زعمهم ترك الصديق إقامة الحد على خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة

الشبهة:

قالت الشيعة: إن خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة وزنى بزوجته في نفس الليلة -على زعمهم-، فلما كلمه عمر في إقامة الحد تعلَّل بكون خالد سيفًا من سيوف الله.

يقول عبد الرسول الغفار: «ثم لم يجر الحد على خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة ودخل بزوجته من ليلته، فأي تعطيل للحدود ولحكم الله بعد هذا؟ وأي مخالفة وراء هذا؟»([1]).

ويقول عماد الدين الطبري: «أشار عمر على أبي بكر بإجراء الحدِّ على خالد بن الوليد لزناه بزوج مالك بن نويرة فأبي أبو بكر وقال: خالد سيف من سيوف الله»([2]).

 

 ([1]) شبهة الغلو عند الشيعة، عبد الرسول الغفار (1/181).

 ([2]) تعريب كامل البهائي، عماد الدين الطبري (1/178).

الرد علي الشبهة:

أولًا: الأصل أن قتل الإمام يكون بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل([1])، والاعتماد في مثل هذه الأمور على مجرد روايات التاريخ لا يقول به أحد من أهل العلم، بل حتى عند الشيعة الإمامية أنفسهم لا يجوز الاعتماد في الأحكام الشرعية -كإقامة الحدود مثلا- على الوقائع التاريخية.

يقول البحراني: «والاعتماد في الأحكام الشرعية على مجرد كلام المؤرخين محل إشكال، والله العالم»([2]).

فإذا كان كلام المؤرخين لا يعتمد عليه في الأحكام الشرعية؛ فكيف يعتمد عليه في نقض عقيدة من العقائد الثابتة، كعدالة الصحابة وتقواهم لرب العالمين، فضلًا عن عدالة وتقوى أفضلهم على الإطلاق، وهو صدِّيق الأمة أبو بكر؟!

فإن قيل: ذكر ذلك المؤرخون، قلنا: إن أشهر من ذَكَرَ ذلك هو ابن سعد في الطبقات، وجميع رواياته في قضية مالك بن نويرة فيها الواقدي المتروك، فضلًا عن غير ذلك من أسباب تضعيف الروايات سندًا ومتنًا([3])، وسنتعرض لبعضها خلال البحث.

وممن استفاض في نقل الروايات في ذلك أيضًا-: ابن جرير الطبري في «تاريخه»، وجميع رواياته في ذلك ضعيفة، وقد حكم على جميعها بالضعف محقق «تاريخ الطبري» محمد بن طاهر البرزنجي، وقال بعد ذكر روايات مقتل مالك بن نويرة: «تعليقنا على هذه الروايات الضعيفة، نقول وبالله التوفيق: هذه أسانيد ضعيفة، ومنها الضعيف جدًّا، وفي بعض متونها نكارة، وذكرنا هذه الروايات في قسم الضعيف؛ لأننا قد أخذنا على أنفسنا عند بدئنا بتحقيق أول رواية للطبري من طريق سيف بن عمر التميمي ألا نأخذ بأية رواية من رواياته في ما يتعلق بالحلال والحرام ومسائل العقيدة، أو الطعن في عدالة الصحابة؛ فهو ضعيف في الحديث باتفاق أئمة الجرح والتعديل، وأخذنا برواياته التاريخية التي لا تثبت في هذه المسائل، وبشرط أن تكون لأصل الرواية التاريخية ما يؤيدها مسندًا، والله أعلم»([4]).

وعليه فنحن لم نجد رواية يمكن الاعتماد عليها لإثبات ما زعمه الرافضة من قتل مالك بن نويرة ظلمًا والزنا بزوجته، وتخلف الصديق عن إقامة الحد بزعمهم.

ثانيًا: المتفق عليه من الروايات التاريخية الضعيفة التي هي محل الشبهة أن مالكَ بن نويرة قتله بعض جند خالد بن الوليد، وأن خالدًا تزوج بعد ذلك زوجته ليلى بنت سنان.

