زعمهم أن الصديق ظلم فاطمة حين منعها أرض فدك

الشبهة:

قال ابن طاووس: «وفي الخصال (٦٠٧) بسنده عن الصادق عليه السلام في بيانه لشرائع الدين: ... وحبّ أولياء الله والولاية لهم واجبة، والبراءة مِن أعدائهم واجبة، ومِن الذين ظلموا آل محمد صلى الله عليه وآله وهتكوا حجابه، فأخذوا من فاطمة فدك، ومنعوها ميراثها، وغصبوها وزوجها حقوقهما، واغتصاب أبي بكر فدك من الزهراء مكتوب في التواريخ، وقد استمرَّ غصبهم لها حتَّى أرجعها عمر بن عبد العزيز إلى بني فاطمة عليها السلام»([1]).

 

([1]) طرف من الأنباء والمناقب، ابن طاووس (1/389).

الرد علي الشبهة:

يقول الشهرستاني: «إنَّ أوَّل اختلاف فقهي حصل بعد وفاة الرسول الأَكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان الاختلاف بين فاطمة الزهراء بنت رسول الله وبين الخليفة أبي بكر، ذلك الاختلاف الذي أثار ضجَّة كبيرة بقيت آثارها حتّى اليوم، فحين كانت فدك بيد الزهراء وانتزعها أبو بكر من يد وكيلها جاءت عليها السلام تطلبها منه، وادَّعت بمشهد من المسلمين أنّها نحِلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها، على ما هو عليه الأَمر في واقع الحال، فطلب أبو بكر منها أن تأتي بالشهود، فجاءت بعليّ والحسن والحسين عليهما السلام وأُمّ أيمن أو أُمّ سلمة.

فاضطرَّ أبو بكر في ذلك المجلس من ردِّ شهادتهم معلِّلًا بعلل لم تكن مقبولة عند الزهراء؛ لعدم مطابقتها مع كتاب الله ولا سنّة رسول الله، فكان هذا أوّل خلاف بين المسلمين في القضاء والشهادات»([1]).

ومعنا هنا عدة نقاط:

أولًا: قضية فدك من القضايا الصغيرة في تاريخ المسلمين، فهي مجرد خلاف فقهي حول ميراث دنيوي زائل، وما كان أصحاب رسول الله r يقيمون له وَزْنًا، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أخبر فاطمة رضي الله عنها أن رسول الله r قال: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأنبياءِ لَا نُورَثُ»، فما كان منها رضي الله عنها إلا أنها تأولت الحديث، فلما بان لها الأمر وأن الصديق صاحب الحق في ذلك سكتت عن المطالبة، وترضاها أبو بكر فرضيت.

وطالما أن الخلاف متعلقٌ بجانب المال؛ فلا بد من تجليةِ الأمر فيما يتعلق بالصديق والمال، قال الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8]، وهذا نص كلام الله واضح في ترك المهاجرين أموالهم لله، فهل من يترك ماله ويعرض حياته للقتل في سبيل الله يبحث عن دنيا ومال أو قطعة أرض؟!

وأما من السنة: فقد ذكر الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة عدة روايات في ذلك فقال: «(‌‌2718) »ما نفعنا مال أحد ما نفعنا مال أبي بكر».

أخرجه ابن راهويه في «مسنده» (4/80/1): أخبرنا سفيان الثوري عن الزهري عن عروة -إن شاء الله- عن عائشة أن رسول الله r قال: فذكره. قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقول الزهري: «إن شاء الله» لا يضر؛ لأن الراوي قد يشك أحيانًا، وقد رواه غير واحد بدون شك.

فأخرجه الحميدي (1/121/250)، وأبو يعلى في «مسنده» (3/1090) وابن أبي عاصم في «السنة» (1230) عن سفيان به، وسفيان هو ابن عيينة.

وروى ابن حبان (2167) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «أنفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله r أربعين ألفًا»، وسنده صحيح.

وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا به، وزاد: «قال: فبكى أبو بكر وقال: وهل نفعني الله إلا بِكَ؟ وهل نفعني الله إلا بِكَ؟ وهل نفعني الله إلا بِكَ؟».

أخرجه أحمد (2/366): حدثنا معاوية قال: حدثنا أبو إسحاق -يعني الفزاريَّ- عن الأعمش، عن أبي صالح عنه.

قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ومعاوية هو ابن عمرو الأزدي، وأبو إسحاق اسمه: إبراهيم بن محمد بن الحارث.

وقد تابعه أبو معاوية: حدثنا الأعمش به، إلا أنه قال: «وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟»، أخرجه ابن أبي شيبة (12/759) وأحمد (2/252) عنه، وكذا ابن ماجه (1/49) وابن أبي عاصم (1229) وابن حبان (2166) من طرق عنه، وهو صحيح أيضا كالذي قبله»([2]).

يقول الخوئي: «فكيف لا يهتمون بأمر الكتاب العزيز، الذي عرضوا أنفسهم للقتل في دعوته، وإعلان أحكامه، وهجروا في سبيله أوطانهم، وبذلوا أموالهم، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم، ووقفوا المواقف التي بيضوا بها وجه التاريخ؟! وهل يحتمل عاقل مع ذلك كله عدم اعتنائهم بالقرآن؟!»([3]).

ولذلك ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في كتب الشيعة هذا الاستدلال الذي نستدل به، ففي «الكافي»: «لما ولي علي عليه السلام صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني والله لا أرزؤكم من فيئكم درهمًا ما قام لي عذق بيثرب، فليصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعًا نفسي ومعطيكم؟»([4]).

ويعلق المازندراني فيقول: «(أفتروني مانعًا نفسي ومعطيكم؟) ممن لا يستحق أو زائدًا عما تقضية القسمة الشرعية، وفيه قطع لطمعهم عن الجور في القسمة؛ ضرورة أن الجائر يقدم نفعه على نفع غيره، فعدم الأول يدل على عدم الثاني»([5]).

وعليه نقول: ما كان أبو بكر لينفق ماله ويمنع نفسه من ماله ثم بعد ذلك يبحث عن دنيا!

قال ابن سعد في «الطبقات»: «أخبرنا وكيع بن الجرّاَح وأبو أسامة قالا: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما ترك أبو بكر دينارًا ولا درهمًا ضَرَبَ الله سِكّتَه. قال: أخبرنا وكيع بن الجرّاح وعبد الله بن نُمير ويَعْلى بن عُبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البَهيّ مولى الزُّبير عن عائشة قالت: لَمَّا حُضِرَ أبو بكر قلتُ كلمةً من قول حاتم:

لَعمرُكَ ما يُغنى الثراءُ عن الفَتى * إذا حشرَجتْ يوْمًا وضاقَ بها الصدرُ

فقال: لا تقولي هكذا يا بُنيّة، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، انْظُروا مُلاءَتَيّ هاتَيِنْ، فإذا مِتّ فاغسِلوهما وكفّنوهما فيهما؛ فإنَّ الحيَّ أحْوج إلى الجديد من الميّت.

قالَ: أخبرنا يَعْلى ومحمَّد ابنا عُبيد قالا: أخبرنا موسى الجُهَني عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو يعالجه ما يُعالجُ الميّتُ ونفَسُه في صدره فتمثّلتْ هذا البيت:

لعمرُك ما يُغْنى الثراءُ عن الفَتى * إذا حشرَجتْ يومًا وضاق بها الصدرُ

فنظر إليها كالغضبان ثمَّ قال: ليس كذاك يا أم المؤمنين، ولكن {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، إني قد كنتُ نَحَلْتُكِ حائطًا، وإنَّ في نفسى منه شيئًا، فرُدّيه إلى الميراث، قالت: نعم، فرددتُه، فقال: أما إنَّا منذ وَلِينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا، ولكنَّا قد أكلنا من جَريشِ طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خَشِنِ ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيءِ المسلمين قليلٌ ولا كثيرٌ، إلَّا هذا العبدَ الحبَشيَّ، وهذا البعير الناضح، وجَرْدَ هذه القطيفة، فإذا مِتُّ فابْعثي بهنَّ إلى عمر وابْرَئي منهنّ، ففعلتُ.

