أولا: الروايةُ ضعيفة ولا تثبت، ففيها سُفْيَان بن وَكِيع بن الْجراح، قال النسائي: «لَيْسَ بِشَيْء»([1]).
وقال ابن الجوزي: «قَالَ البُخَارِيّ: يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ لِأَشْيَاء لَقَّنُوهُ إِيَّاهَا، قَالَ أَبُو زرْعَة: لَا يشْتَغل بِهِ، قيل لَهُ: أَكَانَ مُتَّهمًا بِالْكَذِبِ؟ قَالَ: نعَمْ. وَقَالَ ابْن عدي: كَانَ إِذا لُقِّنَ تَلَقَّنَ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ابْن حبَان: قيل لَهُ فِي أَشْيَاء لُقِّنَهَا فَلمْ يرجِعْ عَنْهَا، فَاسْتحقَّ التّرْكَ لإصْرَارِهِ»([2]).
قال الذهبي: «ضُعِّفَ، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: كَانَ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ»([3]). وبه تسقط الرواية من ناحية الإسناد.
ثانيًا: حتى لو صحت فلا مطعن فيها على أحد من الصحابة، فقد يكون قصد عبد الرحمن تقليد الشيخين في السير بالعدل والإنصاف دون التقليد في الأحكام؛ لأن سيرة أبي بكر وعمر ترك التقليد، ومما يؤكد هذا أن أحكام أبي بكر وعمر في كثير من الفقهيات مختلفة، فقبل عثمان لما فهمه من هذا القصد.
ونقول أيضًا: إن عبد الرحمن لم يشك في أن عليًّا سيسلك طريق الخليفتين في عدلهما وإنصافهما، وإنما قال ذلك ليقرره ويؤكده، وليقع الرضا من الجماعة ويستميل قلوب السامعين، وقدر علِي أنه دعاه إلى التقليد في الأحكام، بينما يعلم أن عمر لم يقلد أبا بكر في مسائل الحرام والحلال، فلم يقبل أن يدعوه عبد الرحمن إلى التقليد وترك الاجتهاد، فامتنع عن قبول الشرط، والحكم بالتقليد جائز عند الفقهاء، فهي مسألة اجتهاد، فلعل عثمان وعبد الرحمن كانا يريان جواز التقليد، ولا يرى علي ذلك، وعلى هذا يكون عبد الرحمن مصيبًا في اشتراطه وتقريرهِ وتأكيد الأمر، ويكون عليٌّ مصيبًا في الامتناع منه، ويكون عثمان مصيبًا أيضًا في قبول الاشتراط»([4]).
ثالثًا: الثابت عند أهل السنة أن عليًّا كان على سيرة أبي بكر وعمر، وكان كثيرَ المدح لهما وذكر مآثرهما والقول بتفضيلهما على سائر الأمة بعد رسول الله r، فقد روى الإمام البخاري بسنده: «عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ r؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ، وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»([5]).
وفي «فضائل الصحابة»: «عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ: أَلَا تُوصِي؟ قَالَ: مَا أَوْصَى رَسُولُ اللهِ r فَأُوصِي، وَلَكِنْ إِنْ يُرِدِ اللهُ بِالنَّاسِ خَيْرًا فَسَيَجْمَعُهُمْ عَلَى خَيْرِهِمْ، كَمَا جَمَعَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ عَلَى خَيْرِهِمْ»([6]).
فإن كان علي يعلم أن الصديق هو خير الناس بعد رسول الله r فلن يرفض السير بسيرته قطعًا.
رابعًا: أقَرَّ الشيعة أن عليًّا سار بسيرة الشيخين، ولم يغير شيئًا من أحكامها.
قال الشريف المرتضى: «وأما إقراره عليه السلام أحكامَ القوم لما صار الأمر إليه فالسبب فيه واضح، وهو استمرار التقية في الأيام المتقدمة باقٍ ومازال ولا حال، وإنما أفضت الخلافة إليه بالاسم دون المعنى»([7]).