وأما سبب قتل مالك بن نويرة وذكر بعض ملابسات ذلك الحادث، فقد تفاوتت الروايات في بيانه، إلا أن معظم قدامى المؤرخين الذين سجلوا تلك الحادثة، مثل الواقدي وابن إسحاق وسيف بن عمر وابن سعد وخليفة بن خياط وغيرهم، ذكروا امتناع مالك بن نويرة من أداء الزكاة وحبسه إبل الصدقة، ومنعه قومه من أدائها، مما حمل خالدًا على قتله، من غير التفات إلى ما يُظهره من إسلام وصلاة.

قال ابن سلام الجمحي: «والمجتمع عَلَيْهِ أَن خَالِدًا حاوره وراوده، وَأَن مَالِكًا سمح بِالصَّلَاةِ والتوى بِالزَّكَاةِ، فَقَالَ خَالِد: أما علمت أَن الصَّلَاة وَالزَّكَاة مَعًا لَا تقبل وَاحِدَة دون الْأُخْرَى؟ قَالَ: قد كَانَ يَقُول ذَلِك صَاحبكُم، قَالَ: وَمَا ترَاهُ لَك صاحبًا، وَالله لقد هَمَمْت أَن أضْرب عُنُقك، ثمَّ تحاولا، فَقَالَ لَهُ خَالِد: إني قَاتلك، قَالَ: وبذا أَمرك صَاحبك، قَالَ: وَهَذِه بعد، وَالله لَا أقيلك»([5]).

وقال الواقدي: «ثُمَّ قَدَّمَ خَالِدٌ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِيَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَتَقْتُلُنِي وَأَنَا مُسْلِمٌ أُصَلِّي الْقِبْلَةَ؟ فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: لَوْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَمَا مَنَعْتَ الزَّكَاةَ، وَلا أَمَرْتَ قَوْمَكَ بِمَنْعِهَا»([6]).

وقد اتفق السنة والشيعة على قتال مانع الزكاة.

يقول الجصاص في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا): «قيل: في الحرج ها هنا إنَّهُ الشَّكُّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ وَلَا ضِيقِ صَدْرٍ بِهِ، بَلْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ r فَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ r قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ»([7]).

وقد أجمع الصحابة على قتال مانعي الزكاة، يقول القاضي أبو يعلى: «وأيضًا فإنه إجماع الصحابة، وذلك أنهم نسبوا الكفر إلى مانع الزكاة وقاتلوه وحكموا عليه بالردة، ولم يفعلوا مثل ذلك بمن ظهر منه الكبائر، ولو كان الجميع كفرا لسووا بين الجميع»([8]).

بل إن مانع الزكاة أيضًا يقتل عند الشيعة ويقاتل، يقول كاشف الغطاء: «فمن خالف في ترك زكاة أو خمس أو ردّ حقوق حاربوه، ولحاكم المسلمين الحامي لبيضة الإسلام، والدافع عن دماء المسلمين وأعراضهم إذا اضطرَّ إلى ذلك مُحاربته»([9]).

ويقول الحلي: «وأجمع المسلمون كافة على وجوبها في جميع الأعصار، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة»([10]).

إذا عرفت هذا، فمن أنكر وجوبها ممن ولد على الفطرة، ونشأ بين المسلمين فهو مرتد يقتل من غير أن يستتاب، وإن لم يكن على الفطرة، بل أسلم عقيب كفرٍ استتيب -مع علم وجوبها - ثلاثًا، فإن تاب وإلا فهو مرتد وجب قتله.

وقد فصلنا القول في ذلك في جواب شبهة (قتال الصديق من لم يؤد الزكاة له ولم يرض بخلافته وتسميتهم أهل الردة)، وعليه فلا مجال للقول بأن مالك بن نويرة قُتِلَ بغير حق، وأنه يجب القصاص من قاتله وإقامة الحد عليه؛ إذ إن القول بذلك ساقط عند السنة والشيعة على السواء.

