أولًا: هذا غاية الطعن في علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عدة أوجه:
الوجه الأول: أنه بذلك يكون كافرًا، وذلك أن علماء الشيعة لما أرادوا تبرير عدم بيعة الحسين ليزيد قالوا بأن بيعة يزيد كفر.
فقد روى أبو مِخنف في حديث عمّار أنّه قال: «بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، لقد خرجتُ من جوارك كرهًا، وفُرِّق بيني وبينك، وأُخذت قهرًا أن أُبايع يزيد، شارب الخمور، وراكب الفجور، وإن فعلت كفرت»([1]).
ولا فرق عندهم بين الصدِّيق ويزيد من ناحية الكفر!
الوجه الثاني: الإكراه على البيعة مخالَفة صريحة للدين عند الشيعة؛ إذ الإكراه لا يمكن أن يصل إلى أن يكفر المعصوم، بأن يبايع على السمع والطاعة لكافر في عقيدة الشيعة، وهذا ما قرره أحد أكابر علماء الشيعة فقال: «وفي حدود هذا التكليف الإلهي، فإن خروج الإمام من البلاد كـان كافيًا للقيام بالواجب المترتب عليـه نتيجة ذلك، وكذلك أيضًا لو أنه اختار صعود الجبال، والاختفاء عن الأنظار (كما اقترح عليه ابن عباس، بأَن يذهب إلى شعاب الجبال)، وإذا ما افترضنا أنه كان قد اختار الاختفاء عن الأنظار في أحد البيـوت، فإنه يكون بذلك قد قام بواجبه أيضًا، لكنه لم يكن معذورًا فيما لو رضـخ للبيعة الإكراهية، فتقبُّل الإكراه من وجهة نظر الإسلام لا يشمل مثل هذه الحالات، وقاعدة: «رُفع عن أمتي ما استكرهـوا عـليـه، ولا ضرر ولا ضرار» لا يجوز تطبيقها عندما يكون المتضرر هو الإسلام، كأَن يجبر الإنسان أو يكـره على كتابة كتاب ضد الإسلام أو معاند لأهل القرآن الكريم»([2]).
فها هو علِي لم يغادر المدينة هربًا من البيعة ولا اختفى في مكان، وقد كان يسعه ذلك على عقيدة الشيعة.
الوجه الثالث: أن المكره على البيعة يجعل للذي أكرهه سبيلًا عليه، وقد قال الله تعالى: (وَلَن یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ سَبِیلًا) [النساء:141].
والدليل على أن من أُكرِه على البيعة قد جعل للمُكرِه له سبيلًا عليه: ما رواه ابن ميثم البحراني قال: «ومن كتابه –أي: علي عليه السّلام- إلى طلحة والزبير، مع عمران بن الحصين الخزاعي... فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ، فَارْجِعَا وَتُوبَا إِلَى اللهِ مِنْ قَرِيبٍ، وَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ، فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ، وَإِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ»([3]).
فهذه مخالفة صريحة من علِي لكتاب الله، فقد جعل علي لأبي بكر رضي الله عنهما أعظم السبيل عليه لما بايعه، حتى ولو كان إكراهًا.
الوجه الرابع: قال الله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ ظَالِمِیۤ أَنفُسِهِمۡ قَالُوا۟ فِیمَ كُنتُمۡۖ قَالُوا۟ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوۤا۟ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةࣰ فَتُهَاجِرُوا۟ فِیهَاۚ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا) [النساء:97]
فهذه الآية تأمر المستضعفَ بالهجرة من بلده، ومن لم يهاجر وجعل للكافر سبيلًا عليه فهو في جهنم وساءت مصيرًا.
الوجه الخامس: هذه البيعةُ تعتبر تركًا للولاية التكوينية التي ينسبها الشيعة لعلي!
يقول المرجع كمال المعاصر الحيدري: «وأهل البيت -عليهم السلام- لم يستعملوا التصرف التكـويني دائمـًا، بل استخدموه للضرورة القصوى؛ فحيـث تغلـق أمـامهم السبل لإثبـات إمامتهم وخلافتهم الحقيقيـة لرسـول الله صلى الله عليه وآلـه كـانوا يستعينون بالتصرف التكويني»([4]).
فكان علي يستطيع أن يطير في السماء لينجو من الإكراه، بل يستطيع أن يخسف بهم الأرض، ومن كان هذا حاله فلا يتحقق لمثله الإكراه قط!
