أولًا: لم يصح في حرق الفجاءة شيء، وقصة الفجاءة باختصار أنه رجل ذكرت مجموعة من كتب التواريخ أنه يدعى «الفجاءة السلمي» وقد جاء إلى أبي بكر الصديق في أيام حروب الردة وسأله أن يسلحه ليحارب المرتدين، فلما سلَّحه صار يقتل المسلمين والمرتدين، فأرسل إليه الصديق من يقاتله، فأسره طريفة بن حاجز، وأمر الصديق بإحراقه، ثم إن الصديق قد ندم بعد ذلك على إحراقه له.
وهذه قصة لا تصح ألبتة عن الصديق رضي الله عنه، وإليك بعض المصادر التي ذكرتها مع تفنيد أسانيدها:
- رواية الطبري:
قال الإمام الطبري: «قَالَ السري: قَالَ شعيب، عن سيف، عن سهل وأبي يعقوب، قالا: كَانَ من حديث الجواء وناعر، أن الفجاءة إياس بْن عبد ياليل قدم على أبي بكر، فَقَالَ: أعنّي بسلاح، ومرني بمن شئت من أهل الردة، فأعطاه سلاحًا، وأمره أمره، فخالف أمره إلى الْمُسْلِمين، فخرج حَتَّى نزل بالجواء، وبعث نجبة بْن أبي الميثاء من بني الشريد، وأمره بالمسلمين، فشنها غارة على كل مسلم فِي سليم وعامر وهوازن، وبلغ ذَلِكَ أبا بكر، فأرسل إلى طريفة بْن حاجز يأمره أن يجمع لَهُ وأن يسير إليه، وبعث إليه عبد الله بْن قيس الجاسي عونًا، ففعل، ثُمَّ نهضا إليه وطلباه، فجعل يلوذ منهما حَتَّى لقياه على الجواء، فاقتتلوا، فقتل نجبة، وهرب الفجاءة، فلحقه طريفة فأسره ثُمَّ بعث بِهِ إلى أبي بكر، فقدم بِهِ على أبي بكر، فأمر فأوقد لَهُ نارًا فِي مصلى الْمَدِينَة على حطب كثير، ثُمَّ رمي بِهِ فيها مقموطا»([1]).
وهذه الرواية لا تصح؛ إذ فيها شعيب بن إبراهيم الكوفي، قال الذهبي: «شعيب بن إبراهيم الكوفي، راوية كتب سيف عنه، فيه جهالة»([2]).
وقال أكرم الفالوجي: «شعيب بن إبراهيم الكوفي، راوية كتب سيف بن عمر عنه، من التاسعة، قال ابن عدي في «الكامل»: «له أحاديث وأخبار، وهو ليس بذلك المعروف، ومقدار ما يروي من الحديث والأخبار ليست بالكثيرة، وفيه بعض النكرة؛ لأن في أخباره وأحاديثه ما فيه تحامل على السلف »([3]).
الراوي الثاني: سيف بن عمر
قال ابن الجوزي: «سيف بن عمر الضَّبِّيُّ عَن أبي بكر الْمدنِي فِي الأَصْل كُوفِي بروي عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ، قَالَ يحيى: ضَعِيف الحَدِيث، فلس خير مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيُّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَقَالَ: إِنَّه يضع الحَدِيث»([4]).
وقال أبو نعيم: «سيف بن عمر الضَّبِّيُّ الْكُوفِيُّ مُتَّهم فِي دينه، مرمي بالزندقة، سَاقِط الحَدِيث، لَا شَيْء»([5]).
٢- الرواية الثانية في تاريخ الطبري
«قال أبو جعفر: وأما ابن حميد فإنه حَدَّثَنَا فِي شأن الفجاءة عن سلمة، عَنْ محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر قَالَ: قدم على أبي بكر رجل من بني سليم، يقال لَهُ: الفجاءة، وهو إياس بْن عبد الله بْن عبد ياليل بْن عميرة بْن خفاف، فَقَالَ لأبي بكر: إني مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملني وأعنّي، فحمله أبو بكر على ظهر، وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس: المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشريد، يقال لَهُ: نجبة بْن أبي الميثاء، فلما بلغ أبا بكر خبره، كتب إلى طريفة بْن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عَنِ الإِسْلامِ، فحملته وسلحته، ثُمَّ انتهى إليَّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد يأخذ أموالهم، ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك مِنَ الْمُسْلِمين حَتَّى تقتله»([6]).
وهذه الرواية أيضًا لا تصح؛ إذ فيها محمد بن حميد الرازي، قال ابن الجوزي: «مُحَمَّد بن حميد بن حَيَّان أَبُو عبد الله الرَّازِيّ، يروي عَن ابْن الْمُبَارك كذبه أَبُو زرْعَة وَابْن وارة، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِثِقَة، وَقَالَ ابْن حبَان: يتفرد عَن الثِّقَات بالمقلوبات، وَقَالَ صَالح بن مُحَمَّد الْأَسدي: مَا رَأَيْت أحذق بِالْكَذِبِ مِنْهُ وَمن الشَّاذكُونِي»([7]).
العلة الثانية: عنعنة ابن إسحاق
قال ابن حجر رحمه الله: «ما ينفرد به وإن لم يبلغ الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث»([8])، وهنا لم يصرح بالسماع وقد عنعن، وهو معدود في المدلسين.
قال السيوطي: «محمد بن إسحاق كثير التدليس ويعرف بالإمام»([9]).
وقال ابن العراقي: «محمد بن إسحاق بن يسار ممن أكثر من التدليس خصوصًا عن الضعفاء»([10]).
