أولًا: جميع الروايات التي جاءت بالتصريح أو التلميح بهزيمة أبي بكر وعمر ضعيفة الأسانيد لا تقوم بها حجة، وقد جمع كل طرقها: أبو حذيفة نبيل بن منصور بن يعقوب بن سلطان البصارة الكويتي في كتابه «أنِيسُ السَّاري في تخريج وَتحقيق الأحاديث التي ذكرها الحَافظ ابن حَجر العسقلاني في فَتح البَاري»، وانتهى إلى ضعف جميع الأسانيد في ذلك، وأنا أنقل كلامه بطوله للفائدة.
قال الحافظ: «في حديث علِي عند ابن أبي شيبة: أرمد، وفي حديث جابر عند الطبراني في «الصغير»: أرمد شديد الرمد، وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم في «الدلائل»: أرمد لا يبصر. وقال: وعند الحاكم من حديث علي نفسه: قال: فوضع رأسي في حجره ثم بزق في ألية راحته فدلك بها عيني».
(1) حديث علي أخرجه ابن أبي شيبة (12/62 – 63) و (14/464 - 465) عن علي بن هاشم بن البريد الكوفي ثنا ابن أبي ليلى عن المنهال والحكم وعيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان عليٌّ يخرج في الشتاء في إزار ورداء ثوبين خفيفين، وفي الصيف في القباء المحشو والثوب الثقيل. فقال الناس لعبد الرحمن: لو قلت لأبيك فإنه يسهر معه. فسألت أبي فقلت: إنَّ الناس قد رأوا من أمير المؤمنين شيئًا استنكروه، قال: وما ذاك؟ قال: يخرج في الحر الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل ولا يبالي ذلك، ويخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين والملاءتين لا يبالي ذلك ولا يتقي بردًا، فهل سمعت في ذلك شيئًا؟ فقد أمروني أن أسألك أن تسأله إذا سمرت عنده. فسمر عنده فقال: يا أمير المؤمنين! إنَّ الناس قد تفقدوا منك شيئًا، قال: وما هو؟ قال: تخرج في الحر الشديد في القباء المحشو والثوب الثقيل، وتخرج في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين وفي الملاءتين لا تبالي ذلك ولا تتقي بردًا، قال: وما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟ قال: بلى، والله قد كنت معكم، قال: فإنّ رسول الله r بعث أبا بكر فسار بالناس فانهزم حتى رجع إليه، وبعث عمر فانهزم بالناس حتى انتهى إليه، فقال رسول الله r: «لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله له، ليس بفرار»، فأرسل إليَّ فدعاني، فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئًا، فتفل في عيني وقال: «اللهم اكفه الحر والبرد»، قال: فما آذاني بعد حر ولا برد.
وأخرجه أبو موسى المديني في «اللطائف» (871) عن محمد بن عبيد المحاربي و(872) عن عبد الله بن محمد، وإسماعيل الأصبهاني في «الدلائل» (244) عن سهل بن عثمان العسكري، قالوا: ثنا علي بن هاشم به، ورواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن علي بن هاشم فلم يذكر المنهال بن عمرو.
أخرجه الحاكم (3/37)، وقال: «صحيح الإسناد» كذا قال، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال أحمد وابن معين: ضعيف الحديث، وقال الجُوزَجَاني: واهي الحديث سيئ الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث.
واختلف عن علي بن هاشم، فرواه عباد بن يعقوب الرَّوَاجني عن علي بن هاشم عن عبد الملك بن سليمان عن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه قال: بعث رسول الله r عمر وأصحابه فجاء منكسفًا، فقال النبي r: «ما لي أراكم تنهزمون؟! أما إني سأبعث إليهم رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله يفتح عليه»، وذكر الحديث([1]).
وعباد بن يعقوب، قال الدارقطني: شيعي صدوق، وقال ابن حبان: كان رافضيًّا داعية إلى الرفض، ومع ذلك يروي المناكير عن أقوام مشاهير فاستحق الترك، وقال ابن عدي: فيه غلو في التشيع، وروى أحاديث أنكرت عليه في فضائل أهل البيت وفي مثالب غيرهم.
وتابعه أبو نعيم ضرار بن صُرَد الكوفي ثنا علي بن هاشم به([2]). وضرار بن صرد، قال ابن معين: كذاب، وقال البخاري والنسائي: متروك الحديث. وحديث ابن أبي شيبة ومن تابعه أصح.
