أولًا: أجمع أهل العلم على أن المراد بتلك الآيات إنما هو وراثة العلم والنبوة، لا مجرد الإرث المتعلق بالمال، وقد نقل هذا الإجماع أحد أكابر الشيعة، وهو صاحب مستند الشيعة؛ حيث قال تعليقًا على قوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي): «إنّما طلبه لأن يرث منه العلم والنبوة دون المال، بل لا بُدَّ وأن يكون هذا هو المراد من قوله: (يَرِثُنِي) عندهم، كيف وهم الذين يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث دينارًا ولا درهمًا، وما تركناه صدقة»؟! فكيف يمكن لهم حمل الإرث في الآية على إرث المال؟! ولذا ترى مفسّريهم بأجمعهم فسّروها بإرث العلم والنبوة، ويشهد لذلك قوله: (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، فإنّه لو كان طلبه للولد لخوف توريث العصبة كيف لا يخافه على آل يعقوب؟! وأيضًا: الأنبياء أعظم شأنًا من أن يبخلوا على مواليهم من إرثه المال، ولأجل ذلك يطلبون من يمنعهم»([1]).
وإليك بعض كلام أهل السنة في ذلك:
قال القرطبي: «وَلَوْ كَانَ وِرَاثَةَ مَالٍ لَكَانَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ فِيهِ سَوَاءً، وقال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةُ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ، فَخَصَّ اللهُ سُلَيْمَانَ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: دَاوُدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مَلِكًا، وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ مُلْكَهُ وَمَنْزِلَتَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، بِمَعْنَى صَارَ إِلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أبيه فسمى ميراثًا تجوزًا، وهذا نحو قول: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»، وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامَ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» أَنْ يُرِيدَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيرَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ وُرِثَ مَالُهُ كَزَكَرِيَّاءَ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: إِنَّا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا شَغَلَتْنَا الْعِبَادَةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْأَكْثَرِ، وَمِنْهُ مَا حَكَى سِيبَوَيْهِ: إِنَّا مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَقْرَى النَّاسِ لِلضَّيْفِ.
قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي «مَرْيَمَ» وَأَنَّ الصَّحِيحَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ» فَهُوَ عَامٌّ وَلَا يخرج منه شَيءٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ سُلَيْمَانُ أَعْظَمَ مُلْكًا مِنْ دَاوُدَ وَأَقْضَى مِنْهُ، وَكَانَ دَاوُدُ أَشَدَّ تَعَبُّدًا مِنْ سُلَيْمَانَ. وقَالَ غَيْرُهُ: وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا بَلَغَ مُلْكُهُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَخَّرَ لَهُ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالطَّيْرَ وَالْوَحْشَ، وَآتَاهُ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَوَرِثَ أَبَاهُ فِي الْمُلْكِ وَالنُّبُوَّةِ، وَقَامَ بَعْدَهُ بِشَرِيعَتِهِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بعه مُوسَى مِمَّنْ بُعِثَ أَوْ لَمْ يُبْعَثْ فَإِنَّمَا كَانَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى، إِلَى أَنْ بُعِثَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَسَخَهَا»([2]).
وقال العليمي: «{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} في النبوة والملك دون سائر أولاده، وكانوا تسعة عشر، قرأ أبو عمرو: (وَوَرِث سُّلَيْمَانُ) بإدغام الثاء في السين، و(ورث) بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه، فسمي ميراثًا تجوزًا، وهذا نحو قولهم: «العلماء ورثة الأنبياء»، وحقيقة الميراث في المال، والأنبياءُ لا تورث أموالهم؛ لأن النبي r قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة»، فأعطي سليمان ما أعطي داود عليهما السلام من الملك، وزيد له تسخير الجن والريح، وفهم منطق الطير، فثم اعترف بأنعم الله تعالى»([3]).
وهذا فيه رد على من اعترض على قولنا: إن الميراث هنا هو النبوة والعلم بأن ذلك لا يورث، فجوابه أن هذا إنما سمي ميراثًا تجوزًا، ومن حيث اللغة: فإن من خلف أحدا في شيء فإنه يكون وارثًا له.
قال ابن منظور في «لسان العرب»: «وأَوْرَثَه الشيءَ: أَعقبه إِياه. وأَورثه الْمَرَضُ ضَعْفًا والحزنُ هَمًّا، كَذَلِكَ. وأَوْرَث المَطَرُ النباتَ نَعْمَةً، وكُلُّه عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ بِوِراثَةِ الْمَالِ وَالْمَجْدِ»([4]).