وهذا مرتضى العسكري -بعدما ساق عدة روايات- قال: «تدلنا هذه الروايات أن الإمام عليًّا لم يغير شيئًا مما فعلوه قبله في الخمس وتركة الرسول، ولم يكن ليستطيعَ أن يغير شيئًا»([8]).
وقال محمد إسحاق الفياض: «أمير المؤمنين (ع) لا يقدر على تغيير ما صنعه الخلفاء قبله»([9]).
وقال محمد باقر الحسيني الجلالي: «ولم يكن باستطاعة الإمام علي عليه السلام أن يغيِّر شيئا ممَّا سنَّه الرجلان»([10]).
ويقول محمد الشيرازي: «وأما قولك -أيها الحافظ-: بأن عليًّا عليه السلام حيث لم يردّ فدكًا إلى أولاد فاطمة فقد أمضى حكم الخليفة، فهو خطأ؛ لأنه عليه السلام ما تمكّن أن يغيّر ما ابتدعه الخلفاء قبله، فكان عليه السلام مغلوبًا على أمره من طرف المخالفين والمناوئين وهم الناكثون والقاسطون»([11]).
كل هذه النصوص تدلنا على أن عليًّا إنما سار بسيرة الشيخين، ولم يغير شيئًا منها.
وصدق ابن التركماني لما قال: «إنه خرج من الدنيا وما أظهر ما في نفسه، وإنه سار في أموال رسول الله e في خلافته بسيرتهم، وقرأ هذا القرآن، وصلى التراويح، وحيا الأرض كما حيوها، ومدحهم على منابره بالمدح العظيم الذي قد امتلأت الكتب به، وإذا سألناكم قلتم: هذا كله صحيح قد فعله عليّ وقاله، إلَّا أن باطنه فيه خلاف ظاهره، وإنما قاله تقربًا إلى أنصاره وأعوانه؛ لأن ذلك كان يعجبهم، ويرون إمامة هؤلاء، فقاله خوفًا منهم وتقربًا إليهم، فكتب أسلافكم مملوءة بأنه قد فعله تقيةً وخيفةً، والآن تذكرون بأنه قد كاشف في البراءة منهم ومن أفعالهم في زمن عثمان، وقبل أن تصير الخلافة إليه، فأنتم لا تعملون على تحصيل، ولقلة حيلتكم، وأنه ليس معكم حجة في مذهبكم ما تأتون بالشيء تظنونه حجة لكم فتنقضون به على أنفسكم من حيث لا تشعرون، ففي هذا كفاية»([12]).
وأيضًا: فقد كان في الصحابة من يخالف أبا بكر وعمر في مسائل الاجتهاد دون خوف، ولا ينكر أبو بكر وعمر ذلك، وقد خالفهما ابن مسعود، وأُبَّي، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وغيرهم، فتعلم أن ما يتعلق به هؤلاء باطل.
قال أبو نعيم الأصبهاني: «مَعَ أَنَّ عَلِيًّا فِي خِلَافَتِهِ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ أَخَذَ النَّاسَ بِسُنَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، يَغْزُو فِي خِلَافَتِهِمَا وَيُصَلِّي خَلْفَهُمَا وَيَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عَجْزٌ وَلَا ضَعْفٌ عَنْ أَخْذِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ r»([13]).
ومن هنا نعلم أن عليًّا رضي الله عنه سار بسيرة الشيخين على نهج الكتاب والسنة الذي يعرفه المسلمون، لا على نهج دين الشيعة الذي لم يعمل به علي قط بإقرارهم أنفسهم.
خامسًا: لئن رفض علِي -جدلًا- السير بسيرة الصديق فقد رفض مهدي الشيعة السير بسيرة النبي r.
