أولًا: هذا الكلام إنما قاله للخروج من الإشكالات التي عرضت له من قول الشيعة بالبيعة، ونسي أو تناسى قول الشيعة بأن كل إمام كانت في عنقه بيعة.
فقد رووا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما -في حديث طويل- أنه قال: «أما علمتم أنَّه ما منَّا أحد إلا وتقع في عنقه بيعة لطاغية في زمانه، إلا القائم...»([1]).
وهذه الرواية دائمًا ما يذكرها الشيعة في علل غيبة الأخير، فيقول الصدر وهو ينقل التوقيع السادس للغائب: «وأمَّا علَّة ما وقع من الغيبة، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: (يا أيّها الّذينَ آمنُوا لا تَسألوا عَن أشياءَ إن تُبدَ لكُم تَسُؤكم) أنَّه لم يكن لأحد من آبائي عليهم السلام إلَّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنِّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي.
ثم قال تعليقًا في الحاشية: فإن الإمام المهدي -عليه السلام - بواسطة غيبته يكون مستغنيًا عن التقيَّة من حكَّام عصره وظالمي زمانه، فلا تكون في عنقه بيعة لأحدٍ منهم ولو اضطرارًا وتقيّةً حتى يُلزم بالوفاء به، كم وقعت تلك البيعة الإجبارية لآبائه الطاهرين عليهمالسلام»([2]).
ولما ذكر موقع الأبحاث العقائدية تلك الرواية قال: «هذه بعض الأسباب التي علّلت بها غيبة الإمام المنتظر عليه السلام»([3]).
إذًا فالشيعة قاطبة قالوا بتلك البيعة.
ثانيًا: جاءت روايات كثيرة في كتبهم تصرح بالبيعة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
الرواية الأولى: ما ورد في «نهج البلاغة» عن علِي أنه قال: «فَنَظَرْتُ في أَمْرِي، فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي، وَإِذَا الميِثَاقُ في عُنُقِي لِغَيْرِي»([4]).
الرواية الثانية: ما رووه عن علي أنه قال: «فَمَشَيْتُ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعْتُهُ وَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاغَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ، وَكَانَتْكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، فَتَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الْأُمُورَ فَيَسَّرَ وَسَدَّدَ وَقَارَبَ وَاقْتَصَدَ، فَصَحِبْتُهُ مُنَاصِحًا وَأَطَعْتُهُ فِيمَا أَطَاعَ اللهَ فِيهِ جَاهِدًا، وَمَا طَمِعْتُ أَنْ لَوْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ وَأَنَا حَيٌّ أَنْ يُرَدَّ إِلَيَّ الْأَمْرُ الَّذِي نَازَعْتُهُ فِيهِ طَمَعَ مُسْتَيْقِنٍ، وَلَا يَئِسْتُ مِنْهُ يَأْسَ مَنْ لَا يَرْجُوهُ، وَلَوْلَا خَاصَّةُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ لَظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُهَا عَنِّي، فَلَمَّا احْتُضِرَ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَوَلَّاهُ، فَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَنَاصَحْنَا، وَتَوَلَّى عُمَرُ الْأَمْرَ وَكَانَ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ»([5]).
الرواية الثالثة: أن عليًّا قال: «إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ، فَإِنْ قُلْتُ حَقًّا فَصَدِّقُونِي، وَإِنْ قُلْتُ غَيْرَ ذَلِكَ فَرُدُّوهُ عَلَيَّ، أَنْشُدُكُمُ بِاللهِ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ قُبِضَ وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ وَبِالنَّاسِ؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: فَبَايَعْتُمْ أَبَا بَكْرٍ وَعَدَلْتُمْ عَنِّي، فَبَايَعْتُ أَبَا بَكْرٍ كَمَا بَايَعْتُمُوهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أُفَرِّقَ بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَهَا لِعُمَرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَبِالنَّاسِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعْتُ عُمَرَ كَمَا بَايَعْتُمُوهُ، فَوَفَيْتُ لَهُ بِبَيْعَتِهِ»([6]).
