أولًا: هذان صاحبا رسول الله r المقدمان على سائر الصحابة رضي الله عنهم في العلم والفضل، وهما وزيرَا النبي r، وصاحبا مشورته، ومحل أمانته، والأحاديث والآثار في فضلهما ومنزلتهما من النبي r ومن الصحابة ومن أهل الإسلام أكثر من أن تحصر؛ ولذلك كانا لا يفارقان النبي r في سِلم ولا حرب، وهذا شأن أهل المشورة.
قال ابن حزم: «وَكَانَ أَبُو بكر t مَعَه لَا يُفَارِقهُ إيثارًا من رَسُول الله r لَهُ بذلك، واستظهارًا بِرَأْيهِ فِي الْحَرْب وأُنْسًا بمكانه، ثمَّ كَانَ عمرُ رُبمَا شُورِكَ فِي ذَلِك أَيْضًا، وَقد انْفَرد بِهَذَا الْمحل دون عَليٍّ وَدُون سَائِر الصَّحَابَة، إِلَّا فِي الندرة»([1]).
ومما يدل على أن استشارة النبي r كانت في البداية موجهةً لأبي بكر وعمر رواية الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «اسْتَشَارَ النَّبِيُّ r مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَ عُمَرَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ: بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِيَّاكُمْ يُرِيدُ نَبِيُّ اللهِ r يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ..»([2]).
وعليه فقد كانت إشارة أبي بكر وعمر في محلها، وإلا لما اتخذهمَا النبي r وزيرَين ومستشارَين له.
ولقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عدة روايات تدل على أن النبي r كان دائمًا يميل لرأي الصديق ويستشيره، ثم قال معقبًا: «وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ هِيَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ تُبَيِّنُ اخْتِصَاصَ أَبِي بَكْرٍ بِمَنْزِلَةٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَشْرَكْهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، لَا عُمَرُ وَلَا عَلِيٌّ وَلَا غَيْرُهُمَا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْظَمُ إِيمَانًا وَمُوَافَقَةً وَطَاعَةً لِلهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ، وَلَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالشُّورَى قَبْلَه، فَإِنَّ النَّبِيَّ r كَانَ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ وَحْدَهُ فِي الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَإِنَّهُ كَانَ يَبْدَأُ بِالْكَلَامِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ r مُعَاوَنَةً لِرَسُولِ اللهِ r، كَمَا كَانَ يُفْتِي بِحَضْرَتِهِ، وَهُوَ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا لِغَيْرِهِ»([3]).
وقد عرف تلك المكانة لهما علي بن أبي طالب t حتى في كتب الشيعة ما استطاعوا إخفاء ذلك، فقد نقل الشيعة عن علي بن أبي طالب أنه أرسل رسالة لمعاوية، فكان فيها: «وَذَكَرْتَ أَنَّ اللهَ اجْتَبَى لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْوَانًا أَيَّدَهُ اللهُ بِهِمْ، فَكَانُوا فِي مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ عَلَى قَدْرِ فَضَائِلِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ أَفْضَلَهُمْ زَعَمْتَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْصَحَهُمْ لِلهِ وَرَسُولِهِ الْخَلِيفَةُ وَخَلِيفَةُ الْخَلِيفَةِ، وَلَعَمْرِي إِنَّ مَكَانَهُمَا مِنْ الْإِسْلَامِ لَعَظِيمٌ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِهِمَا لَجَرِحٌ فِي الْإِسْلَامِ شَدِيدٌ، رَحِمَهُمَا اللهُ وَجَزَاهُمَا بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ، وَذَكَرْتَ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ فِي الْفَضْلِ ثَالِثًا، فَإِنْ يَكُنْ عُثْمَانُ مُحْسِنًا فَسَيَجْزِيهِ اللهُ بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ يَكُ مُسِيئًا فَسَيَلْقَى رَبًّا غَفُورًا لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ»([4]).