ورواه يونس بن بكير الشيباني عن ابن أبي ليلى، فلم يذكر عيسى بن عبد الرحمن([3])، وتابعه عبيد الله بن موسى الكوفي عن ابن أبي ليلى به([4]).
ورواه عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه فلم يذكر المنهال والحكم([5])، ورواه عثمان بن أبي شيبة عن وكيع، فلم يذكر المنهال وعيسى([6]). قال البوصِيري: هذا إسناد ضعيف، ابن أبي ليلى شيخ وكيع هو محمد، وهو ضعيف الحفظ لا يحتج بما ينفرد به»([7]).
وقال الهيثمي: «وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ»([8]).
وللحديث طريق أخرى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخرجها النسائي في «الخصائص» (151) والطبراني في «الأوسط» (2307) من طريق هاشم بن مخلد الثقفي ثنا أيوب بن إبراهيم الثقفي، عن إبراهيم الصائغ، عن أبي إسحاق الهَمْداني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنَّ عليًّا خرج علينا في حر شديد وعليه ثياب الشتاء، وخرج علينا في الشتاء وعليه ثياب الصيف، وذكر الحديث عن أبيه عن علي. قال الطبراني: لم يروه عن أبي إسحاق إلا إبراهيم، ولا يُروى عن إبراهيم إلا بهذا الإسناد».
قلت: وهو إسناد ضعيف، أيوب بن إبراهيم، قال الذهبي في «الميزان»: مجهول روى عنه هاشم بن مخلد فقط، وأبو إسحاق مدلس وقد عنعن، وكان قد اختلط أيضًا، ولم أر أحدًا صرح بسماع إبراهيم بن ميمون الصائغ منه أهو قبل الاختلاط أم بعده.
وتابعه عبد الكبير بن دينار المروزي وعيسى بن يزيد عن أبي إسحاق به. ذكر ذلك الدارقطني في «العلل» (3/279) وقال: ويقال: إنَّ أبا إسحاق لم يسمعه من عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإنما أخذه من ابنه محمد عن المنهال بن عمرو به.
وحديث جابر أخرجه أبو القاسم البغوي في «الصحابة» (5/424) والحاكم (3/38) من طريق فضيل بن عبد الوهاب القناد، ثنا جعفر بن سليمان عن الخليل بن مرة عن عمرو بن دينار عن جابر قال: لما كان يوم خيبر بعث رسول الله r رجلًا فجبن، فجاء محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله! لم أرَ كاليوم قط، قتل محمود بن مسلمة، فقال رسول الله r: «لا تمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون معهم، وإذا لقيتموهم فقولوا: اللهمَّ أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض جلوسًا، فإذا غشوكم فانهضوا وكبِّروا».
ثم قال رسول الله r: «لأبعثنَّ غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبانه، لا يولي الدبر، يفتح الله على يديه»، فتشرف لها الناس وعليٌّ يومئذ أرمد، فقال له رسول الله r: «سِرْ» فقال: يا رسول الله! ما أبصر موضعًا، فتفل في عينيه، وعقد له، ودفع إليه الراية، فقال علي: يا رسول الله، علام أقاتلهم؟ فقال: «على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهما، وحسابهم على الله عز وجل» قال: فلقيهم ففتح الله عليه. وإسناده ضعيف؛ لضعف الخليل بن مرة.
وحديث ابن عمر ذكره الهيثمي في «المجمع» (9/123) من طريقين:
الأول: عن ابن عمر قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله، إنَّ اليهود قتلوا أخي، قال: «لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فيمكنك من قاتل أخيك» فاستشرف لذلك أصحاب رسول الله r، فبعث إلى علي فعقد له اللواء، فقال: يا رسول الله، إني أرمد كما ترى -وهو يومئذٍ رمد- فتفل في عينيه فما رمدت بعد يومه، فمضى.
قال الهيثمي: «رواه الطبراني، وفيه أحمد بن سهل بن علي الباهلي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات».
قلت: أخرجه ابن سمعون في «الأمالي» (52) من طريق هُشيم عن العوام بن حوشب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر. وهشيم وحبيب مدلسان وقد عنعنا.
الثاني: يرويه جميع بن عمير قال: قلت لعبد الله بن عمر: حدثني عن علي، قال: سمعت رسول الله r يقول يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» فكأني أنظر إليها مع رسول الله r وهو يحتضنها، وكان علي بن أبي طالب أرمد من دخان الحصين، فدفعها إليه، فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه.
