زعمهم أن فاطمة غضبت على الصديق وماتت وهي واجدة عليه

الشبهة:

ذكَر الشيعة أن فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر، وأن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، ورووا في ذلك رواياتٍ منها ما أورده ابن طاووس في الطرائف قال: «وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَسْبَاطٍ رَفَعَهُ إِلَى الرِّضَا (ع) أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَوْلَادِ الْبَرَامِكَةِ عَرَضَ لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (ع)، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ لَهُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، فَأَلَحَّ السَّائِلُ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الْجَوَابِ، فَقَالَ (ع): كَانَتْ لَنَا أُمٌّ صَالِحَةٌ مَاتَتْ وَهِيَ عَلَيْهِمَا سَاخِطَةٌ، وَلَمْ يَأْتِنَا بَعْدَ مَوْتِهَا خَبَرٌ أَنَّهَا رَضِيَتْ عَنْهُمَا»([1]).

وفي كتاب «السقيفة وفدك» قال: «وحدثني المؤمل بن جعفر قال: حدثني محمد بن ميمون، عن داود بن المبارك قال: أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسين، ونحن راجعون من الحج في جماعة، فسألناه عن مسائل، وكنت أحد من سأله، فسألته عن أبي بكر وعمر فقال: سألت جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة، فقال: كانت أمي صديقةً بنتَ نبي مرسل، فماتت وهي غضبى على إنسان، فنحن غضاب لغضبها، وإذا رضيت رضينا»([2]).

واستدلوا على ذلك أيضًا بروايات من الصحيحين وغيرهما نتعرض لها في ثنايا البحث.

 

 ([1]) الطرائف في معرفة مذهب الطوائف، ابن طاووس (1/252).

 ([2]) السقيفة وفدك، أبو بكر الجوهري (1/118).

الرد علي الشبهة:

أولًا: الروايات التي ذكروها من كتبهم لا تصِحُّ إسنادًا وفقًا لمبانيهم، فأما الرواية الأولى: فهي منقطعة الإسناد، وأما رواية كتاب السقيفة وفدك: فأكثر رجالها مجاهيل، فداود بن المبارك والمؤمن بن جعفر لم أجد لهمَا ترجمةً في كتب الرجال، وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن ذكره الشاهرودي في مستدركات علم الرجال، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا([1]). فالرجل مجهول الحال عند الشيعة.

وأما حجتهم من روايات أهل السنة: فقد استدلوا برواية مشهورة جاءت في الصحيحين وغيرهما، وإليك النص من صحيح الإمام مسلم، قال: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، أَخْبَرَنَا حُجَيْنٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ r أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ r، مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمْسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ r فِي هَذَا الْمَالِ»، وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللهِ r عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ r، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ r، فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ شَيْئًا، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ r سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْلًا»([2]).

وفي رواية البخاري: «فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا المَالِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلَّا صَنَعْتُهُ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ»([3]).

وقد اختلف أهل العلم حول كلمة: «فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ»: هل هي مدرجةٌ من قول الزهري، أم هي من كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟

ولكي نقف على حقيقة الأمر لا بد من معرفة كيف نميز المدرج من غيره، قال السيوطي: «فَأَمَّا مُدْرَجُ الْمَتْنِ: فَتَارَةً يَكُونُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ، كَمَا ذَكَرَهُ، وَتَارَةً فِي أَوَّلِهِ، وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ، وَغَيْرُهُ.

وَالْغَالِبُ وُقُوعُ الْإِدْرَاجِ آخِرَ الْخَبَرِ، وَوُقُوعُهُ أَوَّلَهُ أَكْثَرُ مِنْ وَسَطِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ يَقُولُ كَلَامًا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ، فَيَأْتِي بِهِ بِلَا فَصْلٍ، فَيُتَوَهَّمُ أَنَّ الْكُلَّ حَدِيثٌ»([4]).