فلمّا جاء الرسول عمرَ بكى حتَّى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتْعَبَ من بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده»([6]).

وبعد تقرير هذا نقول: إذا تركت العصبية للموروث زالت كل شبهة على الصديق رضي الله عنه.

ثانيًا: إن الذي منع فاطمة من فدك أو من غيرها هو رب العالمين، لما شرع على لسان نبيه شريعة عدم توريث الأنبياء؛ لئلا يكونوا مطمعًا لدنيا أحد من الناس قط، وقد كانت حجةُ أبي بكر حديثًا سمعه من رسول الله r أنه قال: «لا نورث»، فلو كان من ظلم فهو لصاحب الشريعة -تعالى عما يقول الظالمون- وقد أثبتنا تواتر الحديث في بحث (دعوى تفرد أبو بكر بحديث لا نورث)، ولذلك فقد عمل الصديق بدليل قطعي عنده سمعه من رسول الله r فضلًا عن كونه متواترًا عن رسول الله r، ولا شك أن السنة تخصص عامَّ القرآن كما هو متفق عليه بين السنة والشيعة.

ثالثًا: ما فعله الصديق هو عين ما أخبر به الأئمة المعصومون في كتب الشيعة، فقد صح عن جعفر الصادق أنه قال: «وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر»([7]).

وفي رواية أخرى: «عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن العلماء ورثة الأنبياء وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظًا وافرًا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه؛ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولًا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»([8]).

فهذه عقيدة جعفر الصادق، ولو كانت عقيدته أن النبي r يورث لقال: «وإن الأنبياء ورثوا أراضي وبيوت ودنانير ودراهم، ولكن الظالمين اغتصبوها»، ولذلك فقد جاء من طريق أهل السنة عن زيد بن علي بن الحسين أنه قال: «أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ لحَكَمْتُ بما حَكَمَ به أبو بَكْرٍ في فَدَك»([9]).

ومع ذلك فقد كان أبو بكر ينفق على فاطمة بمثل ما كان ينفق رسول الله r، بل وأعطاها أرضًا أخرى، فقد روى ابن شبه: «عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَرَادَتْ فَاطِمَةُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَلَى فَدَكٍ وَسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، فَأَبَى عَلَيْهَا، وَجَعَلَهُ فِي مَالِ اللهِ، وَأَعْطَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا نَخْلًا يُقَالُ لَهُ: الْأَعْوَافُ، مِمَّا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ r»([10]).

وأما فدك فقد عمل فيها بما كان يعمل رسول الله r، فقد فكان r يأخذ منها نفقة نسائه، وما يتبقى يجعله في الكراع والسلاح في سبيل الله، ثم كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلِي علَى ذلك بلا خلاف بين أهل السنة والشيعة.

فقد روى البخاري بسنده: «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنَ النَّبِيِّ r فِيمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ r، تَطْلُبُ صَدَقَةَ النَّبِيِّ r الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، يَعْنِي مَالَ اللهِ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى الْمَأْكَلِ، وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ r الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ r، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ r، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ، وَذَكَرَ قَرَابَتَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ r وَحَقَّهُمْ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ r أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي»([11]).

فهنا نصَّ أبو بكر على أنه سيعمل في فدك بما عمل رسول الله r ولا يغير شيئًا، فهل (لمسلم) بعد ذلك قول؟!

وقد اعترف الشيعة بذلك فقالوا: «إن أبا بكر كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها..؛ حيث ذكروا أن أبا بكر كان يأخذ غلتها (أي فدك) فيدفع إليهم (أي أهل البيت) منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، فكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان علِي كذلك»([12])([13]).