ثالثًا: الروايات التي تذكر أن عمر بن الخطاب أنكر على أبي بكر عدم قتل خالد، وأن الصديق عذر خالدًا؛ لكونه سيفًا من سيوف الله، كل هذا لا يصح.

يقول عبد السلام بن محسن آل عيسى: «والروايات الواردة في موقف عمر رضي الله عنه من خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد قتله مالك بن نويرة لم تثبت، وأيضًا فإن فيها أن السرية التي كانت مع خالد رضي الله عنه اختلفت في أمر مالك وأصحابه، هل عادوا إلى الدين وأذنوا وأقاموا؟ أم تمسكوا بما هم فيه من الردة، ومنع الزكاة؟([11]).

ومن الواجب استعراض أشهر الروايات في القضية لبيان الباطل فيها.

الرواية الأولى من «تاريخ الطبري»: «قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ، فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، يَذْكُرُ عَنْ شُعَيْبِ بن إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ شَجَرَةَ الْعُقْفَانِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ الْمُثْعِبَةِ الرِّيَاحِيِّ، قَالَ: قَدِم خَالدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبِطَاحَ فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ أَحْدًا، وَوَجَدَ مَالِكًا قَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الاجْتِمَاعِ حِينَ تَرَدَّدَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَقَالَ: يَا بَنِي يَرْبُوعٍ، إِنَّا قَدْ كُنَّا عَصَيْنَا أُمَرَاءَنَا إِذْ دَعَوْنَا إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَبَطَّأْنَا النَّاسَ عنه فَلَمْ نُفْلِحْ وَلَمْ نَنْجَحْ، وَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ، فَوَجَدْتُ الأَمْرَ يَتَأَتَّى لَهُمْ بِغَيْرِ سِيَاسَةٍ، وَإِذَا الأَمْرُ لا يَسُوسُهُ النَّاسُ، فَإِيَّاكُمْ وَمُنَاوَأَةَ قَوْمٍ صُنِعَ لَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى دِيَارِكُمْ وَادْخُلُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَخَرَجَ مَالِكٌ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ الْبِطَاحَ بَثَّ السَّرَايَا وَأَمَرَهُمْ بِدَاعِيَةِ الإِسْلامِ أَنْ يَأْتُوهُ بِكُلِّ مَنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَكَانَ مِمَّا أَوْصَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ: إِذَا نَزَلْتُمْ مَنْزِلًا فَأَذِّنُوا وَأَقِيمُوا، فَإِنْ أَذَّنَ الْقَوْمُ وَأَقَامُوا فَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ إِلَّا الْغَارَة، ثُمَّ اقْتُلُوهُمْ كُلَّ قِتْلَةٍ، الْحَرْقَ فَمَا سِوَاهُ، وَإِنْ أَجَابُوكُمْ إِلَى دَاعِيَةِ الإِسْلامِ فَسَائِلُوهُمْ، فَإِنْ أَقَرُّوا بِالزَّكَاةِ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْهَا فَلا شَيْءٌ إِلا الْغَارَةُ وَلا كَلِمَةٌ، فَجَاءَتْهُ الْخَيْلُ بِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، مِنْ عَاصِمٍ وَعُبَيْدٍ وَعُرَيْنٍ وَجَعْفَرٍ، فَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، وَفِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَكَانَ فِيمَنْ شَهِدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِمْ أَمَرَ بِهِمْ فَحُبِسُوا فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ لا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ، وَجَعَلَتْ تَزْدَادُ بَرْدًا، فَأَمَرَ خَالِدٌ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَدْفِئُوا أَسْرَاكُمْ، وَكَانَتْ فِي لُغَةِ كِنَانَةَ إِذَا قَالُوا: دَثِّرُوا الرَّجُلَ فَأَدْفِئُوهُ، دِفْئُهُ قَتْلُهُ، وَفِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ: أَدْفِهِ فَاقْتُلْهُ، فَظَنَّ الْقَوْمُ -وَهِيَ فِي لُغَتِهِمِ الْقَتْلُ- أَنَّهُ أَرَادَ الْقَتْلَ، فَقَتَلُوهُمْ، فَقَتَلَ ضِرَارُ بْنُ الأَزْوَرِ مَالِكًا، وَسِمَع خَالِدٌ الْوَاعِيَةَ، فَخَرَجَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْهُمْ، فَقَالَ: إِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا أَصَابَهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هَذَا عَمَلُكَ، فَزَبَرَهُ خَالِدٌ فَغَضِبَ وَمَضَى، حَتَّى أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ فِيهِ، فَلَمْ يَرْضَ إِلا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ مَعَهُ الْمَدِينَةَ، وَتَزَوَّجَ خَالِدٌ أُمَّ تَمِيمِ ابْنَةَ الْمِنْهَالِ، وَتَرَكَهَا لِيَنْقَضِيَ طُهْرُهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَكْرَهُ النِّسَاءَ فِي الْحَرْبِ وَتُعَايِرُهُ، وَقَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: إِنَّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا حَقًّا، حَقَّ عَلَيْهِ أَنْ تُقِيدَهُ، وَأَكَثَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يُقِيدُ مِنْ عُمَّالِهِ وَلا وَزَعَتِهِ- فَقَالَ: هَيْهٍ يَا عُمَرُ! تَأَوَّلَ فَأَخْطَأَ، فَارْفَعْ لِسَانَكَ عَنْ خَالِدٍ، وَوَدَى مَالِكًا، وَكَتَبَ إِلَى خَالِدٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَعَذَرَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ، وَعَنَّفَهُ فِي التَّزْوِيجِ الَّذِي كَانَتْ تَعِيبُ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ»([12]).

