أولًا: إن الأثر لا يصح عن الصديق رضي الله عنه؛ حيث جاء من طريقين:
الأول: عند ابن سعد في «الطبقات» قال: «أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي سَمِعْتُ الْحَسَنَ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ قَامَ خَطِيبًا، فَلَا وَاللهِ مَا خَطَبَ خُطْبَتَهُ أَحَدٌ بَعْدُ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي وُلِّيتُ هَذَا الأمْرَ وأَنَا لهُ كَارِهٌ، وَوَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ كَفَانِيهِ، أَلا وَإِنَّكُمْ إِنْ كَلَّفْتُمُونِي أَنْ أَعْمَلَ فِيكُمْ بِمِثْلِ عَمَلِ رَسُولِ اللهِ r لَمْ أَقُمْ بِهِ، كانَ رسول الله r عَبْدًا أَكْرَمَهُ اللهُ بِالْوَحْيِ وَعَصَمَهُ بِهِ، أَلَا وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ فَرَاعُونِي، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَقَمْتُ فَاتَّبِعُونِي، وَإِنْ رَأَيْتُمُونِي زِغْتُ فَقَوِّمُونِي، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِيَ شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي غَضِبْتُ فَاجْتَنِبُونِي، لَا أُؤَثِّرُ فِي أَشْعَارِكُمْ وَأَبْشَارِكُمْ»([1]).
وهذه الرواية مرسلة عن الحسن البصري، ومعلوم عند جميع المحدثين أن مراسيل الحسن شبه الريح.
قال الإمام مسلم في مقدمة «صحيحه»: «وَالْمُرْسَلُ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي أَصْلِ قَوْلِنَا وَقَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ»([2]).
وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: «وَالْمَشْهُورُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ التَّابِعِينَ فِي اسْمِ الْإِرْسَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللهُ أَعْلَمُ..، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حُكْمَ الْمُرْسَلِ حُكْمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، إِلَّا أَنْ يَصِحَّ مخْرَجُهُ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ»([3]).
وقال الإمام الذهبي: «ومن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن»([4]).
وقال الإمام الألباني: «والمرسل ضعيف عند المحدثين، وبخاصة مرسل الحسن البصري؛ فقد قال بعض الأئمة: مراسيل الحسن البصري كالريح»([5]).
وأما الطريق الثاني : فقد جاء عند ابن عساكر قال: « أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن أبي القاسم بن أبي بكر، أنا عمر بن أحمد بن عمر بن مسرور، أنا أبو أحمد الحسين بن علي التميمي، أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، نا محمد بن عبد الوهاب الكوفي من كتابه، نا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن أبي بكر أنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني وليتكم ولست بخيركم، ولعلكم تطلبوني بعمل نبيكم r ولست هناك، إن نبيكم r كان يعصم بالوحي، وإن لي شيطانًا يغويني، فإذا رأيتموني أحسن فأعينوني، وإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني؛ ألَّا أصيب من أبشاركم وأعراضكم»([6]).
وهذا الطريق ضعيف بيحيى بن سلمة بن كهيل. قال الإمام البخاري: «يحيى بن سلمة بن كهيل الكوفي: عن أبيه، في حديثه مناكير»([7]).
وقال ابن الجوزي: «يحيى بن سَلمَة بن كهيل الْكُوفِي يروي عَن أَبِيه، قَالَ ابْن نمير: لَيْسَ مِمَّن يُكتَبُ حَدِيثه، قَالَ يحيى: لَيْسَ بِشَيْء لَا يُكْتب حَدِيثه، وَقَالَ البُخَارِيُّ: فِي حَدِيثه مَنَاكِير، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ ابْن حبَان: مُنكر الحَدِيث جدًّا لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف»([8]).
وقال الذهبي: «يحيى بن سَلمَة بن كهيل عَن أَبِيه، قَالَ أَبُو حَاتِم: مُنكر الحَدِيث، وَتَركه النَّسَائِيُّ، وَقَالَ الْعقيلِيُّ: ضَعِيف، ويغلو فِي التَّشَيّع»([9]).
وقال ابن حجر: «يحيى بن سلمة بن كُهَيل -بالتصغير- الحضرمي أبو جعفر الكوفي متروك، وكان شيعيًّا من التاسعة، مات سنة تسع وسبعين وقيل: قبلها..»([10]).
وعليه: فكلامهم ساقِطٌ بسقوطِ ما اعتمدوا عليه.
ثانيًا: لو صَحَّ هذا لكان فيه مدح كبير للصديق، ومعلوم أنه ما من أحدٍ إلا ووكل به شيطان، فإذا غضب استغل الشيطان غضبه وتعرض له، فأراد الصديقُ -وكان فيه حدة- أن يتجنبه الناس حالة الغضب حتى لا يَظْلم أحدًا منهم، وهذا لا شك أنه من المدح لا الذم، وإلا لَزِمَ ذَمُّ الأنبياء، ولم يقل أحد بذلك، فقد قال الله تعالى عن آدم وزوجه عليهما السلام: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا } [الأعراف:20]، وقال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:120- 121].