رابعًا: إن كان منع فدك عن فاطمة ظلمًا؛ فهل ردَّها علي بن أبي طالب لها ورفع ذاك الظلم؟!

بعض جهلة الشيعة يقولون: إن فاطمة ماتت وكانت صاحبة الحق!

وهذا كلام لا يقوله إلا جاهل؛ لأن الميراث لا يسقط بالتقادم، وقد كان لفاطمة ورثة يستحقون هذا المال-على زعمهم- وهو ما يسمى في علم الميراث بالمناسخات.

يقول الحلي: «المناسخة أن يموت بعض الورثة قبل القسمة، وبطلت قسمة لفريضتين من أصل واحد، فإن كانت ورثة الثاني والثالث ومن بعدهم هم ورثة الأول على طريق ميراثهم من الميت الأول، قسمت مال الميت الأول بين الباقين، كأربعة إخوة لميت وأختين، ثم مات أخ، ثم مات أخ آخر، ثم ماتت أخت، قسمت مال الأول والثاني والثالث والرابع على أخوين وأخت أخماسًا، كأن كل واحد منهم لم يخلف سوى أخوين وأخت.

وإن كانت ورثة الثاني يرثون منه خلاف ميراثهم من الأول، أو ورثوا من الثاني ولم يرثوا من الأول، صححت مسألة كل واحد من الموتى، واستخرجت نصيب الميت الثاني من مسألة الميت الأول، ثم نظرت: فإن صح نصيبه على مسألة صحت المسألتان من مسألة الأول، كامرأة خلفت زوجًا وأخوين لأم وأخًا لأب، ثم مات الزوج وخلف ابنًا وبنتًا، مسألة الأول من ستة، للزوج ثلاثة وهي تنقسم على تركته، فتنقسم تركة الزوجة ستة أسهم: سهمان لأخويها من أمها، وسهم لأخيها من أبيها، وسهمان لابن زوجها، وسهم لبنت زوجها.

وإن لم يصح من مسألة الأول نظرت: فإن كان بين نصيب الميت الثاني من فريضة الأول والفريضة الثانية وفق، فاضرب وفق الفريضة الثانية في الفريضة الأولى، لا وفق النصيب، كأخوين من أم، ومثلهما من أب، وزوج، مات الزوج وخلف ابنًا وبنتين، فريضة الأول اثنا عشر، نصيب الزوج ستة لا تنقسم على أربعة، وبينهما موافقة بالنصف، فتضرب جزء الوفق من الفريضة الثانية، وهو اثنان، لا الوفق من النصيب، في اثني عشر.

وإن لم يكن بينهما وفق، فاضرب الفريضة الثانية في الأولى، كزوج وأخوين من أم وأخ لأب، مات الزوج وخلف ابنين وبنتًا، نصيب الزوج ثلاثة من ستة لا تنقسم على خمسة، ولا وفق بينهما، فاضرب الخمسة في الفريضة الأولى.

وهكذا العمل فيما زاد على اثنين، فإن انقسمت تركة الثالث من الأول على صحة، وإلا عملت في فريضته مع الفريضتين كما عملت في فريضة الثاني مع الأول، وهكذا دائمًا»([14]).

وعليه فقد كان من الواجب على عليٍّ أن يرد فدك لورثة فاطمة، لكنه لم يفعل، وقد تناقض الشيعة كثيرًا في تبرير امتناع علي عن رد فدك، وأنه أظهر أنه على عقيدة أبي بكر فيها.

وإليك بعض تبريراتهم المتهافتة.

١- ما ذكره الصدوق: «بإسناده إلى أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلت له: لِمَ لَمْ يأخذ أمير المؤمنين عليه السلام فدك لَمّا ولي الناس؟ ولأي علة تركها؟ فقال: لأن الظالم والمظلومة قد كانا قدِمَا على الله عز وجل، وأثاب الله المظلومة وعاقب الظالم، فكره أن يسترجع شيئًا قد عاقب الله عليه غاصبه وأثاب عليه المغصوبة»([15]).