فهذه من أشهر الروايات في القصة، وهي رواية مكذوبة وباطلة سندًا ومتنًا. أما من ناحية السند:

١- «سهل»، وهو ابن يوسف بن سهل بن مالك الأنصاري مجهول الحال، قال ابن عبد البر: «لا يعرف ولا أبوه»([13]).

٢- سيف بن عمر الضَّبِّيُّ، قال ابن الجوزي: «قَالَ يحيى: ضَعِيف الحَدِيث فلس خير مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَنِ الْأَثْبَات، وَقَالَ: إِنَّه يضع الحَدِيث»([14]).

٣- شعيب بن إبراهيم الكوفي، قال الذهبي: «راوية كتب سيف عنه، فيه جهالة»([15])، وقال ابن حجر: «فيه جهالة»([16])، قَالَ ابنُ عَدِي: «وَشُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا لَهُ أَحَادِيثُ وَأَخْبَارٌ، وَهو ليس بذلك المعروف، ومقدار ما يروي من الحديث وَالأَخْبَارِ لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ، وَفِيهِ بَعْضُ النَّكِرَةِ؛ لأَنَّ فِي أَخْبَارِهِ وَأَحَادِيثِهِ مَا فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى السَّلَفِ»([17]).

فهذا حال الرواية من جهة الإسناد.

وأما من جهة المتن فنقضها كالتالي:

في قول مالك بن نويرة: «وَإِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ، فَوَجَدْتُ الأَمْرَ يَتَأَتَّى لَهُمْ بِغَيْرِ سِيَاسَةٍ، وَإِذَا الأَمْرُ لا يَسُوسُهُ النَّاسُ، فَإِيَّاكُمْ وَمُنَاوَأَةَ قَوْمٍ صُنِعَ لَهُمْ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى دِيَارِكُمْ وَادْخُلُوا فِي هَذَا الأَمْرِ»، فهذا صريح في أمره لقومه بالإسلام، وأنه أسلم مخلصًا عن قناعة، فلماذا لم يذهب إلى المسلمين طائعًا مختارًا بقومه؟ وَلِمَ أمرهم بالتفرق؟ ثم هو يعلم أن جيش خالد إنما يقاتل مَنِ الْتَوَى بالزكاة فلمَ لم يؤدها كما أمر الله تعالى؟