وقال الزبيدي: «وَمن الْمجَاز أَيضًا: تَوَارَثُوه كابِرًا عَن كابِرٍ. والْمَجْدُ مُتَوارَثٌ بينَهُم.
وَقَول بَدْرِ بنِ عامِرٍ الهُذَلِيّ:
وَلَقَد تَوَارَثُنِي الحوادِثُ واحِدًا ضَرَعًا صِغِيرًا ثُمَّ لَا تَعْلُونِي
إيراد أَنَّ الحوادِثَ تَتَدَاوَلُه، كأَنّها تَرِثُه هذه عَن هذه.
وَمن الْمجَاز: وأَوْرَثَه الشيْءَ: أَعْقَبَه إِيّاه، وأَورَثَه المرضُ ضَعْفًا، وأَوْرَثَهُ كَثْرَةُ الأَكْلِ التُّخَمَ، وأَوْرَثَه الحُزْنُ هَمًّا، كلُّ ذلك على الِاسْتِعَارَة والتّشبيه بوِراثَةِ المالِ والْمَجْدِ»([5]).
وعليه يقال: ورث سليمان نبوة داود تجوزًا؛ لأنه خلفه فيها.
ثانيًا: جاء في كتب الشيعة تفسير الوراثة في الآيات بأنها وراثة العلم، وأقروا بأن العلم يسمى من أخذه وارثًا لصاحبه.
ففي «الكافي» بسنده: «عن ضريسٍ الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام وعنده أبو بصير، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمدًا صلى الله عليه وآله ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدًا صلى الله عليه وآله، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمد، ليس هذا هو العلم، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يومًا بيوم وساعة بساعة»([6]).
فهذا تفسير أهل البيت -عندهم- لميراث سليمان من داود عليهما السلام وأنه ميراث علم لا مال.
ولذلك فقد جاء عند الشيعة أن محمد بن علي كان يطلب من الحسن والحسين ميراث العلم لا المال،
فقد روى الحر العاملي عن يحيى بن محمد بن أبي زيد قال: «قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا وعن غيرهم من أرباب الحديث: أن عليًّا عليه السلام لما قبض أتى محمدٌ أخويه حسنًا وحسينًا عليهما السلام فقال: أعطياني ميراثي من أبي، فقالا له: قد علمت أن أباك لم يترك صفراء ولا بيضاء. فقال: قد علمتُ ذاك، وليس ميراث المال أطلب، وإنما أطلب ميراث العلم. قال: فروى أبان بن عثمان عمن روى ذلك له عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: فدفعا إليه صحيفة لو أطلعَاه على أكثر منها لهلك، فيها ذكر دولة بني العباس»([7]).
وقد لخص ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره «الأمثل» أدلة من قال بأن الوراثة هنا علم لا مال بقوله: «أمَّا الذين يعتقدون بأن الإرث هنا هو الإرث المعنوي، فقد تمسكوا بقرائن في نفس الآية، أو خارجة عنها، مثل:
1- يبدو من البعيد أن نبيًّا كبيرًا كزكريا، وفي ذلك السن الكبير، يمكن أن تشغل فكره مسألة ميراث ثروته، خاصَّة وأنَّه يضيف بعد جملة (يرثني ويرث من آل يعقوب) جملة (واجعله ربِّ رضيًا)، ولا شك أن هذه الجملة إِشارة إِلى الصفات المعنوية لذلك الوارث.
2- إِنَّ الله سبحانه لما بشره بولادة يحيى في الآيات القادمة، فإِنَّه ذكر صفات ومقامات معنوية عظيمة، ومن جملتها مقام النبوة.
3- إِن الآية (38) من سورة آل عمران بينت السبب الذي دفع زكريا إِلى هذا الطلب والدعاء، وأنّه فكر في ذلك عندما شاهد مقامات مريم؛ حيث كان يأتيها رزقها من طعام الجنَّة في محرابها بلطف الله: (هنا لك دعا زكريا ربّه قال ربّ هب لي من لدنك ذرية طبية إنّك سميع الدعاء).