قال الهيثمي: «رواه الطبراني، وفيه جميع بن عمير وهو ضعيف، وقد وثق»([9]).
قلت: وخلاصة البحث أن الروايات أكثرها جاء من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
قال الإمام ابن الجوزي: «مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى بن بِلَال بن أميمة أَبُو عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ القَاضِي يروي عَن عَطاء وَالشَّعْبِيّ، قَالَ شُعْبَة: مَا رَأَيْت أَسْوَأ حفظًا مِنْهُ، وَقَالَ أَحْمد: ضَعِيف، وَقَالَ مرّة: سيئ الْحِفْظ مُضْطَرب فِي الحَدِيث، وَقَالَ يحيى بن سعيد: سيئ الْحِفْظ جدًّا، وَقَالَ يحيى بن معِين: ضَعِيف الحَدِيث، وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: شُغِلَ بِالْقضَاءِ فسَاء حفظُه، وَلَا يتهم بِشَيْء من الْكَذِب، إِنَّمَا يُنكر عَلَيْهِ كَثْرَة الْخَطَأ، وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان، كَانَ فَاحش الْخَطَأِ رَدِيء الْحِفْظ، فكثرت الْمَنَاكِير فِي حَدِيثه، فَاسْتحقَّ التّرْك، تَركه احْمَد وَيحيى، وَقَالَ الدارقطني: هُوَ رَدِيء الْحِفْظ كثير الْوَهم»([10]).
وبعض الروايات فيها عباد بن يعقوب وهو شيعي ضعيف.
قال ابن الجوزي: «عباد بن يَعْقُوب الروَاجِنِي أَبُو سعيد الْكُوفِي يروي عَن شريك، قَالَ ابْن حبَان: كَانَ رَافِضِيًّا داعيًا، يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير فَاسْتحقَّ التّرْك، وَقَالَ ابْن عدي: روى أحاديث أنْكرت عَلَيْهِ فِي فَضَائِل أهلِ الْبَيْت وَمَا لَهُ غَيرهم، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بضعيف، قَالَ الْمُصَنّف: قلت: قد أخرج عَنهُ البُخَارِيّ، أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك، عَن أبي نصر أَحْمد بن عَليّ الْحَافِظ، أخبرنَا أَبُو نعيم، حَدثنِي مُحَمَّد بن المظفر قَالَ: سَمِعت قَاسم بن زَكَرِيَّا الْمُطَرز يَقُول: دخلت الْكُوفَة فَكتبت عَن شيوخها كلهم غير عباد بن يَعْقُوب، فَلَمَّا فرغت دخلت إِلَيْهِ وَكَانَ يمْتَحن من يسمع مِنْهُ، فَقَالَ لي: من حَفرَ الْبَحْر؟ فَقلت: الله خلق الْبَحْر، فَقَالَ: هُوَ كَذَلِك، وَلَكِن من حَفَرَه؟ فَقلت: يذكر الشَّيْخ، فَقَالَ: حفره عَليّ بن أبي طَالب، ثمَّ قَالَ: وَمن أجراه؟ قلت: الله مجري الْأَنْهَار ومنبع الْعُيُون، فَقَالَ: هُوَ كَذَلِك وَلَكِن من أجْرى الْبَحْر؟ فَقَالَ: يفيدني الشَّيْخ، فَقَالَ: أجراه الْحُسَيْن بن عَليٍّ، قَالَ: فَكَانَ عباد مكفوفًا، فَرَأَيْت فِي دَاره سَيْفًا مُعَلَّقًا وحُجْفَةً، فَقُلْنَا: أَيهَا الشَّيْخ، لمن هَذَا السَّيْف؟ فَقَالَ: لي، أعددته لأقاتل بِهِ مَعَ الْمهْدي، قَالَ: فَلَمَّا فرغت من سَماع مَا أردْت أَن أسمعهُ مِنْهُ وعزمت على الْخُرُوج عَن الْبَلَد دخلت عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي فَقَالَ: من حفر الْبَحْر؟ فَقلت: حفره مُعَاوِيَة وأجراه عَمْرو بْن الْعَاصِ، ثمَّ وَثَبت من بَين يَدَيْهِ وَجعلت أعدو، وَجعل يَصِيح: أدركوا الْفَاسِق وعدو الله فَاقْتُلُوهُ»([11]).