أيضًا في الرواية: «فَجَاءَتْهُ الْخَيْلُ بِمَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ، مِنْ عَاصِمٍ وَعُبَيْدٍ وَعُرَيْنٍ وَجَعْفَرٍ، فَاخْتَلَفَتِ السَّرِيَّةُ فِيهِمْ، وَفِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، فَكَانَ فِيمَنْ شَهِدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا وَصَلَّوْا، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِمْ»، فالسؤال: كيف تختلف السرية التي جاءت بمالك بن نويرة ومن معه في أنهم أقاموا الصلاة معهم، فأبو قتادة يقول: إنهم قد صلوا، وغيره يقول: لم يصلوا، فاختلفوا فيهم! فهل هذا إلا اتهام لجيش الصديق وجيش خالد الذي نصره الله على مسيلمة الكذاب: أنهم مجموعة كذبة وفسقة يشهدون بالباطل؟

ثم لماذا يجيء رجال السرية بمالك بن نويرة إذا كان قد صلى معهم وأسلم، كما هو المنقول على لسان أبي قتادة؟

ثم إن خالد بن الوليد قد ولَّاه رسول الله r وولاه الصديق من بعده، فكيف يصح لخالد أن يخاطبهم بلغة لا يفهمها جنده؟

وكيف يدافع الصديق عن خالد بقوله: «تأول فأخطأ»، وخالد في الرواية لم يتأول ولم يخطئ، بل إن الذي أخطأ هم بعض الجند لما فهموا كلمة: «أَدْفِئُوا أَسْرَاكُمْ» بأنها تعني القتل؟!

ثم الرواية تقول بأن الصديق دفع دية مالك بن نويرة، فأين باقي الأسرى إذًا من الديات؟ أم أن الخطأ فقط كان متعلقًا بمالكٍ وحده، وباقي الأسرى الذين كانوا معه لما قتلوا لم يكن هناك تأويل وخطأ في قتلهم أيضا؟ ثم إن الرواية تزعم أن خالدًا أمر بالحرق لمن منع الصلاة، فأين هذا في سيرة المجاهدين في حروب الردة؟

تالله ما هذا إلا محض كذب على أصحاب النبي r.

 