وذكر الله تعالى تحقُّقَ الزلل من تأثير الشيطان فقال: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 36- 37].
وكون الشيطان مع كل أحد من بني آدم هذا ثابت حتى في كتاب الله، قال تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23]، فالقرين هو الذي لا يفارق الإنسان، وقد فسر الشيعة القرين هنا بأنه الشيطان:
قال في (تفسير الصافي): «(قَالَ قَرِينُهُ) أي: الشيطان المقيَّضُ له: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)»([11]). وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: «ما من قلب إلا وله أذنان، على إحداهما ملك مرشد، وعلى الأخرى شيطان»([12]).
وعليه فلا يلام الصديق على قوله هذا، بل هو تواضع واعتراف بالحق.
ثالثًا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبينًا معنى الكلام المنقول عن أَبي بكر t: «قَالَ الرَّافِضِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْهَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا شَيْئًا يَسِيرًا، مِنْهَا: مَا رَوَوْهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ النَّبِيَّ r كَانَ يَعْتَصِمُ بِالْوَحْيِ، وَإِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِنِ اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ زِغْتُ فَقَوِّمُونِي»، وَكَيْفَ يَجُوزُ إِمَامَةُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِالرَّعِيَّةِ عَلَى تَقْوِيمِهِ، مَعَ أَنَّ الرَّعِيَّةَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ؟».
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَكْبَرِ فَضَائِلِ الصِّدِّيقِ t وَأَدَلِّهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، فَلَمْ يَكُنْ طَالِبَ رِيَاسَةٍ، وَلَا كَانَ ظَالِمًا، وَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنِ اسْتَقَمْتُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فَأَعِينُونِي عَلَيْهَا، وَإِنْ زِغْتُ عَنْهَا فَقَوِّمُونِي»، كَمَا قَالَ أَيْضًا: «أَيُّهَا النَّاسُ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللهَ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ».
وَالشَّيْطَانُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ يَعْتَرِي جَمِيعَ بَنِي آدَمَ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَكَّلَ اللهُ بِهِ قَرِينَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينَهُ مِنَ الْجِنِّ.
وَالشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَكَّلَ اللهُ بِهِ قَرِينَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينَهُ مِنَ الْجِنِّ» قِيلَ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَأَنَا، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
وَفِي الصَّحِيحِ: لَمَّا مَرَّ بِهِ بَعْضُ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَحَدَّثُ مَعَ صَفِيَّةَ لَيْلًا، قَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» ثُمَّ قَالَ: «إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا؛ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»«.
وَمَقْصُودُ الصِّدِّيقِ بِذَلِكَ: أَنِّي لَسْتُ مَعْصُومًا كَالرَّسُولِ r وَهَذَا حَقٌّ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: كَيْفَ تَجُوزُ إِمَامَةُ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى تَقْوِيمِهِ بِالرَّعِيَّةِ؟ كَلَامُ جَاهِلٍ بِحَقِيقَةِ الْإِمَامَةِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ هُوَ رَبًّا لِرَعِيَّتِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُمْ، وَلَا هُوَ رَسُولُ اللهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ. وَإِنَّمَا هُوَ وَالرَّعِيَّةُ شُرَكَاءُ يَتَعَاوَنُونَ هُمْ وَهُوَ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِعَانَتِهِمْ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِعَانَتِهِ، كَأَمِيرِ الْقَافِلَةِ الَّذِي يَسِيرُ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ: إِنْ سَلَكَ بِهِمُ الطَّرِيقَ اتَّبَعُوهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ عَنِ الطَّرِيقِ نَبَّهُوهُ وَأَرْشَدُوهُ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ صَائِلٌ يَصُولُ عَلَيْهِمْ تَعَاوَنَ هُوَ وَهُمْ عَلَى دَفْعِهِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ أَكْمَلَهُمْ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَرَحْمَةً كَانَ ذَلِكَ أَصْلَحَ لِأَحْوَالِهِمْ»([13]).
وقال أيضًا رحمه الله: «إِنَّ الشَّيْطَانَ الَّذِي يَعْتَرِيهِ قَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِابْنِ آدَمَ عِنْدَ الْغَضَبِ، فَخَافَ عِنْدَ الْغَضَبِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ؛ فَأَمَرَهُمْ بِمُجَانَبَتِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»، فَنَهَى عَنِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ أَبُو بَكْرٍ، أَرَادَ أَنْ لَا يَحْكُمَ وَقْتَ الْغَضَبِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَطْلُبُوا مِنْهُ حُكْمًا، أَوْ يَحْمِلُوهُ عَلَى حُكْمٍ فِي هَذَا الْحَالِ، وَهَذَا مِنْ طَاعَتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ...
وَقَدْ قَالَ مُوسَى لَمَّا قَتَلَ الْقِبْطِيَّ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [الْقَصَصِ: 15]، وَقَالَ فَتَى مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الْكَهْفِ: 63]، وَذَكَرَ اللهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [الْبَقَرَةِ: 36]، وَقَوْلُهُ: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الْأَعْرَافِ: 20].