وقال: «وَيُدْرَكُ ذَلِكَ بِوُرُودِهِ مُنْفَصِلًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَوْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الرَّاوِي، أَوْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْمُطَّلِعِينَ، أَوْ بِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ r يَقُولُ ذَلِكَ»([5]).

وقال الصنعاني: «واعلم أن الطريق إلى معرفة المدرج من وجوه: ... الثالث: أن يصرح بعض الرواة بتفصيل المدرج فيه عن المتن المرفوع بإضافته إلى قائله»([6]).

وبعدما عرفنا كيف نميز بين المدرج وغيره لا بد أن نعرف أن الزهري كان كثيرَ الإدراج، ولذلك ذكر الخطيب البغدادي في كتابه (الفصل للوصل المدرج في النقل) نحوًا من ثلاثين حديثًا للزهري، وميز إدراجه فيها، ولذلك فقد كان تلاميذُ الزهري ينهَوْنَه عن ذاك.

وهذا شيء يشبِهُ التدليسَ، لكنه تدليسُ متن، قال الزركشي: «وَأما تَدْلِيسُ الْمُتُونِ فَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه المحدثونَ (المدرجَ)، وَهُوَ: أَن يُدرج فِي كَلَامِ النَّبِي r كَلَامَ غَيره، فيظن السَّامع أَن الْجَمِيع من كَلَام النَّبِي r»([7]).

قلت: وقد روَى تلك الروايةَ هجران فاطمة- عن الزهري صالحُ بن كيسان، وشعيبُ بن أبي حمزة، وعقيلُ بن خالد، ومعمرُ بن أبي راشد، وإسحاقُ بن راشد، والوليدُ بن محمد الموقري، وميَّزَ معمرٌ في روايته بين كلام رسول الله r وكلام الصديق وكلام أم المؤمنين وكلام الزهري، وقد جاءت رواية معمر في البخاري -وقد سبق إيرادها عن معمر- التي فيها: «قال: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ».

وجاءت مفصلة أيضًا عند عبد الرزاق: «عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ r -وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكَ، وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرٍ- فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ r مِنْ هَذَا الْمَالِ»، وَإِنِّي وَاللهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يَصْنَعُهُ إِلَّا صَنَعْتُهُ، قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ، فَدَفَنَهَا عَلِيٌّ لَيْلًا، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ حَيَاةَ فَاطِمَةَ حَظْوَةٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ النَّاسِ عَنْهُ، فَمَكَثَتْ فَاطِمَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ r ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَقَالَ رَجُلٌ لِلزُّهْرِيِّ: فَلَمْ يُبَايِعْهُ عَلِيٌّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى بَايَعَهُ عَلِيٌّ، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ انْصِرَافَ وُجُوهِ النَّاسِ عَنْهُ، أَسْرَعَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ...»([8]).

هكذا رواه عبد الرزاق، قاله عنه محمد بن يحيى ومحمد بن علي الصنعاني، أخرجها أبو عوانة في مسنده (٦٦٧٩)، وأبو صالح الشراري، وإسحاق الدبري - أخرجها الطبري في تاريخه، (۲/۲۳٦)، وأحمد بن منصور عند البيهقي (۳۰۰/٦) وتوبع عبد الرزاق عليه، تابعه محمد بن ثور عن معمر، كما في أخبار المدينة لابن شبة (۱/۱۲۲ح٥٤٩)، وتابعه هشام بن يوسف الصنعاني عند البخاري (٦٣٤٦).

لكن رواه المروزي في مسند أبي بكر (۳۸حدثنا أحمد بن علي قال: حدثنا أبو بكر بن زنجُويه قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: «أن فاطمة والعباس أتَيَا أبا بكر رضي الله عنهما يلتمسان ميراثهمَا من رسول الله ...» وفيه: «قالت: فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي t ليلًا ولم يؤذَن بها أبو بكر، قالت: فكان لعلي t وجه من الناس حياة فاطمة رضي الله عنها، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله ثم توفيت، قال معمر: فقال رجل للزهري رحمه الله: فلم يبايعه ستة أشهر، قال: لا ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي».

