أولًا: الرواية جاءت عند أهل السنة من طريقين:
الطريق الأول: في معجم ابن الأعرابي: «نا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: جَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ r فَقَالَ: انْزِلْ عَنْ مَجْلِسِ أَبِي، فَقَالَ: صَدَقْتَ، إِنَّهُ مَجْلِسُ أَبِيكَ، ثُمَّ أَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللهِ مَا هَذَا عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَاللهِ مَا اتَّهَمْتُكَ»([1]).
الطريق الثاني: في تاريخ دمشق: «أنبأنا أبو علي الحداد، وحدثني أبو رشيد محمد بن مبشر بن أبي سعد عنه، أنبأ أبو نعيم، نا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن إسحاق بن علي بن جابر الجابري الموصلي بالبصرة، نا أبو جعفر محمد بن أحمد بن أبي عيسى، نا جعفر بن عون، نا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: جاء الحسين بن علي إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله r فقال: انزل عن مجلس أبي، فقال: صدقت، إنه لمجلس أبيك، قال: ثم أجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن أمري، قال: صدقت، والله ما اتهمتك، وقد رُوِيَ هذا للحسين»([2]).
وكلا الإسنادين من طريق عن عبد الرحمن الأصبهاني وهو مختلف فيه، قَالَ يحيى: «لَيْسَ بِشَيْء، وروى الكوسج عن ابن معين: ثقة، وكذا وثقه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: صالح الحديث»([3])، وقال أبو عبد الله المصنعي العنسي: «مجهول حال»([4]).
وعليه فالرجل مختلف فيه، وهو من الرواة عن التابعين، ولم يدرك زمان الصديق، وعليه فالرواية منقطعة الإسناد، ولا تصح.
وفي الطريق الأول أسامة بن زيد بن أسلم، قال ابن الجوزي: «أُسَامَةُ بن زيد بن أسلم مديني مولى عمر يكنى أَبَا زيد، يروي عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ أَحْمد: مُنكرُ الحَدِيث ضَعِيفٌ، وَترك يحيى بن سعيد حَدِيثه، وَقَالَ يحيى بن معِين: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: بَنو زيد بن أسلم لَيْسُوا بِشَيْء، أُسَامَة وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن، قَالَ عَليٌّ: لَيْسَ فِي ولد زيد بن أسلم ثِقَة، وَفِي رِوَايَة عَن عَليّ أَنه ضعف عبد الرَّحْمَن بن زيد وَذَكَرَ عَن إخْوَته أُسَامَة وَعبد الله صلاحًا، وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ أُسَامَة يَهِمُ فِي الْأَخْبَار فيرفعُ الْمَوْقُوفَ ويصِلُ الْمَقْطُوع، وَقَالَ ابْن عدي: لم أجدْ لَهُ حَدِيثًا مُنْكرًا لَا إِسْنَادًا وَلَا متْنًا، وَأَرْجُو أَنه صَالِحٌ»([5]).
وبه يثبت أن الرواية احتَوت على الضعفاء والمجاهيل مع الانقطاع، وبمثل هذا لا تقوم حجة.
ثانيًا: الرواية في كتب الشيعة جاءت في كتاب محمد بن أشعث الكوفي بسنده: «عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَقَدْ تَهَيَّأَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ لِلْجُمُعَةِ، فَسَبَقَ الْحُسَيْنُ فَانْتَهَى إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ لَهُ: هَذَا مِنْبَرُ أَبِي لَا مِنْبَرُ أَبِيكَ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: صَدَقْتَ، هَذَا مِنْبَرُ أَبِيكَ لَا مِنْبَرُ أَبِي، فَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع) عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ عَلِيٌّ (ع): يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ الْغُلَامَ إِنَّمَا يَثَّغِرُ فِي سَبْعِ سِنِينَ، وَيَحْتَلِمُ فِي أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيُسْتَكْمَلُ طُولُهُ فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَيُسْتَكْمَلُ عَقْلُهُ فِي ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالتَّجَارِبِ»([6]).
وهذه الرواية لو التزمها الشيعة لكانت القاصمَةَ لعقيدتهم؛ لأنها تخطئة واضحة من علي للحسن أو الحسين، بل اتهام بنقص العقل وعدم رشده، وفي الجانب الآخر نجد الصديق قد انفعل لعاطفة الحب الجياشة في قلبه لأهل البيت فبكي ورحم الصغير، ولم تأخذه العزة بالإثم -وحاشاه- لينتقم من طفل أساء له في زعم الشيعة.
ثالثًا: قول الحسن t: «منبر أبي» أي منبر النبي r، ولم يقصد منبر والده علي بن أبي طالب t، ودليل ذلك ما صرحت به رواية (تاريخ المدينة) لابن شبة([7])، وفيها: «انْزِلْ عَنْ مِنْبَرِ جَدِّي»، وإن كانت تتكلم عن عمر، وقد سبق تفصيل الرد عليها في كتاب «فصل الخطاب في درء الشبهات عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t» فليراجع هناك.