الوجه السادس: روى الشيعة أن النبي e أمر عليًّا أن يبذل ماله ودمه دون دينه، فإذا كانت الخلافة من دين علي، كما يعتقد الشيعة، لزم ألا يتنازل علِي عنها.
ففي «الكافي» سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «كان في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام أن قال: يا علي، أوصيك في نفسك بخصال احفظها عني، ثم قال: اللهم أعنه: ... والخامسة: بذلك مالك ودمك دون دينك»([5]).
فهذه مخالفة صريحة الوصية رسول الله r الذي أمره ببذل ماله ودمه دون دينه، وهذا ما لم يحصل، بل سلم دينه سهلًا وبايع دون إكراه، كما سنبين.
ثانيا: ثبت عند الشيعة أن عليًّا قد بايع طوعًا لا كرهًا.
فقد جاء في كتاب «الغارات» للثقفي أن عليًّا قال: «فَمَشَيْتُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعْتُهُ، وَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاغَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَكَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، فَتَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأُمُورَ فَيَسَّرَ وَسَدَّدَ وَقَارَبَ وَاقْتَصَدَ، فَصَحِبْتُهُ مُنَاصِحًا وَأَطَعْتُهُ فِيمَا أَطَاعَ اللهَ فِيهِ جَاهِدًا، وَمَا طَمِعْتُ أَنْ لَوْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ وَأَنَا حَيٌّ أَنْ يُرَدَّ إِلَيَّ الْأَمْرُ الَّذِي نَازَعْتُهُ فِيهِ طَمَعَ مُسْتَيْقِنٍ، وَلَا يَئِسْتُ مِنْهُ يَأْسَ مَنْ لَا يَرْجُوهُ، وَلَوْلَا خَاصَّةُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ لَظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهَا عَنِّي، فَلَمَّا احْتُضِرَ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَوَلَّاهُ فَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَنَاصَحْنَا، وَتَوَلَّى عُمَرُ الْأَمْرَ وَكَانَ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ»([6]).
يقول عالم الشيعة محمد كاشف الغطاء عن عليٍّ عليه السلام: «وحين رأى أنَّ الخليفتين قبلَه بذلا أقصى الجهد في نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجيوش، وتوسيع الفتوح، ولم يستأثِرَا ولم يستبدَّا، بايع وسالم»([7]).
ولذلك لعَنَ عليٌّ من لم يقل بأنه رابع الخلفاء، وهذا إقرار منه بخلافة من تقدم، وأن الشيعة فلا يزالوا يقولون: إنه أول الخلفاء، ولا يعترفون بكونه خليفة رابعًا.
قال ابن شاذان وهو يعدد مناقب علي: «المنقبة التاسعة والخمسون...: عن علي بن الحسين، عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «من لم يقل إني رابع الخلفاء الأربعة فعليه لعنة الله».
قال الحسين بن زيد: فقلت لجعفر بن محمد عليهما السلام: قد رويتم غير هذا، فإنكم لا تكذبون؟ قال: نعم، قال الله تعالى في محكم كتابه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة) فكان آدم أول خليفة الله، قوله تعالى: (إني جاعل في الارض خليفة). و(إنا جعلناك خليفة في الأرض)، فكان داود الثاني، وكان هارون خليفة موسى، قوله تعالى: (اخلفني في قومي وأصلح) وهو خليفة محمد صلى الله عليه وآله: (فمن لم يقل إني رابع الخلفاء فعليه لعنة الله)»([8]).
وستأتي الأدلة على بيعة علِي في الجواب على من أنكر بيعته رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.
([1]) تاريخ أبي مخنف (ص٢٤)، الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين، الحسيني القزويني (1/45).
([2]) الملحمة الحسينية، مرتضى مطهري (٣/١٠٨).
([3]) شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني (5/188).
([4]) بحث حول الإمامة حوار مع المرجع الديني كمال الحيدري، جواد علي كسار (ص٣٨٣).
([5]) الكافي، الكليني (15/196)، وقال المجلسي مرآة العقول (25/180): «صحيح».
([6]) الغارات، ابن هلال الثقفي (1/203)، نهج البلاغة (1/741).
([7]) أصل الشيعة وأصولها (ص123- 124).
([8]) مائة منقبة، ابن شاذان القمي (1/125).