قلت: فجاء في الرواية (قالت: فهجرته فاطمة) وليس (قال:) وهي روايةٌ فيها نظر؛ فقد رواها عن عبد الرزاق:

- محمد بن يحيى.

- محمد بن علي الصنعاني.

- أبو صالح الشراري.

- إسحاق بن إبراهيم الدبري.

- أحمد بن منصور.

كلهم بلفظ (قال:)، وهو الأصح، بل جاء في رواية شعيب وعقيل وصالح بن كيسان بلفظ (قال:) وهو ما يؤكد أن فاعله رجل وليس امرأة، فيكون مدرجًا من كلام الزهري، ولا عبرة بغير ذلك، بدلالة أن الحجة للمبين على المجمل، وعليه فيكون القول بأن فاطمة هجرت أبا بكر ولم تكلمه حتى ماتت إنما هو من كلام الزهري، ولا يصح.

وإذا سلمنا أنه من كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتأويله واضح؛ إذ إن «وَجَدَتْ عَلَيْهِ» لا يلزم منه السخط والبغض في الله، بل مجرد العتاب الإيماني الذي لا يخلو منه أشد الناس مودة، ودليل ذلك: أن الخلاف بينها وبين الصديق كان خلافًا فقهيًّا لا عَقَديًّا، وقد اعترف بذلك علماء الشيعة.

يقول علي الشهرستاني: «إنَّ أوَّل اختلاف فقهيٍّ حصل بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان الاختلاف بين فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وبين الخليفة أبي بكر، ... فكان هذا أوَّل خلاف بين المسلمين في القضاء والشهادات»([9]).

والخلاف الفقهي لا يجوز فيه التباغض والهجران، وإلا لزم أن يتهاجر كل علماء من الشيعة ويتقاطعون؛ لأنه ما من عالم إلا وله مسائل فقهية تخالف غيره.

وعليه فهذا الوجد، والهجران محمول على ترك العتاب في تلك القضية.

قال الحافظ: «وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: إِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَتُهَا انْقِبَاضًا عَنْ لِقَائِهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْهِجْرَانِ الْمُحَرَّمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَلْتَقِيَا فَيُعْرِضُ هَذَا وَهَذَا، وَكَأَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا خَرَجَتْ غَضْبَى مِنْ عِنْدِ أَبِي بَكْرٍ تَمَادَتْ فِي اشْتِغَالِهَا بِحُزْنِهَا ثُمَّ بِمَرَضِهَا، وَأَمَّا سَبَبُ غَضَبِهَا مَعَ احْتِجَاجِ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَلِاعْتِقَادِهَا تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ عَلَى خِلَافِ مَا تَمَسَّكَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَكَأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ: «لَا نُورَثُ» وَرَأَتْ أَنَّ مَنَافِعَ مَا خَلَّفَهُ مِنْ أَرْضٍ وَعَقَارٍ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُورَثَ عَنْهُ، وَتَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ بِالْعُمُومِ، وَاخْتَلَفَا فِي أَمْرٍ مُحْتَمِلٍ لِلتَّأْوِيلِ، فَلَمَّا صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ انْقَطَعَتْ عَنْ الِاجْتِمَاعِ بِهِ لِذَلِكَ»([10]).

ثانيًا: لو ثبت هذا عن فاطمة؛ فإن الخطأ لا يكون عند من يتبع النبي r وإنما عند من لا يعلم بهدي النبي r في الموضوع، وعليه فلو ترتب على فعل أبي بكر غضب فاطمة فالخطأ عندها لا عند الصديق، بل إن الشيعة قالوا بأن فعل المباح لا يقتضي حرمته، ولو ترتب عليه إيذاء فاطمة، قلت: فما بالك لو كان الفعل واجبًا لا مباحًا فقط؟!