وقال الحافظ ابن حجر: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي صدوق مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما»([11]).
وعليه بالرواية ساقطة ولا تصح.
الرواية الثالثة: رواية (فتوح البلدان).
قال: «وأخبرني داود بْنُ حبال الأسدي عن أشياخ من قومه: ... وجعل خَالِد يومئذ يحرق المرتدين، فقيل لأبي بكر في ذلك فقال: لا أشيم سيفًا سله الله عَلَى الكفار، وأسلم أَبُو شجرة فقدم عَلَى عُمَر وهو يعطي المساكين فاستعطاه، فقال له ألست القائل:
ورويت رمحي من كتيبة خَالِد * وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
وعلاه بالدرة فقال: قَدْ محَا الإسلامُ ذلك يا أمير الْمُؤْمِنِين، قَالُوا: وأتى الفجاءة وهو بجير بْن إياس بْن عَبْد اللَّهِ السلمي أَبَا بكر فقال: احملني وقوني أقاتل المرتدين...»([12]).
وهذه الرواية أيضًا لا تصح، فداود شيخ البلاذري لا توجد لهُ ترجمة ولا أي رواية غير هذه، ولا شك أن أشياخه لم يدركوا حروب الردة، وهم مجاهيل، فالسند معضل، فاجتمع في داود هذا وفي شيوخه جهالة العين والإعضال الشديد، فهو ضعيف جدًّا.
وأما روايات ندم الصديق عند موته على أمور، ومنها: حرق الفجاءة السلمي فقد تم تفنيدها، والرد عليها في شبهة (كشف بيت فاطمة) في كتابنا هذا.
ثانيًا: الذي جاء عن الصديق -إن صح- أن الحرق إنما كان بأمر علِي لرجل يعمل عمل قوم لوط، وكان ذلك حال موته، وليس حال الحياة، والحرق بعد الموت ليكون عبره لغيره.
فقد جاء عند البيهقي بسنده: «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ r فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ يَوْمَئِذٍ قَوْلًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، صَنَعَ اللهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، نَرَى أَنْ نُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ r عَلَى أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ»([13]).
وقد جاء هذا في كتب الشيعة، فقد رووا «عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام: أن أبا بكر أوتي برجل ينكح في دبره، فقال: يا علي، ما الحكم فيه؟ فقال: أحرقه بالنار، فان العرب تأنف من المثلة، فأحرقه أبو بكر، بقول علِي عليه السلام»([14]).
ثالثا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في: «أَنَّ الْإِحْرَاقَ بِالنَّارِ عَنْ عَلِيٍّ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ مِنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، [وَأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ] فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِقَوْمٍ زَنَادِقَةٍ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ، فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ»([15]).
والرواية في صحيح البخاري قال: «حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا حمَّاد بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ r: «لَا تعذِّبوا بِعَذَابِ اللَّهِ»، وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ r: «من بدَّل دينه فاقتلوه»»([16]).
وقد جاء في (مصنف عبد الرزاق): «عَنْ مَعْمَرٍ وَابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، أَنَّ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ تَنَصَّرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَبَعَثَ بِهِ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدِ إِلَى عَلِيٍّ، فَاسْتَتَابَه، فَلَمْ يَتُبْ، فَقَتَلَه، فَطَلَبَتِ النَّصارَى جِيفَتَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَأَبَى عَلِيٌّ وَأَحْرَقَهُ»([17]).
وتحريق علي للسبئية ثابت في كتب الشيعة:
فقد رووا «عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ وَهُوَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَإٍ وَمَا ادَّعَى مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى ذَلِكَ فِيهِ اسْتَتَابَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ»([18]).
وفي (الكافي) «عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: أَتى قَوْمٌ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَبَّنَا، فَاسْتَتَابَهُمْ، فَلَمْ يَتُوبُوا، فَحَفَرَ لَهُمْ حَفِيرَةً، وَأَوْقَدَ فِيهَا نَارًا، وَحَفَرَ حَفِيرَةً أُخْرى إِلى جَانِبِهَا، وَأَفْضى مَا بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَتُوبُوا أَلْقَاهُمْ فِي الْحَفِيرَةِ، وَأَوْقَدَ فِي الْحَفِيرَةِ الْأُخْرى نَارًا حَتّى مَاتُوا»([19]).
فقول الشيعة سيرجع الطعن في النهاية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاشاه من طعن الروافض فيه.
([1]) تاريخ الطبري (3/264).
([2]) ميزان الاعتدال (2/275).
([3]) «المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطبري» (1/238).
([4]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/35).
([5]) الضعفاء، أبي نعيم (ص91).
([6]) تاريخ الطبري (3/265).
([7]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (3/54).
([8]) فتح الباري (11/163).
([9]) أسماء المدلسين (ص٨١).
([10]) أسماء المدلسين (ص٨١).
([11]) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (ص٥١).
([12]) فتوح البلدان (ص102).
([13]) السنن الكبرى، البيهقي (8/405) ط العلمية.
([14]) الجعفريات الأشعثيات، محمد بن أشعث كوفي (1/127)، مستدرك الوسائل، النوري (18/79).
([15]) منهاج السنة النبوية (٤٩٥/٥).
([16]) صحيح البخاري (6/2537) ت البغا.
([17]) مصنف عبد الرزاق (9/348) ط التأصيل الثانية.
([18]) اختيار معرفة الرجال المعروف بـ(رجال الكشي)، الطوسي (1/107).
([19]) الكافي، الكليني (14/237)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (٢٣/٤٠١): «حسن».