2- وذكر أيضًا في الباب المذكور جوابًا آخر، ورواه بإسناده إلى إبراهيم الكرخي قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت له: لأي علة ترك أمير المؤمنين فدك لَمّا ولي الناس؟ فقال: للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله لَمَّا فتح مكة، وقد باع عقيل بن أبي طالب داره، فقيل له: يا رسول الله، ألا ترجع إلى دارك؟ فقال صلى الله عليه وآله وهل ترك عقيل لنا دارًا؟ إنا أهل بيت لا نسترجع شيئًا يؤخذ منَّا ظلمًا، فلذلك لم يسترجع فدك لَمَّا ولي».

3- وذكر أيضًا في الباب المذكور جوابًا ثالثًا، «بإسناده إلى علي بن الحسن بن فضّال عن أبيه عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: سألته عن أمير المؤمنين -عليه السلام- لِـمَ لَـمْ يسترجع فدك لَمَّا ولي الناس؟ فقال: لأنَّا أهلَ بيت لا يأخذ حقوقنا ممَّن ظلمنا إلا هو (يعني إلا الله)، ونحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم، ونأخذ حقوقهم ممّن ظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا».

وهم يصححون تلك الروايات برغم ما فيها من تناقض([16]).

وبناء على هذه القاعدة التي تقول بأن الظالم والمظلوم إذا ماتوا سقطت الحقوق تسقط أحكام كثيرة في شريعة الإسلام، فإذا مات الدائن والمدين لم يجز للورثة المطالبة بالدين، وإذا مات القاتل قتلًا خطأً سقطت الدية عن العاقلة ... إلخ.

وهذا شذوذ في الفهم من صانع تلك الروايات، ولو سلمنا بها -جدلًا- لما جاز لفاطمة المطالبة بفدك من البداية كونها أُخذت منها ظلمًا؛ (لأن أهل البيت لا يسترجعون ما أخذ منهم ظلمًا)، ولما جاز الحسين الخروج للمطالبة بالخلافة كونها أُخذت من أهل البيت ظلمًا، ثم هل رَد علي بن أبي طالب الميراث لأزواج النبي r كونهن لسن من أهل البيت عند الشيعة؟

وأما مشابهة ذلك مع قصة عقيل مع دار رسول الله r؛ فقد قال الحافظ ابن حجر: «مُحَصَّلُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ r لَمَّا هَاجَرَ اسْتَوْلَى عَقِيلٌ وَطَالِبٌ عَلَى الدَّارِ كُلِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَمْ يُسْلِمَا، وَبِاعْتِبَارِ تَرْكِ النَّبِيِّ r لِحَقِّهِ مِنْهَا بِالْهِجْرَةِ، وَفُقِدَ طَالِبٌ بِبَدْرٍ فَبَاعَ عَقِيلٌ الدَّارَ كُلَّهَا.

وَحَكَى الْفَاكِهِيُّ أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَزَلْ بِأَوْلَادِ عَقِيلٍ إِلَى أَنْ بَاعُوهَا لِمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُف أخي الْحجَّاج بِمِائَة ألف دِينَارٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَرَكْنَا نَصِيبَنَا مِنَ الشِّعْبِ، أَيْ: حِصَّةَ جَدِّهِمْ عَلِيٍّ مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ.

وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ قَرِيبَهُ الْكَافِرَ دَارَهُ، وَأَمْضَى النَّبِيُّ r تَصَرُّفَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الدَّارَ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى مِلْكِ عَقِيلٍ، فَإِنَّمَا لَمْ يَنْزِلْهَا رَسُولُ اللهِ r؛ لِأَنَّهَا دُورٌ هَجَرُوهَا فِي اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَرْجِعُوا فِيمَا تَرَكُوهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ عَقِيلًا بَاعَهَا، وَمَفْهُومَهُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَنَزَلَهَا»([17]).

وفي رواية الشيعة: أنها بيعت، فكيف يأخذها النبي r من عقيل إذًا؟!