الرواية الثانية من تاريخ «الطبري» أيضًا: «حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى جُيُوشِهِ: أَنْ إِذَا غَشِيتُمْ دَارًا مِنْ دُورِ النَّاسِ فَسَمِعْتُمْ فِيهَا أَذَانًا لِلصَّلاةِ، فَأَمْسِكُوا عَنْ أَهْلِهَا حَتَّى تَسْأَلُوهُمْ مَا الَّذِي نَقَمُوا؟! وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا أَذَانًا، فَشِنُّوا الْغَارَةَ، فَاقْتُلُوا وَحَرِّقُوا، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ لِمَالِكٍ بِالإِسْلامِ: أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَقَدْ كَانَ عَاهَدَ اللهَ أَلا يَشْهَدَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حَرْبًا أَبَدًا بَعْدَهَا، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُمْ لَمَّا غَشُوا الْقَوْمَ رَاعُوهُمْ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَخَذَ الْقَوْمُ السِّلاحَ، قَالَ: فَقُلْنَا: إِنَّا الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: وَنَحْنُ الْمُسْلِمُونَ، قُلْنَا: فَمَا بَالُ السِّلاحُ مَعَكُمْ! قَالُوا لَنَا: فَمَا بَالُ السِّلاحُ مَعَكُمْ! قُلْنَا: فَإِنْ كُنْتُمْ كَمَا تَقُولُونَ فَضَعُوا السِّلاحَ، قَالَ: فَوَضَعُوهَا، ثُمَّ صَلَّيْنَا وَصَلُوا وَكَانَ خَالِدٌ يَعْتَذِرُ فِي قَتْلِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ وَهُوَ يُرَاجِعُهُ: مَا أَخَالُ صَاحِبَكُمْ إِلا وَقَدْ كَانَ يقُولُ كذا وكذا، قَاَل: أَوَمَا تَعُدُّهُ لَكَ صَاحِبًا؟! ثُمَّ قَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَعْنَاقَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ تَكَلَّمَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ فَأَكْثَرَ، وقال: عَدُوُّ اللهِ عَدَا عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ نَزَا عَلَى امْرَأَتِهِ! وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَافِلًا حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ لَهُ عَلَيْهِ صَدَأُ الْحَدِيدِ، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ لَهُ، قَدْ غَرَزَ فِي عِمَامَتِهِ أَسْهُمًا، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَانْتَزَعَ الأَسْهُمَ مِنْ رَأْسِهِ فَحَطَّمَهَا، ثم قال: أَرِثَاء؟! قَتَلْتَ امْرَأً مُسْلِمًا، ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى امْرَأَتِهِ؟! وَاللهِ لأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ -وَلا يُكَلِّمُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلا يَظُنُّ إِلا أَنَّ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِثْلِ رَأْيِ عُمَرَ فِيهِ- حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَتَجَاوَزَ عَنْهُ مَا كَانَ فِي حَرْبِهِ تِلْكَ، قَالَ: فَخَرَجَ خَالِدٌ حِينَ رَضِيَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: هَلُمَّ إِلَيَّ يا بْنَ أُمِّ شَمْلَةَ! قَالَ: فَعَرَفَ عُمَرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنِ نُوَيْرَةَ عَبْدُ بْنُ الأَزْوَرِ الأَسَدِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: الَّذِي قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ»([18]).

وهذه أيضًا لا تصح سندًا ولا متنًا، أما من ناحية السند ففيه:

1 محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف.

قال الذهبي: «محمد بن حميد الرازي الحافظ عن يعقوب العمي وجرير وابن المبارك ضعيف، لا من قبل الحفظ، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير، وقال البخاري: فيه نظر، وقال أبو زرعة: يكذب، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن ابن الشاذكوني»([19])، وقال الحافظ ابن حجر: «حافظ ضعيف»([20]).

2- سلمة بن الفضل: قال ابن الجوزي: «سَلمَة بن الْفضل أَبُو عبد الله الأبرش الْأنْصَارِيّ قَاضِي الرّيّ، يروي عَن ابْن إِسْحَاق الْمَغَازِي، ضعفه ابْن رَاهَوَيْه وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ عَليٌّ: رمينَا حَدِيثه، وَقَالَ البُخَارِيّ: عِنْده مَنَاكِير»([21]).

٣- محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن، قال الحافظ ابن حجر: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي، صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما»([22]).

وذكره الحافظ في المرتبة الرابعة في المدلسين، وقد قال عن هذه المرتبة: «الرابعة من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد»([23]).

٤- طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق التيمي المدني: مقبول من الثالثة([24]).

وهذه المرتبة حديث صاحبها ضعيفٌ عند جمهور أهل العلم، فحكم حديث الراوي المقبول هو الضعف؛ لأنه كحكم حديث الراوي المجهول، والجمهور على رده وتضعيفه([25]).

٥- الانقطاع بين طلحة وبين القصة؛ إذ إن طلحة لم يولد إلا بعد موت الصديق بقرابة العشرين عامًا؛ ولذلك لم يرو عن جد أبيه الصديق إلا بواسطة، وهي هنا مجهولة([26]).

هذا من ناحية الإسناد.

