أولًا: الرواية التي ذكرها ابن حجر الهيثمي التي تؤيد دعوى التفرد لا تصح، وإليك الرواية وبيان ضعفها:
جاء في «تاريخ دمشق» من طريق عبد الله بن عون الخراز، نا عبد الرحمن بن عبد الله العمري، أخبرني أبي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت، وأخبرني هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة قالت: لما توفي النبي r اشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأبصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهامها، فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بعنانها وفضلها، فقالوا: أين يدفن رسول الله r؟ فما وجدنا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله r يقول: «ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه»، قالت: واختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحد من ذلك علمًا، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله r: «يقول إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة»([1]).
وهذه الرواية ضعيفة منكرة، وآفتها عبد الرحمن بن عبد الله العمري، فقد ترجم له العقيليُّ في «الضعفاء» فقال: «عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ بِشَيْءٍ قَطُّ. حَدَّثَنَــا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَــا عَبَّاسٌ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَ يَحْيَى الْقَطَّانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، وَفِي حَدِيثِهِ عِنْدِي ضَعْفٌ«([2]).
وقال ابن حبان: «عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن دِينَار الْمدنِي، يروي عَن أَبِيه وَزيد بن أسلم، روى عَنهُ الْعِرَاقِيُّونَ، كَانَ مِمَّن ينْفَرد عَن أَبِيه بِمَا لَا يُتَابع عَلَيْهِ مَعَ فُحْشِ الْخَطَأ فِي رِوَايَته، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِخَبَرِهِ إِذا انْفَرد، كَانَ يحيى الْقطَّان يحدث عَنهُ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بن إِسْمَاعِيلَ الْجعْفِيُّ البُخَارِيُّ مِمَّن يحْتَج بِهِ فِي كِتَابه وَيتْرك حَمَّاد بن سَلمَة، أخبرنَا الْهَمدَانِي قَالَ: حَدثنَا عَمْرو بن عَليّ قَالَ: لم أسمع عبد الرَّحْمَن يحدث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ بِشَيْء قطّ»([3]).
وقال الحافظ: «قال الدوري عن ابن معين: في حديثه عندي ضعف، وقد حدث عنه يحيى القطان، وحسبته أن يحدث عنه يحيى، وقال عمرو بن علي: لم أسمع عبد الرحمن يحدث عنه بشيء قط، وقال أبو حاتم: فيه لين، يكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال ابن عدي: وبعض ما يرويه منكر لا يتابع عليه، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء.
قلت: وقال السلمي عن الدارقطني خالف فيه البخاري الناس وليس بمتروك، وقال الحاكم عن الدارقطني إنما حدث بأحاديث يسيرة، وقال أبو القاسم البغوي: هو صالح الحديث، وقال الحربي: غيره أوثق منه، وقال ابن خلفون: سئل عنه علي بن المديني فقال: صدوق»([4]).
وعليه فالرواية لا تصح إسنادًا في ميزان المحدثين، وأما المتن فمخالف لما سيأتي تقريره من عدم التفرد بالحديث.
ثانيًا: ذكر عدد من أهل العلم بالحديث عدم تفرد الصديق برواية هذا الحديث، ومنهم:
- أبو عبد الله محمد بن أبي الفيض جعفر بن إدريس الحسني الإدريسي، قال في «نظم المتناثر»: «لا نورث ما تركنا صدقة»، أورده في الأزهار من حديث (1) عمر (2) وعثمان (3) وعلي (4) وسعد بن أبي وقاص (5) والعباس (6) وأبي بكر الصديق (7) وعبد الرحمن بن عوف (8) والزبير بن العوام (9) وأبي هريرة (10) وعائشة (11) وطلحة (12) وحذيفة (13) وابن عباس، ثلاثة عشر نفسًا، قال: فقد رواه من العشرة المشهود لهم بالجنة ثمانية نظير حديث «من كذب علي».
(قلت:) لكن حديث «مَنْ كَذَب...» تقدم أنه رواه العشرة كلهُم، ثم هذا الحديث قال الحافظ ابن حجر أيضًا في «أماليه»: إنه حديث صحيح متواتر»([5]).
- أبو عيسى الترمذي؛ حيث قال بعد روايته الحديث: «وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدٍ، وَعَائِشَةَ»([6]).