يقول الخوئي في «المباني في شرح العروة الوثقى»: «بل حتى لو فرض كونه إيذاءً لها -أي فاطمة- فإنَّه لا دليل على حرمة الفعل المباح المقتضي لإيذاء المؤمن قهرًا، على ما ذكرنا في محلِّه، وحيث إنَّ المقام من هذا القبيل؛ لأنَّ التزوُّج بالثانية أمرٌ مباح في حدِّ نفسه، فمجرد تأذي فاطمة عليها السلام لا يقتضي حرمته»([11]).

ثالثًا: لا نسلم أن فاطمة رضي الله عنها هجرت أبا بكر الهجران المحرم؛ لأنها لا يمكن أن تفعل ذلك أبدًا، ففي الحديث الصحيح عندهم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «لا هجرة فوق ثلاث»([12]).

قال المجلسي في شرحه: «وظاهره أنه لو وقع بين أخوين من أهل الإيمان موجدة أو تقصير في حقوق العشرة والصحبة، وأفضى ذلك إلى الهجرة؛ فالواجب ألَّا يبقوا عليها فوق ثلاث ليال»([13]).

وبِناء عليه: لا بد أن نؤول هجران فاطمة رضي الله عنها بأنه ترك الكلام في قضية الميراث خاصة، قال الترمذي: «حَدَّثَنَا بِذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَسْأَلُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ r، فَقَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «إِنِّي لَا أُورَثُ» قَالَتْ: وَاللهِ لَا أُكَلِّمُكُمَا أَبَدًا، فَمَاتَتْ وَلَا تُكَلِّمُهُمَا، قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مَعْنَى لَا أُكَلِّمُكُمَا؛ تَعْنِي فِي هَذَا الْمِيرَاثِ أَبَدًا، أَنْتُمَا صَادِقَانِ»([14]).

وقال النووي: «وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث: «فلم تكلمه» يعني: في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته»([15]).

قال القرطبي في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: «ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتقِ بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله، ولملازمتها بيتها، فعبر الراوي عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ»، وهي أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم، وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله»([16]).

رابعًا: ثبت في كتب السنة والشيعة أن الصديق ترضَّاهَا ورضيت.

فقد صح عَنِ الشَّعْبِيِّ أنه قَالَ: «لَمَّا مَرِضَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ t فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ t: يَا فَاطِمَةُ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكِ، فَقَالَتْ: أَتُحِبُّ أَنْ آذَنَ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَذِنَتْ لَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا يَتَرَضَّاهَا وَقَالَ: «وَاللهِ مَا تَرَكْتُ الدَّارَ وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ إِلَّا ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَمَرْضَاةِ رَسُولِهِ وَمَرْضَاتِكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ»، ثُمَّ تَرَضَّاهَا حَتَّى رَضِيَتْ» هَذَا مُرْسَلٌ حَسَنٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ([17]).

ومرسل الشعبي صحيح كما قال أهل العلم، قال يحيى بن معين: «إذا حدث الشعبيُّ عن رجل فسماه فهو ثقة يحتج بحديثه»([18]).

قال العجلي: «مرسل الشعبي صحيح، لا يرسل إلا صحيحًا صحيحًا»([19]).

* كما ثبت أيضًا رضَا فاطمةَ عن الصديقِ في كتب الشيعة

قال في (شرح نهج البلاغة): «كان رسول الله r يأخذ من فدَك قوتكم ويقسم الباقي ويحمل منه في سبيل الله، ولك عليَّ أن أصنع بها كما كان يصنع، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه به»([20]).

خامسًا: الرواية التي فيها: «إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» لا تصح لا إسنادًا ولا متنًا.

أما من ناحية الإسناد: فجميع روايات جاءت من طريق ضعيفة، وأكثرها من طريق حسين بن زيد، فقد جاء عن الحاكم بسنده، حَدَّثَ «حُسَيْنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r لِفَاطِمَةَ: «إِنَّ اللهَ يَغْضَبُ لِغَضَبِكِ وَيَرْضَى لِرَضَاكِ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»([21]).