ثانيًا: الكلام الذي صدر من أبي بكر وعمر كان تشجيعًا للنبي r، وتقوية له، ونصرة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، ومما يدل على ذلك روايةُ الطبري التي فيها: «... وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ r فِي أَصْحَابِهِ، حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: ذَفِرَانُ، فَخَرَجَ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ r النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ t فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ t فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ امْضِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَكَ اللهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَئِنْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ -يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ- لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ r خَيْرًا، ثُمَّ دَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ عَلَى الْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَكَأَنَّ رَسُولَ اللهِ r خَافَ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ r قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَجَلْ...»([5]).
وهذا من أصرح الأدلة على ما ذكرناه من إحسان أبي بكر وعمر في المشورة.
ثالثًا: سبب الإعراض- كما هو واضح -أن النبي r كان يريد رأي الأنصار؛ لأنهم أهل الدار والمنعة، ومقتضى بيعتهم في العقبة أنهم يدافعون عن رسول الله r في المدينة فقط.
ولذلك قال ابن هشام: «فكان رسول الله r يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه من المدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم»([6]).
وذكر الإمام النووي: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ r شَاوَرَ أَصْحَابَهُ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا لَأَخَضْنَاهَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا قَصَدَ r اخْتِبَارَ الْأَنْصَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ، فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوجَ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ الْأَصْحَابِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ»([7]).
ولأجل ذلك كان الإعراض؛ لأن خروج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما للحرب مضمون، وقد تركوا ديارهم وناصروا رسول الله r في شتى المواقف.
رابعًا: هل كل من أعرض عنه النبي r يكون منافقًا أو كافرًا؟
ثبت في كتب الشيعة أن النبي r أعرض عن فاطمة ابنته، ففي (المناقب) لابن شهرآشوب: «قَالَ أَبُو صَالِحٍ الْمُؤَذِّنُ فِي كِتَابِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيٍّ ع: إِنَّ النَّبِيَّ ص دَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، فَإِذَا فِي عُنُقِهَا قِلَادَةٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، فَقَطَعَتْهَا، فَرَمَتْ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص: «أَنْتِ مِنِّي يَا فَاطِمَةُ»، ثُمَّ جَاءَهَا سَائِلٌ فَنَاوَلَتْهُ الْقِلَادَةَ»([8]). والرواية عن موسى بن جعفر عن آبائه([9]).
فهل لما أعرض النبي r عن فاطمة كانت منافقةً أو كافرة أو جاهلة كما تزعمون؟!
بل وأعرض النبي r أيضًا عن سلمان الفارسي t :
فقد نقل عالمهم الشيعي نور الله التُّسْتَرِي رواية طويلة فيها:« قلنا لسلمان: سل رسول الله r: من نسند إليه أمورنا، ويكون مفزعنا؟ ومن أحب الناس إليه؟ فلقيه فسأله، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه»([10]).
فهل تقولون في سلمان ما قلتم في أبي بكر وعمر؟!
كيف وقد روى التِّرْمِذِيُّ والْحَاكِمُ وَصَححهُ، عَن عبد الله بن حنْطَب t: «أَن رَسُول الله رأى أَبَا بكر وَعمر فَقَالَ: هَذَانِ السّمع وَالْبَصَر»([11])؟!
([1]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (4/107).
([2]) مسند أحمد (20/281).
([3]) منهاج السنة النبوية (٤٠٧/٨).
([4]) وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري (1/89).
([5]) تفسير الطبري (11/41 - 43)، وسيرة ابن هشام (1/606 – 615).
([6]) السيرة النبوية، ابن هشام (2/188).
([7]) شرح صحيح مسلم، النووي (12/124).
([8]) المناقب، ابن شهر آشوب (3/343).
([9]) كشف الغمة في معرفة الأئمة، الإربلي (1/446).
([10]) إحقاق الحق وإزهاق الباطل، التستري (31/319).
([11]) صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»، وانظر: «السراج المنير في ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير» (2/683).