فقد روى النعماني في «الغيبة»: «عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قُلْتُ لَهُ: صَالِحٌ مِنَ الصَّالِحِينَ سَمِّهِ لِي أُرِيدُ الْقَائِمَ (ع)، فَقَالَ: اسْمُهُ اسْمِي، قُلْتُ: أَيَسِيرُ بِسِيرَةِ مُحَمَّدٍ (ص)؟ قَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا زُرَارَةُ، مَا يَسِيرُ بِسِيرَتِهِ، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لِمَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) سَارَ فِي أُمَّتِهِ بِالْمَنِ كَانَ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ، وَالْقَائِمُ يَسِيرُ بِالْقَتْلِ، بِذَاكَ أُمِرَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي مَعَهُ أَنْ يَسِيرَ بِالْقَتْلِ، وَلَا يَسْتَتِيبَ أَحَدًا، وَيْلٌ لِمَنْ نَاوَاهُ»([14]).
فالمعصوم عندهم ينزه المهدي أن يسير بسيرة النبي r، وكفى بهذا رفضًا للإسلام من مهديهم، ولأجل ذلك من قارن المهدي برسول الله r يقول: إن هذا الرجل ليس على دِين محمد r، وهذا ما ذكره النعماني أيضا بسنده: «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) يَقُولُ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا يَصْنَعُ الْقَائِمُ إِذَا خَرَجَ لَأَحَبَّ أَكْثَرُهُمْ أَلَّا يَرَوْهُ مِمَّا يَقْتُلُ مِنَ النَّاسِ، أَمَا إِنَّهُ لَا يَبْدَأُ إِلَّا بِقُرَيْشٍ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا السَّيْفَ، وَلَا يُعْطِيهَا إِلَّا السَّيْفَ، حَتَّى يَقُولَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: لَيْسَ هَذَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ لَرَحِمَ»([15]).
ورووا أيضًا أنه يرفض السير بسيرة علي رضي الله عنه، فقد رووا «عَنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ بَيَّاعِ الْأَنْمَاطِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) جَالِسًا فَسَأَلَهُ الْمُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ: أَيَسِيرُ الْقَائِمُ إِذَا قَامَ بِخِلَافِ سِيرَةِ عَلِيٍّ (ع)؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَذَاكَ أَنَّ عَلِيًّا سَارَ بِالْمَنِّ وَالْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ شِيعَتَهُ سَيُظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّ الْقَائِمَ إِذَا قَامَ سَارَ فِيهِمْ بِالسَّيْفِ وَالسَّبْيِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ شِيعَتَهُ لَمْ يُظْهَرْ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا»([16]).
بل إن مهديهم يأتي بدين جديد لا علاقة له بالنبي r ولا بأحد من أهل البيت ممن سبقوه، فهو سيتعامل مع دين النبي محمد كأنه دين جاهلية عياذًا بالله، فقد رووا عن «عَبْدِ اللهِ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ (ع) فَقُلْتُ: إِذَا قَامَ الْقَائِمُ (ع) بِأَيِّ سِيرَةٍ يَسِيرُ فِي النَّاسِ؟ فَقَالَ: يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ (ص)، وَيَسْتَأْنِفُ الْإِسْلَامَ جَدِيدًا»([17]).
وكم في هذا من إلزام وإشكال على الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
([1]) الضعفاء والمتروكون، النسائي (ص٥٥).
([2]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/4).
([3]) المغني في الضعفاء، الذهبي (1/269) الكاشف، الذهبي (1/449).
([4]) «خلافة عثمان بن عفان 35هـ»، د. مصطفى حلمي (ص4).
([5]) صحيح البخاري (5/7).
([6]) فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل (1/404).
([7]) الذخيرة في علم الكلام (ص478).
([8]) معالم المدرستين (2/158).
([10]) «فدك والعوالي أو الحوائط السبعة في الكتاب والسنة والتاريخ والأدب»، محمد باقر الحسيني الجلالي (١/٤٥٠).
([11]) ليالي بيشاور (١/٨١١).
([12]) الإمامة وأثرها في الحكم على الصحابة (ص73).
([13]) فضائل الخلفاء الراشدين (ص158).
([14]) الغيبة، النعماني (1/231).
([15]) الغيبة، النعماني (1/233).
([16]) الغيبة، النعماني (1/232).
([17]) الغيبة، النعماني (1/232).