وأما المتن ففيها الأمر بالتحريق للناس، وقد سبق بيان كذبه، وفيها شهادة أبي قتادة وحده بالإسلام لمالك، وقد سبق نقده، وفيها الصلاة جميعًا، فكيف يحكم بالكفر مباشرة وقد صلوا إلى جنب بعضهم، وقد سبق أيضًا، وفيها الكلام المنسوب لعمر أنه قال عن خالد: «عدو الله عَدَا عَلَى امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ نَزَا عَلَى امْرَأَتِهِ!» فهل يتصور عاقل أن يقول عمر ذلك عن خالد ويسكت له أبو بكر؟ أين رد أبي بكر عن قائده الذي دافع عنه بعد وصوله؟ أم هو الدفاع نفاقًا عياذًا بالله؟ ثم إن هذا الكلام لو صح عن عمر لكان استوجب العقوبة، فلِمَ لم يعاقبه الصديق في زعم الرواية الآثمة؟

ثم إن قول عمر في الرواية لخالد: «وَاللهِ لأَرْجُمَنَّكَ بِأَحْجَارِكَ» وفي بعض الروايات: «لَئِنْ وُلِّيتُ الْأَمْرَ لَأَقِيدَنَّكَ بِهِ»([27])، فلِمَ لم ينفذ عمر قَسَمَه ووعيده حين تولى الخلافة؟! أم أنه نسي قضية مالك بن نويرة؟ هذا عَتَهٌ وسخف ننزه عنه أصحاب النبي r.

ونخلص من هذا إلى أن الروايات لا تثبت في ذلك، وقد اضطربت اضطرابًا شديدًا.

أما فيما يخص أخذ امرأة مالك فيقول د. محمد سهيل طقوش: «وتتباين المصادر أيضًا في وضع أرملة مالك بن نويرة، ويمكن أن نطرح عدة أسئلة تتعلق به مثل: هل تزوج خالد أمَّ تميم امرأة مالك، أم اتخذها محظية فحسب؟ وهل عاشرها فورًا، أم بعد انتهاء عدتها؟ وكيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك؟ يروي الطبري: «وتزوج خالد أم تميم ابنة المنهال، وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب، وتعايره»، وثمة رواية أخرى: «وقبض خالد امرأته «امرأة مالك»، فقيل: اشتراها من الفيء وتزوج بها، وقيل: إنها اعتدت بثلاث حيض ثم خطبها إلى نفسه، فأجابته»([28]).

وعليه فلم يثبت أن خالدًا دخل بها في نفس الليلة كما يزعمون، والأصل أنه تزوجها على قوانين الإسلام سواء بانقضاء عدتها، أو بالاستبراء كما هو في حال السبي، والأصل في تصرفات المسلمين السلامة وحسن الظن، ومن ادعى العكس فعليه بالدليل.

وعليه؛ فلا لوم على خالد فضلًا عن الزعم بأنه يجب أن يطبق عليه حد القتل أو الزنا، فكل هذا باطل لا قدم له ولا ساق.

رابعًا: إذا اتهم الرافضة الصديق بأنه لم يقم الحد على خالد، فماذا سيقولون في علي الذي عطل الحد على من ارتكب فاحشة اللواط؟

ففي «الكافي»: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ ابْنِ رِئَابٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) قَالَ: بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فِي مَلَإٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَارًا هَاجَ بِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ عَادَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَارًا هَاجَ بِكَ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بَعْدَ مَرَّتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) حَكَمَ فِي مِثْلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ فَاخْتَرْ أَيَّهُنَّ شِئْتَ، قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِكَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، أَوْ إِهْدَاءٌ مِنْ جَبَلٍ مَشْدُودَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ إِحْرَاقٌ بِالنَّارِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيُّهُنَّ أَشَدُّ عَلَيَّ؟ قَالَ: الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: خُذْ لِذَلِكَ أُهْبَتَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِي تَشَهُّدِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي قَدْ أَتَيْتُ مِنَ الذَّنْبِ مَا قَدْ عَلِمْتَهُ، وَإِنِّي تَخَوَّفْتُ مِنْ ذَلِكَ فَجِئْتُ إِلَى وَصِيِّ رَسُولِكَ وَابْنِ عَمِّ نَبِيِّكَ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُطَهِّرَنِي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ، اللهُمَّ فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ أَشَدَّهَا، اللهُمَّ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِي وَأَلَّا تُحْرِقَنِي بِنَارِكَ فِي آخِرَتِي، ثُمَّ قَامَ وَهُوَ بَاكٍ حَتَّى جَلَسَ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي حَفَرَهَا لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَهُوَ يَرَى النَّارَ تَتَأَجَّجُ حَوْلَهُ، قَالَ: فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) وَبَكَى أَصْحَابُهُ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): قُمْ يَا هَذَا، فَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةَ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَابَ عَلَيْكَ فَقُمْ وَلَا تُعَاوِدَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَدْ فَعَلْتَ»([29]).