الرواية الرابعة: قال في الاحتجاج: «وروي عن الباقر عليه السلام ... فلما وردت الكتب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: ما هذا؟ قال له علي: هذا ما ترى. قال له أسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم يا أسامة. فقال: طائعًا أو كارهًا؟ فقال: لا بل كارهًا. قال: فانطلق أسامة فدخل على أبي بكر وقال له: السلام عليك يا خليفة المسلمين، قال: فرد عليه أبو بكر وقال، السلام عليك أيها الأمير»([7]).
هذه بعض الروايات والتصريحات التي تبين أن عليًّا t بايع الصديق ولم يخالف الصحابة.
ثالثًا: اعتراف أكابر علماء الشيعة بالبيعة، وأن الصحابة أجمعوا عليها، ومنهم:
- الشريف المرتضى الذي قال: «لا خلاف بين الأمة في أنه -عليه السلام -سخط الأمر وأباه ونازع فيه، وتأخر عن البيعة، ثم إنه خلاف في أنه في المستقبل بايع وترك النكير»([8]).
وقال في «الذخيرة في علم الكلام»: «وأما إقراره عليه السلام أحكام القوم لما صار الأمر إليه؛ فالسبب فيه واضح، وهو استمرار التقية في الأيام المتقدمة باقٍ ومازال ولا حال، وإنما أفضت الخلافة إليه بالاسم دون المعنى، وإنما اختاره وبايعه من كان يرى أكثرهم وجمهورهم، والغالب عليهم صحة إمامة من تقدم»([9]).
وقال: «ومعلوم أن جمهور أصحابه، وجلهم كانوا ممن يعتقد إمامة من تقدم عليه عليه السلام، وفيهم من يفضلهم على جميع الأمة»([10]).
وينقل المرتضى الإجماع على بيعة أبي بكر فيقول: «وكيف يمكن أمير المؤمنين عليه السلام الخلاف على من بايعه جميع المسلمين، وأظهروا الرضا به، والسكون إليه؟»([11]).
وقال: «وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة، وجرى لهم فيها مع الأنصار ما جرى، وتم لهم عليهم كما اتفق من بشير بن سعد ما تم وظهر، وإنما توجه لهم من قهرهم الأنصار ما توجه أن الإجماع قد انعقد على البيعة، وأن الرضا وقع من جميع الأمة».
وقال: «وكل من حارب معه (ع) في هذه الحروب، إلا القليل كانوا قائلين بإمامة المتقدمين عليه (ع)، ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة»([12]).
- الحسن بن موسى النوبختي القائل: «فصار مع أبي بكر السواد الأعظم والجمهور الأكثر، فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما»([13]).
- وقال الطبرسي في «الاحتجاج»: «وكان علي بن أبي طالب عليه السلام لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته، واجتماع كلمة الناس مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته»([14]).
فهذه النقول وغيرها عن علماء الشيعة تؤيد القول ببيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر، بل وإجماع الصحابة على بيعته.
* قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ولعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا وأصدرت كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلالة، ولا ليضربهم بالعمى»([15]).
وبعد كل هذا؛ أفلا يسع هذا الأعمى مثير الشبهة ما وسع غيره من الإقرار بالبيعة، مع الإلزام أنها كانت عن رضا واطمئنان إلى ما اطمأنت إليه نفوس الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
([1]) الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، الحرُّ العاملي (1/373).
([2]) الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته، علي الصدر (1/270).
([3]) موسوعة الأسـئلة العقائدية، مركز الأبحاث العقائدية (4/465).
([4]) نهج البلاغة ت الحسون، الشريف الرضي (1/99).
([5]) «الغارات» ط- القديمة، ابن هلال الثقفي (1/203)، «نهج البلاغة» ت الحسون، الشريف الرضي (1/741).
([6]) الأمالي، الطوسي (1/507).
([7]) الاحتجاج، الطبرسي (١/١١٥).
([8]) الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى (٣/٢٣٩).
([9]) الذخيرة في علم الكلام (ص 478).
([10]) الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى (3/144).
([11]) الشافي في الإمامة، الشريف المرتضى (3/246).
([12]) تنزيه الأنبياء (ص188).
([13]) تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضي (ص185).
([14]) الاحتجاج، الطبرسي (1/108).
([15]) «مصباح البلاغة - مستدرك نهج البلاغة» (4/27)، و«نهج السعادة» (4/93).