وبعضها من طريق ضرار بن صرد:
قال ابن الجوزي: «ضرار بن صرد أَبُو نعيم الْكُوفِي الطَّحَّان، يروي عَن الْمُعْتَمِر والدراوردي، وَكَانَ متعبدًا مَتْرُوكَ الحَدِيث، وَكَانَ يكذب، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوكُ الحَدِيث، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيف»([12]).
وبعضها فيه أيوب بن إبراهيم، وهو مجهول.
«أيوب بن إبراهيم الثقفي المروزي، مجهول»([13]).
وفي بعضها الخليل بن مرة.
قال ابن الجوزي: «الْخَلِيل بن مرّة، يروي عَن اللَّيْث بن سعد، ضعفه يحيى بن معِين وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث عَن الْمَشَاهِير، كثير الرِّوَايَة عَن المجاهيل»([14]).
وعليه فلم يسلم طريق لذلك قط.
ثانيًا: قوله بأن الصديق لم يقاتل هذا محض كذب منه، بل جاءت الروايات وصرحت بأنه قاتل قتالًا شديدًا.
فقد روى الطبري بإسناد صحيح عن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كان رسول الله r رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ، فَيَلْبَثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لا يخرج، فلما نزل رسول الله r خَيْبَرَ أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخَذَ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ، ثُمَّ نَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخَذَهَا عُمَرُ فَقَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْقِتَالِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ، [فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ لأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، يَأْخُذُهَا عَنْوَةً]- قال: وليس ثم علي ع»([15]).
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: «حَاصَرْنَا خَيْبَرَ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَ الْغَدِ عُمَرُ فَخَرَجَ فَرَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجُهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِنِّي دَافِعُ اللِّوَاءِ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ».
وَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ r صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفِلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، وَفُتِحَ لَهُ». قَالَ بُرَيْدَةُ: وَأَنَا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا»([16]).
فهذه الروايات تنفي زعم الشيعي أن الصديق لم يقاتل، بل الرواية تثبت القتال الشديد من الصديق ومن الصحابة في اليوم الأول من المعركة، ثم إن عدم الفتح في اليوم الأول لو جاز الطعن على القائد به لآل ذلك إلى الطعن في النبي r؛ كونه حاصر بني النضير ستة أيام ولم يفتح له في اليوم الأول ..!
ثالثًا: الطعن في أبي بكر -كونه انهزم جدلًا- هو طعن في رسول الله r كونه لم يحسن اختيار قائد جيشه من أول يوم، ولا يجوز لقائد أن يضع جيشه في هزيمة لأي مبرر يذكره الشيعة؛ لأن هزيمة جيش الإسلام فيه هزيمة للدين، وهذا لا يليق برسول الله r أن يفعله، وعليه فكل خطأ ينسبه الشيعة للصديق فالمقصود به هو رسول الله r الذي قدَّمه على علِي وعلى غيره من الصحابة، فلو كان في الصحابة من هو أفضل وأشجع وأقوى منه على تلك المهمة لما شرفه رسول الله r بإعطائه رايته r، واعتراف الشيعة بذلك هو اعتراف بتقديم الصديق على غيره من الصحابة عند رسول الله r وكفى بهذا شرفًا.
رابعًا: شارك أبو بكر في كل أنواع الجهاد، وكان له القَدَحُ المعلى في الشجاعة، وبيان ذلك من كلام ابن حزم رحمه الله.
«(قَالَ أَبُو مُحَمَّد:) وجدناهم يحتجون بِأَن عليًّا كَانَ أَكثر الصَّحَابَة جهادًا وطعنًا فِي الْكفَّار وَضَربا وَالْجهَاد أفضل الْأَعْمَال.
(قَالَ أَبُو مُحَمَّد:) هَذَا خطأ؛ لِأَنَّ الْجِهَاد يَنْقَسِم أقسامًا ثَلَاثَة: أَحدهَا: الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل بِاللِّسَانِ، وَالثَّانِي: الْجِهَاد عِنْد الْحَرْب بِالرَّأْيِ وَالتَّدْبِير، وَالثَّالِث: الْجِهَاد بِالْيَدِ فِي الطعْن وَالضَّرْب، فَوَجَدنَا الْجِهَاد فِي اللِّسَان لَا يلْحق فِيهِ أحد بعد رَسُول الله r أَبَا بكر وَعمر، أما أَبُو بكر فَإِن أكَابِر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَسْلمُوا على يَدَيْهِ، فَهَذَا أفضل عمل، وَلَيْسَ لعَلي من هَذَا كثير حَظّ، وَأما عمر فَإِنَّهُ من يَوْم أسلم عز الْإِسْلَام وَعبد الله تَعَالَى بِمَكَّة جَهرًا، وجاهد الْمُشْركين بِمَكَّة بيدَيْهِ فَضَرَبَ وَضُرِبَ حَتَّى مَلُّوهُ فَتَرَكُوهُ، فعبد الله تَعَالَى عَلَانيَةً، وَهَذَا أعظم الْجِهَاد، فقد انْفَرد هَذَانِ الرّجلَانِ بِهَذَيْنِ الجهادين الَّذين لَا نَظِير لَهما ولا حظَّ لعَلي فِي هَذَا أصلًا.