٤- قالوا: بأنه لم يرد خوفًا من اتهام الناس له بالخيانة واغتنام الفرصة؛ لأن الناس كانوا يعتقدون صحة فعل أبي بكر وعمر.

يقول الميرزا جواد التبريزي: «يقال: إنه لو كان لفاطمة الزهراء حق بفدك لأعاد الإمام عليٌّ هذا الحق لأصحابه في زمن خلافته؛ لأنه كان قادرًا على ذلك.

باسمه تعالى: لو أرجع عليه السلام فدك لاتهم بالخيانة واغتنام الفرصة؛ حيث كان أكثر الناس في ذلك الزمان على ضلال وجهل، وكانوا يعتقدون صحة فعل الأولين أو على الأقل احتمال صحته، والله أعلم»([18]).

قلت: وهذا غاية الطعن في علي بن أبي طالب؛ إذ إنه غير حدود الله وظلم فاطمة بعد موتها، وظلم الحسن والحسين، وترك تطبيق دين الله؛ خوفًا من كلام الناس، بل ولا يبين لهم الحق؟!!

٥- من الشيعة من حمل عدم رد فدك على التقية، قال الشريف المرتضى: «فأما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما أفضى الأمر إليه، واستدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها، فالوجه في تركه عليه السلام رد فدك هو الوجه في إقراره أحكام القوم، وكفه عن نقضها وتغييرها، وقد بيناه في هذا الكتاب مجملًا ومفصلًا، وذكرنا أنه عليه السلام كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية»([19]).

وهذا طعن في علي رضي الله عنه! كيف وهو الذي قال كما في «نهج البلاغة»: «لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، ولا تحسبن ابن أبيك ولو أسلمه الناس متضرعًا متخشعًا، ولا مقرًا للضيم واهِنًا، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطئ الظهر للراكب المتقعد»([20]).

٦- ومن تبريراتهم قولهم: إن عليًّا كان عاجزًا عن رد فدك!

يقول محمد باقر الحسيني الجلالي: «ولم يكن باستطاعة الإمام علي عليه السلام أن يغيّر شيئا ممَّا سنَّه الرجلان، خصوصًا فيما يعود لحقوق أهل البيت عليهم السلام من الأموال المنهوبة، والأملاك المغصوبة، التي اعتاد الناس على أكلها»([21]).

يقول محمد الشيرازي: « وأما قولك -أيها الحافظ- بأن عليًّا عليه السلام حيث لم يردَّ فدك إلى أولاد فاطمة فقد أمضى حكم الخليفة، فهو خطأ؛ لأنه عليه السلام ما تمكَّن أن يغيَّر ما ابتدعه الخلفاء قبله، فكان عليه السلام مغلوبًا على أمره من طرف المخالفين والمناوئين، وهم الناكثون والقاسطون»([22]).

وقال مرتضى العسكري بعدما ساق عدة روايات: «تدلنا هذه الروايات أن الامام عليًّا لم يغير شيئًا مما فعلوه قبله في الخمس وتركة الرسول، ولم يكن ليستطيع أن يغير شيئًا»([23]).

ولما أفلس الشيعة من التبريرات جاءنا هذا التبرير الأخير، فقال محمد باقر الصدر: «ثم يهمل التاريخ أمر فدك بعد عثمان فلا يصرح عنها بشيء، ولكن الشيء الثابت هو أن أمير المؤمنين عليًّا انتزعها من مروان على تقدير كونها عنده في خلافة عثمان، كسائر ما نهبه بنو أمية في أيام خليفتهم.

وقد ذكر بعضُ المدافعين عن الخليفة في مسألة فدك أن عليًّا لم يدفعها عن المسلمين، بل اتبع فيها سيرة أبي بكر، فلو كان يعلم بصواب الزهراء وصحة دعواها ما انتهج ذلك المنهج، ولا أريد أن أفتح في الجواب بحث التقية على مصراعيه وأوجه بها عمل أمير المؤمنين، وإنما أمنع أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام قد سار على طريقة الصديق، فإن التاريخ لم يصرح بشيء من ذلك، بل صرح بأن أمير المؤمنين كان يرى فدك لأهل البيت، وقد سجل هذا الرأي بوضوح في رسالته إلى عثمان بن حنيف.