وتصديق أبي بكر لكلام الحسن ليس اعترافًا ببطلان الخلافة أو اغتصاب المنبر كما زعم الشيعة، بل الصواب أن أي منبر يصعده الخطيب في أي بلد إنما يُنسب لرسول الله r في الأصل، لكن المنبر ليس وراثة لأحد من بعده r، ولا هو مخصص لبني هاشم وحدهم، قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب:40]، فالمنبر يرثه أهل العلم الذين ورثوا على رسول الله r واتبعوا نهجه، قال تعالى: (قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ) [يوسف 108] وقال r: «وَأَنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا العِلْمَ»([8]).
ولذلك فالشيعة الآن ينسبون المنبر للحسين ويقولون: المنبر الحسيني، ثم يصعده أحدهم ولا يقال: إنه مغتصب، مع أن الحسين لم ينص عليه كما ينسب الشيعة للصديق!
رابعًا: الحسن في هذا الوقت مرفوعٌ عنه القلم، ويجوز عليه الجهل، ويجب تأديبه إذا أخطأ.
يقول الحلي في المعتبر: شرائط حجة الإسلام وهي ستة: «البلوغ، وكمال العقل»، فلا يجب على «الصغير» ولا «المجنون وعليه العلماء كافة؛ لقوله عليه السلام: «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق»([9]).
وقد جهل جعفر الصادق أيضًا حرمة قلع الحشيش بمنًى؛ قال محمد تقي المجلسي: «ويمكن حمل النهي في غير الداخل على الكراهة كما يظهر مما رواه الشيخ في الصحيح، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: رآني علي بن الحسين عليهما السلام وأنا أقلع الحشيش من حول الفساطيط بمنى، فقال: يا بني، إن هذا لا يقلع، وإن أمكن حمله على إرادة القطع أو يكون صغيرًا غير مكلف، والجهل عليهم في الصغر»([10]).
وفي (الكافي) بإسناده «عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السلام عَنْ قَتْلِ الْخُطَّافِ أَوْ إِيذَائِهِنَّ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ: لَا يُقْتَلْنَ، فَإِنِّي كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام فَرَآنِي وَأَنَا أُوذِيهِنَّ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، لَا تَقْتُلْهُنَّ وَلَا تُؤْذِهِنَّ، فَإِنَّهُنَّ لَا يُؤْذِينَ شَيْئًا»([11]).
في هذه الرواية التصريح بجهل الصادق للحكم الشرعي في حرمة أذية الخطاف.
إذًا هذا الموقف من الحسن إنما هو بطبيعة سنِّه وطفولته؛ ولذلك نُسِبَ إلى قلة العقل، بل ويجب تأديبه حتى ولو كان المعصوم، فقد ثبت في كتب الشيعة أن المعصوم ينبغي أن يُؤدَّب إذا أخطأ.
قال محمد تقي المجلسي في روضة المتقين: «وفي القوي كالصحيح عن زرارة قال: رَأَيْتُ دَايَةَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام تُلْقِمُهُ الْأَرُزَّ وَتَضْرِبُهُ عَلَيْهِ، فَغَمَّنِي مَا رَأَيْتُهُ، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام فَقَالَ لِي: أَحْسَبُكَ غَمَّكَ مَا رَأَيْتَ مِنْ دَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى، قُلْتُ لَهُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ لِي: نِعْمَ الطَّعَامُ الْأَرُزُّ، يُوَسِّعُ الْأَمْعَاءَ، وَيَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ، وَإِنَّا لَنَغْبِطُ أَهْلَ الْعِرَاقِ بِأَكْلِهِمُ الْأَرُزَّ وَالْبُسْرَ، فَإِنَّهُمَا يُوَسِّعَانِ الْأَمْعَاءَ وَيَقْطَعَانِ الْبَوَاسِيرَ»([12]).
فالرواية صريحة في تأديب الداية للكاظم بحضور وإقرار من الصادق رحمه الله، بل وتضربه على أمر لا يعرف فيه مصلحته.
قلْتُ: فالمعصوم إذا كان صغيرًا فهو لا يعرف مصلحة نفسه، فيكف يعرف مصلحة غيره؟!
([1]) معجم ابن الأعرابي (2/426)، رقم (831).
([2]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (30/307).
([3]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/95، ت 1873)، ميزان الاعتدال، الذهبي (2/568).
([4]) (أصبهان 1/3621، ت15391) ينظر: مصباح الأريب في تقريب الرواة الذين ليسوا في تقريب التهذيب (2/234).
([5]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (٩٥/١).
([6]) الجعفريات الأشعثيات، محمد بن أشعث کوفي (1/212).
([7]) تاريخ المدينة، ابن شبة (14/3).
([8]) صحيح البخاري (1/24).
([9]) المعتبر في شرح المختصر، المحقق الحلي (2/747).
([10]) روضة المتقين (4/166).
([11]) الكافي (6/224)، وقال المجلسي في مرآة العقول: «حسن» (21/370).
([12]) روضة المتقين، المجلسي (4/166).