتى أن يختاروا لأنفسهم إمامًا عفيفًا عالِمًا ورعًا عارفًا بالقضاء والسنة، يجبي فيئهم، ويقيم حجهم، وجمعهم، ويجبي صدقاتهم»([9]).

وعليه: فالصحابة تَزاحم عندهم واجبُ تنصيب الخليفة وواجب الصلاة على النبي ودفنه -جدلًا- وكان كلاهما واجبًا على الكفاية، فذهب قسم منهم للصلاة على النبي r وتغسيله ودفنه، وأولى الناس بهذا الأمر هم أهل الميت لا شك، وقسم آخر ذهب لتنفيذ الواجب الآخر، وهو عقد البيعة لأفضل الناس بعد رسول الله r.

فثبت من هذا أن هذه الشبهة ساقطةٌ من كل وجه، سواء من ناحية الثبوت، أو من ناحية الوجود على فرضه.

 

 ([1]) المصنف، ابن أبي شيبة (21/144) ت الشثري.

 ([2]) سير أعلام النبلاء، (4/422) ط الرسالة.

 ([3]) التمهيد، ابن عبد البر (16/346) ت بشار.

 ([4]) شرح علل الترمذي، ابن رجب الحنبلي (1/535).

 ([5]) مسند أحمد (34/365) ط الرسالة.

 ([6]) التمهيد، ابن عبد البر (24/397).

 ([7]) الكافي (٢/٤٦٩)، وقال المجلسي في مرآة العقول (٥/٢٦٦): «حسن كالصحيح».

 ([8]) وسيلة النجاة، أبو الحسن الأصفهاني (1/79).

 ([9]) مستدرك الوسائل (6/14).