فَإِذَا كَانَ عَرْضُ الشَّيْطَانِ لَا يَقْدَحُ فِي نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ فَكَيْفَ يَقْدَحُ فِي إِمَامَةِ الْخُلَفَاءِ؟!
وَإِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ مُؤولَةٌ قِيلَ لَهُ: فَيَجُوزُ لِغَيْرِكَ أَنْ يَتَأَوَّلَ قَوْلَ الصِّدِّيقِ، لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ مِنْ إِيمَانِهِ وَعِلْمِهِ، وَتَقْوَاهُ وَوَرَعِهِ، فَإِذَا وَرَدَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يُعَارِضُ مَا عُلِمَ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ»([14]).
رابعًا: ورد عند الشيعة فيما يروونه عن أئمتهم مثلُ ما شنعوا به على الصديق وأكثر منه، فقد جاء عن الإمام زين العابدين- رحمه الله- في «الصحيفة السجادية» التصريح بغواية الشيطان، وأن العاصم من ذلك هو التمسك بالله تعالى؛ حيث قال: «إلهي أشكو إليك عدوًّا يضلني، وشيطانًا يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى، ويزين لي حب الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى»([15]).
وورد عنه -رحمه الله- كما نقله الصدوق: «وكان علي بن الحسين عليه السلام يقول في سجوده: «اللهم إن كنت قد عصيتك فإني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك، وهو الإيمان بك منًّا منك عليَّ لا منا مني عليك، وتركت معصيتك في أبغض الأشياء إليك، وهو أن أدعو لك ولدًا أو أدعو لك شريكًا منًّا منك علي لا منا مني عليك، وعصيتك في أشياءَ على غير وجه مكابرة ولا معاندة، ولا استكبار عن عبادتك، ولا جحود لربوبيتك، ولكن اتبعت هواي واستزلني الشيطان بعد الحجة علي والبيان، فإن تعذبني فبذنوبي غير ظالم لي، وإن تغفر لي وترحمني فبجودك وبكرمك يا أرحم الراحمين»، وينبغي لمن يسجد سجدة الشكر أن يضع ذراعيه على الأرض ويلصق جُؤجُؤه بالأرض»([16]).
وفي «علل الشرائع»: «أنه ما من أحد إلا ومعه شيطان وملك»، وروى عن أبي عبد الرحمن قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: «إني ربما حزنت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد، وربما فرحت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد»، فقال: «إنه ليس من أحد إلا ومعه ملك وشيطان، فإذا كان فرحه كان من دنو الملك منه، فإذا كان حزنه كان من دنو الشيطان منه، وذلك قول الله تبارك وتعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)»([17]).
وفي «الكافي»: إن الشيطان يجري في آدم عليه السلام وذريته مجرى الدم في الجسم، قال الكليني: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَوْ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: إِنَّ آدَمَ عليه السلام قَالَ: يَا رَبِّ، سَلَّطْتَ عَلَيَّ الشَّيْطَانَ، وَأَجْرَيْتَهُ مِنِّي مَجْرَى الدَّمِ فَاجْعَلْ لِي شَيْئًا، فَقَالَ: يَا آدَمُ، جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ هَمَّ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بِسَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَمَنْ هَمَّ مِنْهُمْ بِحَسَنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ هُوَ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: جَعَلْتُ لَكَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ سَيِّئَةً، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ غَفَرْتُ لَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ، زِدْنِي. قَالَ: جَعَلْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، أَوْ قَالَ: بَسَطْتُ لَهُمُ التَّوْبَةَ حَتَّى تَبْلُغَ النَّفْسُ هَذِهِ، قَالَ: يَا رَبِّ، حَسْبِي»([18]).
فهؤلاء الأنبياء والأئمة تسلط عليهم الشيطان، وقالوا بنفس القول المنسوب للصديق، فهل يجرؤ الشيعي أن يقول في أئمته المعصومين ما قاله في الصديق؟!
([1]) الطبقات الكبرى ط العلمية (3/159).
([3]) مقدمة ابن الصلاح (ص53).
([4]) الموقظة، الذهبي (ص6).
([5]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني (12/666).
([6]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (30/304).
([7]) الضعفاء، البخاري (ص139).
([8]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (3/196).
([9]) المغني في الضعفاء، الذهبي (2/736).
([10]) تقريب التهذيب (1/591).
([11]) التفسير الصافي، الفيض الكاشاني (5/62).
([12]) الكافي (2/266). قال المجلسي في المرآة (9/377): «حسن كالصحيح».
([13]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (5/461 – 463).
([14]) منهاج السنة، ابن تيمية (8/267 – 272).
([15]) الصحيفة السجادية، زين العابدين علي بن الحسين (ص403).
([16]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق (1/333).
([17]) علل الشرائع، الصدوق (1/92).
([18]) الكافي (2/440)، وقال المجلسي عن الرواية في مرآة العقول (11/311): «حسن».