وَبَقِي الْقسم الثَّانِي، وَهُوَ الرَّأْي والمشورة، فوجدناه خَالِصا لأبي بكر ثمَّ لعُمَر.
بَقِي الْقسم الثَّالِث، وَهُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة، فوجدناه أقل من مَرَاتِب الْجِهَاد ببرهان ضَرُورِيّ، وَهُوَ أَن رَسُول الله r لَا شكّ عِنْد كل مُسلم أَنه الْمَخْصُوص بِكُل فَضِيلَة، فَوَجَدنَا جهاده عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا كَانَ فِي أَكثر أَعماله وأحواله الْقسمَيْنِ الْأَوَّلين من الدُّعَاء إِلَى الله عز وَجل وَالتَّدْبِير والإرادة، وَكَانَ أقل عمله r الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة، لَا عَن جُبْنٍ، بل كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَشْجَعَ أهل الأَرْض قاطبةً نفسًا ويدًا وأتمَّهم نجدةً، وَلكنه كَانَ يُؤثر الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل من الْأَفْعَال، فَيقدمهُ عَلَيْهِ السَّلَام ويشتغل بِهِ، ووجدناه عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم بدر وَغَيره وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثارًا من رَسُول الله r لَهُ بذلك، واستظهارًا بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأنسًا بمكانه، ثمَّ كَانَ عمر رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضًا، وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليّ وَدون سَائِر الصَّحَابَة إِلَّا فِي الندرة، ثمَّ نَظرنَا مَعَ ذَلِك فِي هَذَا الْقسم من الْجِهَاد الَّذِي هُوَ الطعْن وَالضَّرْب والمبارزة، فَوَجَدنَا عليًّا رَضِي الله عَنهُ لم ينْفَردْ بالسبق فِيهِ، بل قد شَاركهُ فِي ذَلِك غَيره شركَة الْعَنَان، كطلحة وَالزُّبَيْر وَسعد، وَمِمَّنْ قتل فِي صدر الْإِسْلَام كحمزة وَعبيدَة بن الْحَارِث بن الْمطلب وَمصْعَب بن عُمَيْر، وَمن الْأَنْصَار سعد بن معَاذ وَسماك بن خرسة وَغَيرهمَا، وَوجدنَا أَبَا بكر وَعمر قد شاركاه فِي ذَلِك بحظ حسن، وَإِن لم يلحقا بحظوظ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا ذَلِك لشغلهما بالأفضل من مُلَازمَة رَسُول الله r وموازنة فِي حِين الْحَرْب، وَقد بعثهما رَسُول الله r على الْبعُوث أَكثر مِمَّا بعث عليًّا، وَقد بعث أَبَا بكر إِلَى بني فَزَارَة وَغَيرهم، وَبعث عمر إِلَى بني فلَان، وَمَا نعلم لعَلي بعثًا إِلَّا إِلَى بعض حصون خَيْبَر ففتحه، وَقد بعث قبله أَبَا بكر وَعمر فَلم يفتحاهُ، فَحصل أَربع أَنْوَاع الْجِهَاد لأبي بكر وَعمر وَقد شاركا عليًّا فِي أقل أَنْوَاع الْجِهَاد مَعَ جمَاعَة غَيرهم»([17]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَالنَّبِيُّ r كَانَ أَكْمَلَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الشَّجَاعَةِ، الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِي أَئِمَّةِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، قَتَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ أَحَدًا لَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. وَكَانَ أَشْجَعَ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ .......وَكَانَ عَلِيٌّ وَغَيْرُهُ يَتَّقُونَ بِرَسُولِ اللهِ r؛ لِأَنَّهُ أَشْجَعُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ قَدْ قَتَلَ بِيَدِهِ، أَكْثَرَ مِمَّا قَتَلَ النَّبِيُّ r.