وقد قال الإمام أبو طاهر المقدسي بعد أن ذكر هذا الأثر وسنده: «وَهَذَا يرويهِ حُسَيْنٌ هَذَا، وَهُوَ مُنكرُ الحَدِيث»([22]).

وقد توسع في تخريج الحديث وجمع طرقه الدكتور إبراهيم المديهش في «موسوعته»، وقال في نهاية بحثه: «الحكم على الحديث: الراجح في الحديث الوجه المرسل؛ لترجيح الإمام الدارقطني، والضعف في الحديث من حسين بن زيد، وهو مِمَّا أُنكر عليه -كما سبق في قول ابن عدي والذهبي-، وقد اضطرب فيه فرواه من وجوه عدة، وزيادةً على ضَعفِه، فإنَّ في الوجه الثاني عليَّ بنَ عُمر بن علي، وفيه ضعف كما سبق، وفي الثالث شذوذًا لمخالفة رواية الباقين؛ حيث رواه عن أبيه، وجعله من مسند الحسين»، ثم قال: «لا يصح في المبحث حديث»([23]).

وأما من ناحية المتن: فلا يجوز أن يعلَّق رضا الله وغضبه المطلق على رضا وغضب شخص غير معصوم، بل إن النبي r قال كما صح عَنْهُ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ آذَيْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَصَلَاةً»([24]).

وعليه فالإطلاق في ذلك محال.

سادسًا: لو صح الحديث لقلنا وجوبًا: ليس كل غضب لفاطمة رضي الله عنها يكون بالضرورة مغضبًا لله ولا لرسول الله r، وإنما لا بد أن يكون هذا بتحقق شروط وانتفاء موانع كسائر نصوصِ الوعيد، وذلك أن الغضب من طبع بني آدم، وقد يكون بحق أو بباطل، فإذا كان بباطلٍ فقطعًا لا نقول بأنه يترتب عليه تحققُ الوعيد، وهذا كمن فعل المعصية متأولًا أو جاهلًا، فلا يلزم منه تحقق الوعيد الوارد على تلك المعصية، فقد ثبت عن النبي r قولُه: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ»([25]).

فهل نقول: إن كل غضب من الوالد علَى ولده يستلزم غضب الله علي ذلك الولد؟! هذا لا يقول به إلا جاهل، وعليه فنقول تنزلًا: إن النبي r لما قال عن فاطمة رضي الله عنها ذلك إنما أراد إدخالها في مقام أعلى من بنات المؤمنين، كما أن نساءَهُ لهن مقام أعلى من بقية نساء المؤمنين بنص كتاب الله: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، فأراد النبي r أن يعطي لابنته فاطمة ميزة وواجبًا على الأمه؛ ألَّا يتسبب أحد في إغضابها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فإن غضبت بغير حق فلا يلزم منه غضب الرب تعالى.

وقد جاء في كتب الشيعة: أن من حق المؤمن أن تطيع أمره وترضيه ولا تسخطه، وإلا خرجت من الولاية.

فعن المعلى بن خنيس قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما حق المؤمن على المؤمن؟ قال: إني عليك شفيق، إني أخاف أن تعلم ولا تعمل وتضيع ولا تحفظ، قال: فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: للمؤمن على المؤمن سبعةُ حقوق واجبة، وليس منها حق إلا وهو واجب على أخيه، إن ضيع منها حقًّا خرج من ولاية الله، وترك طاعته، ولم يكن له فيها نصيب.

أيسرُ حَق منها: أن تحب له ما تحب لنفسك، وأن تكره له ما تكرهه لنفسك، والثاني: أن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويديك ورجليك، والثالث: أن تتبع رضاه، وتجتنب سخطه، وتطيع أمره، ..... »([26]).

فهل نقول بأن أي إغضاب لأي نؤمن يترتب عليه غضب الله تعالى دون تحقق شروط وانتفاء موانع؟

سابعًا: جاء في كتب الشيعة أن فاطمة أغضبت عليًّا، وأن النبي r أخبرها أنَّ رضا الله في رضا الزوج، وغضب الله في غضب الزوج.