- ابن حبان في «صحيحه» لما شعر بما قيل من التفرد أفرد بابًا بعنوان: «ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ r: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» تَفَرَّدَ بِهِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ فَعَلَ»([7])، وساق ما يدحض التفرد.
- ابن كثير في «البداية والنهاية»، قال: «وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ قَرِيبًا»([8]).
رابعًا: إليك بعض الروايات عن أصحاب النبي r في ذلك:
١- رواية حذيفة بن اليمان:
عن: «فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: نا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ». قال الطبراني: «لَا يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ حُذَيْفَةَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِهِ: فُضَيْلٌ». وقال البزار: وقال: وَهَذَا الْكَلَامُ لَا نَعْلَمُ يُرْوَى عَنْ حُذَيْفَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ إِلَّا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ»([9]).
وقال الحافظ: «وَفِي الْبَابِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو مُوسَى فِي كِتَابٍ لَهُ اسْمُهُ «بَرَاءَةُ الصِّدِّيقِ»، مِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْهُ، وَهَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ»([10]).
٢- ابن عباس له عنه طريقان:
الأول: أخرجه الطبراني في «الأوسط» قال: «حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ الْبُرْزَبَاذَانِيُّ قَالَ: نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ قَالَ: نَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِنَّا لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، وقال: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُجَاهِدٍ إِلَّا لَيْثٌ، وَلَا عَنْ لَيْثٍ إِلَّا حَفْصٌ، تَفَرَّدَ بِهِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو»([11]).
قلت: وله طريق آخر أخرجه الطبري في تفسيره([12]) قال: «حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: }واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين{ الآية، قال ابن عباس: فكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: أربعة بين من قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: لله وللرسول ولذي القربى، يعني: قرابة النبي r، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي r، ولم يأخذ النبي r من الخمس شيئًا، فلما قبض الله رسوله r ردَّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله؛ لأن رسول الله r قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة».
قلت: المثنى هو ابن إبراهيم ولم أجد له ترجمة، وقد أكثر الطبري الرواية -في التاريخ والتفسير-، وعلي هو ابن أبي طلحة، ولم يسمع من ابن عباس، فالإسناد ضعيف، لكن الطريق السابق يعضده.
٣- عائشة:
أخرج مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ r حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ r أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ مِنَ النَّبِيِّ r، قَالَتْ عَائِشَةُ لَهُنَّ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»؟([13]).
4- أبو هريرة: وله طرق عنه:
الأولى: روى مسلم قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي، فَهُوَ صَدَقَةٌ»([14]).
الثانية: قال: وحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»([15]).
5- علي بن أبي طالب:
في «مسند البزار» بسنده: «عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَشَدَ النَّاسَ فِيهِمْ طَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقَالَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «نَعَمْ»، وَلَا نَعْلَمُ رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ»([16]).
وهذا الحديث هو المخرج في الصحيح، لكن أوردناه من مسند البزار للفائدة في تعليقه أن هذا الحديث يرويه مالك عن أوس عن علي.
6- الزبير بن العوام:
روى البزار بسنده «عن مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: أَنْشُدُكَ اللهَ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»؟ قَالَ: اللهُمَّ نَعَمْ. قال البزار: وَلَا نَعْلَمُ رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ»([17]).
٧- العباس بن عبد المطلب
في «مسند الروياني»: «نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أبنا أَبُو الْيَمَانِ، نَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيُّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: اتَّئِدُوا، أُنَاشِدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ: «لَا نُورَثُ؛ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» يُرِيدُ نَفْسَهُ؟ قَالُوا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ ذَلِكَ؟، قَالَا: نَعَمْ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ»([18]).
٨- عبد الرحمن بن عوف:
أورده أحمد في مسند عبد الرحمن «عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ، يَقُولُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَسَعْدٍ: نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ -وَقَالَ مَرَّةً: الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ- أَعَلِمْتُمِ أنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «إِنَّا لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»؟ قَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ»([19]).
9- سعد بن أبي وقاص:
أخرجه أحمد في «مسنده»، في (مسند سعد)([20]).