4- ورد في بعض الأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤيد أن الإِرث هنا يراد به الارث المعنوي، وخلاصة الحديث أنَّ الإِمام الصادق عليه السلام روى عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ عيسى بن مريم مرَّ على قبرٍ كان صاحبه يعذب، ومرَّ عليه في العام الثَّاني فرأى صاحب ذلك القبر لا يعذب، فسأله ربَّه عن ذلك، فأوحى الله إِليه أنَّه لصاحب هذا القبر ولد صالح قد أصلح طريقًا وآوى يتيمًا، فغفر الله له بعمل ولده. ثمّ قال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده»، ثمَّ تلا الإِمام الصادق عند نقله هذا الحديث الآية المرتبطة بزكريا: (فهب لي من لدنك وليًا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيًا).
فإِن قيل: إِن ظاهر كلمة الإِرث هو إرث الأموال، فيقال في الجواب: إِن هذا الظهور ليسَ قطعيًا؛ لأنَّ هذه الكلمة قد استعملت في القرآن مرارًا في الإِرث المعنوي، كالآية (32) من سورة فاطر، والآية (53) من سورة المؤمن.. إلخ»([8]).
ثم ذكر الخلاف في الآية.
وفي تفسير «نور الثقلين» قال: «في بصائر الدرجات علي بن إسماعيل، عن محمد بن عمر الزيات، عن ابن بابا قال: دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام وقد ولد أبو جعفر عليه السلام فقال: إن الله قد وهب لي من يرثني ويرث آل داود»([9]).
وهذا ظاهر في أنه العلم لا المال.
ثالثًا: الاعتراض على الصديق بآيات الميراث اعتراضٌ باطلٌ، وذلك أن الأنبياء قد خصهم الله تعالى بأحكام انفردوا بها، بل وخص النبي محمدًا r بأحكام انفرد بها عن باقي الأنبياء، وعليه فهذا استدلال بعام في مقابل خاص، ولا يفعله إلا جاهل، ونحن ننزه فاطمة رضي الله عنها من تلك الترهات.
ولا شك أن السنة تخصص عام الكتاب وتقيد مطلقه، كما اعترف بذلك الشيعة في كتبهم الأصولية.
يقول الشريف المرتضى: «وأما تخصيص الكتاب بالكتاب، فلا شبهة في جوازه، ومن خالف في ذلك من أهل الظاهر وسمى التخصيص بيانًا إنما هو مخالف في العبارة، وأما تخصيصه بالسنة فلا خلاف فيه، وقد وقع كثير منه؛ لأنه تعالى قال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وخصص عموم هذا الظاهر قوله عليه السلام: «لا يرث القاتل، ولا يتوارث أهل ملتين»([10]).
ولذلك هم خصصوا آيةَ ميراث الزوجة بأنه لا ترث من العقار شيئًا مشابهة لميراث الجاهلية.
فقد رووا: «عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ قَضَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُورَثَ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ»([11]).
ووضع الكليني بابًا بعنوان: (باب أن النساء لا يرثن من العقار شيئًا)، وروى فيه الرواية التالية: «عن أبي جعفر عليه السلام قال: النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئا»([12]).
فهذا حكم مشابه لأحكام الجاهلية وقد خصصوا به كتاب الله تعالى!
رابعًا: مجرد استدلال فاطمة بآيات الميراث يبطل زعم الشيعة أن فدك لم تكن ميراثًا، وإنما كانت هبةً لها من رسول الله r في حياته، فيكون استدلالها بآيات المواريث من الكذب والتدليس والاستدلال بالباطل والتزوير لأجل أخذ المال، وهذا لا يليق ببَضْعة رسول الله r.
خامسًا: يلزم من مطالبة فاطمة لأبي بكر بذلك وخروجها من بيتها، بل وزعمهم أنها خطبت أمام الرجال يلزم من ذلك أنها ليست من خير النساء عند الشيعة، فقد رووا «عن علي عليه السلام أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله: أي شيء خير للمرأة؟ فلم يجبه أحد منَّا، فذكرت ذلك لفاطمة عليها السلام فقالت: ما من شيء خير للمرأة من أن لا ترى رجلًا ولا يراها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: صدقت، إنها بضعة مني»([13]).
([1]) مستند الشّيعة، النراقي (19/148).
([2]) تفسير القرطبي (13/164).
([3]) فتح الرحمن في تفسير القرآن (5/118).
([4]) لسان العرب (2/201).
([5]) تاج العروس (5/383).
([7]) كلمات الإمام الحسين، الشريفي (1/198).
([8]) تفسير الأمثل، مكارم الشيرازي (9/405).
([9]) تفسير نور الثقلين، عبد علي العروسي الحويزي (3/323).
([10]) الزريعة للمرتضى (1/279).
([13]) جامع أحاديث الشيعة، البروجردي (20/264)، وانظر: الدعائم (2/215).