قال التُسْتَري: «شدة اهتمام فاطمة عليها السَّلام لرضى علي رواه جماعة من أعلام القوم، منهم: العلامة الشيخ عثمان بن حسن بن أحمد الخوبري في «درة الناصحين» (ص 49 ط بمبئى)، فقد روى عن سلمان الفارسي أنه قال: دَخَلَت فاطمة رضي اللّه عنها على رسول الله «ص» فلما نظرت إليه دمَعت عيناها وتغير لونها، فقال عليه السلام: ما لك يا بنتي؟ قالت: يا رسول الله، كان بيني وبين علي البارحة مزاحٌ، ونشأ من الكلامِ أن غضب عليٌّ بكلمة خرجت من فِيّ، فلما رأيت أن عليًّا قد غضب ندمت وغممت، فقلت له: يا حبيبي ارض عني، وطفت حوله اثنتين وسبعين مرة حتى رضِيَ عني وضحك في وجهى مع الرضا، وأنا خائفة من ربى، فقال لها النبي «ص»: يا بنتي، والذي بعثني بالحق ! إنك لو مِت قبل أن تُرضي عليًّا لم أُصَل عليك، ثم قال: يا بنتي، أما علمت أن رضي الزوج هو رضي الله، وغضب الزوج هو غضب الله»([27]).

فهل غضب اللهُ على فاطمة لما أغضبت عليًّا من جهتين الأولى: كونه علي الإمام المعصوم، الثانية: كونه زوجها؟ ثم هل غضب الله على عليّ لما أغضب فاطمة كما بيناه في شبهة إيذاء فاطمة؟! إن هذا لشيء عجاب!

وأما حديثُ: «من آذى فاطمةَ» فسنفرد له بحثًا مستقلًّا.

 

 

 

 ([1]) مستدركات علم رجال الحديث، النمازي الشاهرودي (5/118).

 ([2]) صحيح مسلم (3/١٣٨٠).

 ([3]) صحيح البخاري (8/١٤٩).

 ([4]) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي (1/٣١٧).

 ([5]) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي (1/٣١٥).

 ([6]) توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، الصنعاني (2/٤7 - ٤8).

 ([7]) النكت على مقدمة ابن الصلاح، الزركشي (2/١١٣).

 ([8]) مصنف عبد الرزاق (5/٤٧١).

 ([9]) منع تدوين الحديث، الشهرستاني (1/424).

 ([10]) فتح الباري، ابن حجر (6/202).

 ([11]) المباني في شرح العروة الوثقى، الخوئي (2/364).

 ([12]) الكافي، الكليني (4/55)، قال المجلسي في مرآة العقول: «حسن كالصحيح» (10/360).

 ([13]) مرآة العقول، المجلسي (10/360).

 ([14]) سنن الترمذي، (3/255) ت بشار.

 ([15]) شرح صحيح مسلم، (12/73).

 ([16]) صحيح البخاري (10/492)، وصحيح مسلم (4/1984).

 ([17]) السنن الكبرى، البيهقي (6/491) ط العلمية.

 ([18]) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (6/323).

 ([19]) الثقات، العجلي (ص244) ط الباز.

 ([20]) شرح نهج البلاغة، ميثم البحراني (5/101).

 ([21]) المستدرك (3/167 - 4730)، ‌‌قال الذهبي: «بل حسين بن زيد منكر الحديث».

 ([22]) ذخيرة الحفاظ، أبو الفضل المقدسي (2/783).

 ([23]) فاطمة بنت النبي r سيرتها، فضائلها، مسندها (5/250).

 ([24]) مسند أحمد (12/262) ط الرسالة.

 ([25]) صحيح الأدب المفرد (ص33).

 ([26]) كتاب المؤمن (ص40).

 ([27]) إحقاق الحق وإزهاق الباطل، التستري (19/112).