فهؤلاء بعضُ من روى الحديث من أصحاب النبي r غير الصديق.
رابعًا: لو تنزلنا جدلًا وقلنا بتفرد الصديق بالحديث فهذا لا يضره؛ إذ العلماء قد أجمعوا على أن تفرد الصحابي لا يضر؛ لأن النبي r لم يكن واجبًا عليه أن يبلغ كل فرد في الأمة كل شيء؛ ولذلك كان يوجد عند بعضهم ما ليس عند الآخر، فربما يتحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع صحابي في خلوة، فليس من شرط التحديث أن يأتي النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صحابيٌّ آخر ليسمع!
وكم من حديث تفرَّد به صحابي وهو في أعلى درجات الصحة وتلقته الأمة بالقبول، وليس أشهر من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات»، يرويه الإمام البخاري عن شيخه الحميدي عبد الله بن الزبير، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا من طريق عمر رضي الله عنه، ولا يثبت عن عمر إلا من طريق علقمة، ولا يثبت عن علقمة إلا من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عنه سوى يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر حتى قال بعضهم: إنه يروى عن يحيى بن سعيد من طريق من أكثر من سبعمائة وجه، يرويه عن يحيى بن سعيد أكثر من سبعمائة راوٍ، وإن كان الحافظ ابن حجر يشكك في هذا العدد ويقول: إنه يجمع الطرق لهذا الحديث منذ بداية الطلب إلى وقتِ تأليف فتح الباري، وقال: إنه لم يقدر على تكميل المائة فضلًا عن مائتين وثلاثمائة وسبعمائة، فالحديث كما سمعتم فردٌ مطلق، تفرده في أصل السند، لم يروه عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا صحابي واحد، ولم يروه عن هذا الصحابي إلا تابعي واحد، وهكذا في أربع طبقات.
ويشبهه آخر حديث في الصحيح: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، فهذا الحديث يرويه أبو هريرة لا يشركه في روايته أحد، ويرويه عنه أبو زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، ويرويه عنه عمارة بن القعقاع لا يرويه غيره، وتفرد بروايته عنه محمد بن فضيل لا يرويه غيره، وعن محمد بن فضيل انتشر.
فهذان حديثان من الأفراد من أفراد البخاري، وإن شئت فقل: من غرائب الصحيح، التفرد في أصل السند.
وأصل السند طرفه الذي فيه الصحابي، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الصحابي نفسه، أو من يرويه عن الصحابي، وجاء عند ابن حجر رحمه الله تعالى تنزيل الفرد المطلق على تفرد الصحابي، وجاء أيضًا في تعريف الفرد المطلق: أن يتفرد بروايته عن الصحابي شخصٌ واحد، وكأنه في هذا الموضوع رأى أن تفرد الصحابي لا يضر؛ لأن الواحد من الصحابة يعدل أمة([21]).
وهذان الحديثان من الأهمية بمكان في أصول الإسلام، ومع ذلك ففيهما تفرُّدٌ في طبقة الصحابي وقد تلقتهما الأمة بالقبول.
قال ابن القيم رحمه الله في مناقشة من يطعن في حديث ابن عباس في المطلقة ثلاثًا القائل بأنها كانت واحدة على عهد رسول الله r وأبي بكر وعمر ما نصه:
«وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله، فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله r إلا ابن عباس وحده، ولا عن ابن عباس إلا طاووس وحده.
قالوا: فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم، الذي الحاجة إليه شديدة جدًّا؟ فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده؟ وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاووس وحده؟
وهذا أفسد من جميع ما تقدم، ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا، فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة، لم يروه غيره، وقبلته الأمة كلهم، فلم يرده أحد منهم، وكم من حديث تفرد به من هو دون طاووس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة؟
ولا نعلم أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل، وإنما يحكى عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال، لا يعرف لها قائل من الفقهاء»([22]).
فهذا ابن القيم رحمه الله يبين أن الطعن في الرواية بمثل هذا إنما هي طريقة أهل البدع، ولا يُطعن في الحديث بمثل هذا، مهما بلغت درجة أهميته، فليس في تفرد الصحابي بروايته ما يدل على كذبه كما زعم الرافضة. على أننا نسلك مسلك ابن كثير الذي قال: «وَلَوْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، وَالِانْقِيَادُ لَهُ فِي ذَلِكَ»([23]).