بل وجعلوا تعطيل حدود الله مع وجود الإقرار والاعتراف من خصائص الإمام، وقد بوب النوري في مستدركه (باب أنه لا يعفو عن الحدود التي لله إلا الإمام، مع الإقرار لا مع البينة، وأن من عفا عن حقه فليس له الرجوع) ثم ذكر رواية عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، أنه قال: «لا يعفو عن الحدود التي لله دون الإمام»([30]).

فكيف جاز للإمام دون غيره أن يعطل حدود الله؟

هل سيقول الرَّافضة: إن الأئمة يتلاعبون بالشرع والحدود؟ أم هذه الاتهامات عندهم محصورة على أصحاب رسول الله e؟!

 

 

 

 ([1]) العواصم من القواصم، ابن العربي (ص٢١٩) ط دار الجيل.

 ([2]) الحدائق الناضرة (18/310).

 ([3]) الطبقات الكبرى، ابن سعد (ص٥٣٣ -٥٤٠).

 ([4]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (8/57).

 ([5]) طبقات فحول الشعراء، ابن سلّام الجمحي (1/207).

 ([6]) كتاب الردة، الواقدي (ص107).

 ([7]) أحكام القرآن، الجصاص (3/181) ت قمحاوي.

 ([8]) «القاضي أبو يعلى وكتابه مسائل الإيمان دراسة وتحقيقًا»، سعود بن عبد العزيز الخلف (ص٣٣٠ - ٣٣٢).

 ([9]) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، جعفر كاشف الغطاء (4/367) ط الحديثة.

 ([10]) تذكرة الفقهاء، الحلي (5/7).

 ([11]) دراسة نقدية في المرويات الواردة في شخصية عمر بن الخطاب وسياسته الإدارية رضي الله عنه، عبد السلام بن محسن آل عيسى (1/535).

 ([12]) تاريخ الطبري (3/٢٧7 -٢٧9).

 ([13]) لسان الميزان (3/122).

 ([14]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/35).

 ([15]) ميزان الاعتدال (2/275).

 ([16]) لسان الميزان (4/247) ت أبي غدة.

 ([17]) الكامل في ضعفاء الرجال (5/7).

 ([18]) تاريخ الطبري (3/٢٧٩ - ٢٨٠).

 ([19]) المغني في الضعفاء، الذهبي (2/573).

 ([20]) تقريب التهذيب (1/475).

 ([21]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/11).

 ([22]) طبقات المدلسين، ابن حجر (1/51).

 ([23]) طبقات المدلسين ابن حجر (1/13).

 ([24]) تقريب التهذيب (ص282).

 ([25]) «مصطلح مقبول عند ابن حجر وتطبيقاته على الرواة من الطبقتين الثانية والثالثة في كتب السنن الأربعة»، محمد راغب راشد الجيطان، رسالة ماجستير 2010م. (ص277).

 ([26]) تاريخ الإسلام، ت بشار (3/251)، الثقات، ابن حبان (4/392).

 ([27]) تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/209).

 ([28]) تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية (ص79).

 ([29]) الكافي، الكليني (14/79)، وقال المجلسي في مرآة العقول (23/306) «حسن».

 ([30]) مستدرك الوسائل، النوري (١٨/٢٢).