فمن الممكن أنه كان يخص ورثة الزهراء وهم أولادها وزوجها بحاصلات فدك، وليس في هذا التخصيص ما يوجب إشاعة الخبر؛ لأن المال كان عنده وأهله الشرعيون هو وأولاده، كما يحتمل أنه كان ينفق غلاتها في مصالح المسلمين برضى منه ومن أولاده عليهم الصلاة والسلام، بل لعلهم أوقفوها وجعلوها من الصدقات العامة»([24]).

فهذا التبرير السخيف يريد أن يضرب بالروايات الشيعة عُرْضَ الحائط، بل وبما تواتر عند السنة والشيعة أن عليًّا لم يرد فدك، بل سار فيها بسيرة من قبله، والعجيب أنه يقول: إن التاريخ لم يصرح بشيء في فدك؟! فإذا كانت هذه أكبر مظلومية بَنَيْتُم عليها دينكم، فكيف يكون عندكم أهل البيت لم يبيّنوا موقف عليٍّ منها؟ بل يذكر الشيعة أن الذي رد فدك هو عمر بن عبد العزيز وليس علي بن أبي طالب.

وأما افتراؤهم على عمر بن عبد العزيز، وأنه طعن في أبي بكر وعمر، وهو الذي رد فدك فجميع رواياتهم في ذلك مكذوبة، وقد حققها عبد الفتاح محمود سرور في كتابه (تسديد الملك لحكم أبي بكر في فدك ورد الفرية المزعومة: مظلومية الزهراء)([25])، وبيَّن أن عمر لم يردها كميراث، وإنما رد الإدارة لأهل البيت، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

 

([1]) منع تدوين الحديث، علي الشهرستاني (1/424).

([2]) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (6/487).

([3]) البيان في تفسير القرآن، الخوئي (1/216).

([4]) الكافي (15/432).

([5]) شرح أصول الكافي، صالح المازندراني (12/237).

([6]) الطبقات الكبير (3/179) ط الخانجي.

([7]) موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، هادي النجفي (٧/٢٦٧). والرواية صحيحة الإسناد.

([8]) موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) (٧/٢٦٤). والرواية معتبرة الإسناد.

([9]) البداية والنهاية (5/310) ط إحياء التراث.

([10]) تاريخ المدينة، بن شبة (1/211).

([11]) صحيح البخاري (5/20) ط السلطانية.

([12]) شرح نهج البلاغة، ميثم البحراني (5/107).

([13]) وقد فصلنا القول في رضا فاطمة على أبي بكر في شبهة: (زعمهم أن فاطمة غضبت على أبي بكر حتى ماتت بسبب منعها ميراثها)..

([14]) تحرير الأحكام، الحلي (٥/٩٥- ٩٨).

([15]) علل الشرائع (1/154)، الباب (124).

([16]) http://www.aqaed.com/faq/

([17]) فتح الباري، ابن حجر (3/452)

([18]) ظلامات فاطمة الزهراء/ التبريزي (ص35).

([19]) الشافي في الإمامة (4/104)، وذكر ذلك أيضًا البياضي في «الصراط المستقيم» (٣/١٦٠).

([20]) نهج البلاغة (1/٦٢).

([21]) فدك والعوالي أو الحوائط السبعة في الكتاب والسنة والتاريخ والأدب، محمد باقر الحسيني الجلالي (1/540).

([22]) ليالي بيشاور (١/٨١١).

([23]) معالم المدرستين (2/158).

([24]) فدك في التاريخ، محمد باقر الصدر (ص 36).

([25]) «تسديد الملك لحكم أبي بكر في فدك ورد الفرية المزعومة - مظلومية الزهراء» (ص١٦٣ - ١٦٦).