* أمر آخر وهو أن عمل الصديق بالحديث ليس من قبيل العمل بأخبار الآحاد؛ إذ إن الصديق سمعه من مصدر الخبر لا من راوٍ من الرواة، فالعمل به أقوى من المتواتر، ولو اجتمعت الأمة على تركه لما جاز للصديق عدم العمل به.
خامسًا: جاء مثل هذا الحديث عند الشيعة بطرق وأسانيد صحيحة.
ففي «الكافي»: «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَاكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَقَدْ أَخَذَ حَظًّا وَافِرًا»([24]).
فهنا الرواية تحصر الإرث في العلم فقط تأكيدًا على أن الأنبياء لا يورثون أبدًا، وقد صحح الرواية عندهم:
- المازندراني في «شرح أصول الكافي»([25]).
- جعفر السبحاني في «بحوث في الملل والنحل»([26]).
- ناصر مكارم الشيرازي في «بحوث فقهية مهمة»([27]).
- النراقي في «عوئد الأيام»([28]). [؟؟؟؟]
- الخميني في «الحكومة الإسلامية»([29]).
- هادي النجفي في «موسوعة أحاديث أهل البيت»([30]).
ومن الشواهد لتلك الرواية:
ما رواه الصدوق في «الخصال» بسنده « عنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّافِعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدَّتِهِ بِنْتِ أَبِي رَافِعٍ قَالَتْ: أَتَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ (ص) بِابْنَيْهَا الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (ع) إِلَى رَسُولِ اللهِ (ص) فِي شَكْوَاهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَانِ ابْنَاكَ فَوَرِّثْهُمَا شَيْئًا، قَالَ: أَمَّا الْحَسَنُ فَإِنَّ لَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَإِنَّ لَهُ جُرْأَتِي وَجُودِي»([31]).
وفي قرب الإسناد: «عن جعفر، عن أبيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يورّث دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا وليدة، ولا شاة ولا بعيرًا، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعًا من شعير استسلفها نفقة لأهله»([32]).
فهذه شواهد قوية على صحة ما رواه الصديق، حتى عند الشيعة الإمامية أنفسهم، فلم يعد للطاعن قول بعد كل ما تقدم.
([1]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (30/311).
([2]) الضعفاء الكبير، العقيلي (2/339).
([3]) المجروحين، ابن حبان، ت زايد (2/51).
([4]) تهذيب التهذيب (6/206).
([5]) نظم المتناثر (ص216) (ح 272).
([6]) «سنن الترمذي» (3/254) ت بشار.
([7]) صحيح ابن حبان (7/783).
([8]) البداية والنهاية (8/189 -190) ط هجر.
([9]) رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (2/223) (۱۸۰٦)، والبزار في «مسنده» (7/262) (۲۸٤٣)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (6/493).
([10]) التلخيص الحبير، ابن حجر العسقلاني (3/216) ط قرطبة.
([11]) المعجم الأوسط (5/157).
([12]) تفسير الطبري (٦/۲٤٨).
([13]) صحيح مسلم (3/1379).
([14]) صحيح مسلم (3/1382).
([15]) صحيح مسلم (3/1383).
([16]) مسند البزار (2/153).
([17]) مسند البزار (3/189).
([18]) مسند الروياني (2/350).
([19]) مسند أحمد (3/197) ط الرسالة.
([20]) مسند أحمد (3/125) ط الرسالة.
([21]) شرح اللؤلؤ المكنون في أحوال الأسانيد والمتون، عبد الكريم الخضير (4/5 - 6).
([22]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/295).
([23]) «البداية والنهاية (8/189) ط هجر.
([24]) الكافي، الكليني (1/77).
([25]) شرح أصول الكافي (٢/٢٦).
([26]) بحوث في الملل والنحل (٨/٦٢).
([27]) بحوث فقهية مهمة (ص٤٦٧).
([28]) عوئد الأيام (٢/٢١).
([29]) الحكومة الإسلامية (ص١٤٤).
([30]) موسوعة أحاديث أهل البيت (7/264 - 267).
([32]) قرب الإسناد، أبو العباس الحميري (1/91).