وَإِذَا كَانَتِ الشَّجَاعَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْأَئِمَّةِ شَجَاعَةَ الْقَلْبِ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَشْجَعَ مِنْ عُمَرَ، وَعُمَرَ أَشْجَعَ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ سِيَرَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَاشَرَ الْأَهْوَالَ الَّتِي كَانَ يُبَاشِرُهَا النَّبِيُّ r مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَجْبُنْ وَلَمْ يَحْرَجْ وَلَمْ يَفْشَلْ، وَكَانَ يُقْدِمُ عَلَى الْمَخَاوِفِ: يَقِي النَّبِيَّ r بِنَفْسِهِ، يُجَاهِدُ الْمُشْرِكِينَ تَارَةً بِيَدِهِ وَتَارَةً بِلِسَانِهِ وَتَارَةً بِمَالِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُقْدِمٌ»([18]).
وقد طعن الشيعة في النبي r فقالوا: إن عليًّا كان أشجع منه.
فقد روى الصدوق «عن النبي (ص) قال: أعطيت ثلاثاً وعلِي مشاركي فيها، وأعطي علِي ثلاثة ولم أشاركه فيها... وأما الثلاث التي أعطي علي ولم أشاركه فيها؛ فإنه أعطى شجاعة ولم أعط مثله...»([19])، فإذا كان هذا حالهم مع النبي r فهل يستغرب طعنهم في أقرب الناس إليه؟!
سادسًا: اعترف الشيعة أن زمان أبي بكر وعمر كان زمان نصرة للإسلام والمسلمين، وأن أكثر الفتوحات كانت في زمان أبي بكر وعمر.
فعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ)؟.
فأنزل الله عز وجل بذلك كتابا قرآنًا: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) يعني غلبتها فارس في أدنى الأرض، وهي الشامات وما حولها، (وَهُمْ) يعني: وفارس (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) الرُّومَ (سَيَغْلِبُونَ) يَعْنِي: يَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) عز وجل، فلما غزا المسلمون فارس وافتتحوها، فرح المسلمون بنصر الله عز وجل.
قال: قلت: أليس الله عز وجل يقول: (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وَقَدْ مَضى لِلْمُؤْمِنِينَ سِنُونَ كَثِيرَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله، وَفِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا غَلَبَ الْمُؤْمِنُونَ فَارِسَ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ؟»([20]).
ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «فَكَانَ أَفْضَلَهُمْ زَعَمْتَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْصَحَهُمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْخَلِيفَةُ وَخَلِيفَةُ الْخَلِيفَةِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ مَكَانَهُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ لَعَظِيمٌ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِهِمَا لَجَرِحٌ فِي الْإِسْلَامِ شَدِيدٌ، رَحِمَهُمَا اللهُ وَجَزَاهُمَا بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ»([21]).
فإذا هذا كلام علِي رضي الله عنه في الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فهل يعتد بكلام من يزعم أنه من شيعته ويخالفه؟!
([1]) أخرجه الآجري في «الشريعة» (1494) وأبو نعيم في «الصحابة» (333).
([2]) أخرجه الطبراني في «الكبير» (6421) و«الأوسط» (5785).
([3]) أخرجه البيهقي في «الدلائل» (4/212 - 213).
([4]) أخرجه البزار (496) والنسائي في «خصائص علي» (14) والقطيعي في «زيادات فضائل الصحابة» (1084).
([5]) أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» (391)، ورواه أحمد (1/99 و133) وفي «الفضائل» (950) عن وكيع عن ابن أبي ليلى، فلم يذكر الحكم وعيسى.
([6]) أخرجه ابن ماجه (117).
([9]) أنيس الساري - تخريج أحاديث فتح الباري (11/1011 - 1007).
([10]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (3/76).
([11]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي، (2/77).
([12]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/60).
([13]) لسان الميزان، (9/264) ت أبي غدة.
([14]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (1/257).
([15]) تاريخ الطبري (3/12).
([16]) قال الهيثمي في «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» (6/150): «رَوَاه أَحمد، ورجاله رجال الصحيحِ».
([17]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (4/١٠٧).
([18]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (8/٧8- ٧9).
([19]) الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري (١/١٧).
([20]) الكافي (١٥/٦١٠)، وقال المجلسي في «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» (26/266): الحديث السابع والتسعون والثلاثمائة: صحيح.
([21]) وقعة صفين، المنقري (1/89).