أولًا: أهل الردة الذين ارتدوا بعد موت النبي r أقسام:
فمنهم من رجع إلى الأصنام والأوثان فعبدها، ومنهم من أنكر نبوة النبي r وقال: لو كان نبيًّا ما مات؛ وهؤلاء كفارٌ لا إشكال فيهم، ومنهم من منع الزكاة، والصحابة قاتلوهم جميعًا، ولم يفرِّقوا بينهم وسموهم المرتدين.
والذي منع الزكاة: قال العلماء إنما كفر؛ لأنه إذا منعها وقاتل عليها دل على جحوده إياها؛ لأنه فعل أمرين: منعها وقاتل عليها، أما إذا منعها ولم يقاتل عليها فإنها تؤخذ منه ويؤدَّب ولا يكفر، ولكن إن منعها وقاتل عليها فإنه يكفر؛ لأن هذا دليل على جحوده.
والمرتدون الذين منعوا الزكاة منعوها وقاتلوا عليها، فدل على أنهم جحدوها، ولهذا عاملهم الصحابة معاملة المرتدين وسموهم مرتدين كلهم وقاتلوهم، لا فرق بين من أنكر نبوة محمد أو عبد الأصنام أو من جحد الزكاة؛ لأنه جحد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.
ومن العلماء من قال بأنهم دخلوا في اسم الردة توسعًا، وإليك بعض كلام أهل العلم في ذلك:
قال الخطابي: «ومما يجب أن يعلم ها هنا أن الذين يلزمهم اسم الردة من العرب كانوا صنفين: صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعاودوا الكفر، وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: (وكفر من كفر من العرب)، وهم أصحاب مسيلمة ومن سلك مذهبهم في إنكار نبوة محمد r، والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا الزكاة، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم على الاختصاص به لدخولهم في غمار أهل الردة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة؛ إذ كانت أعظم الأمرين خطبًا»([1]).
وقال ابن عبد البر: «فَقَاتَلُوا مَانِعِي الزَّكَاةِ كَمَا قَاتَلُوا أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَسَمَّاهُمْ بَعْضُهُمْ أَهْلَ رِدَّةٍ عَلَى الِاتِّسَاعِ؛ لِأَنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَعْلُومٌ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا تَرَكْنَا دِينَنَا، وَلَكِنْ شَحَحْنَا عَلَى أَمْوَالِنَا»([2]).
وقال الحافظ ابن حجر: «وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قِتَالِ مَنْ جَحَدَ الزَّكَاةَ، قَوْلُهُ: (لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ) يَجُوزُ تَشْدِيدُ (فَرَّقَ) وَتَخْفِيفُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْفَرْقِ مَنْ أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَأَنْكَرَ الزَّكَاةَ جَاحِدًا أَوْ مَانِعًا مَعَ الِاعْتِرَافِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ الْكُفْرُ؛ لِيَشْمَلَ الصِّنْفَيْنِ، فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ جَحَدَ حَقِيقَةً وَفِي حَقِّ الْآخَرِينَ مَجَازٌ تَغْلِيبًا، وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمُ الصِّدِّيقُ وَلَمْ يَعْذِرْهُمْ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُمْ نَصَبُوا الْقِتَالَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمْ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ فَلَمَّا أَصَرُّوا قَاتَلَهُمْ»([3]).
وقال ابن كثير: «وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَزِيرُهُ وَصَدِيقُهُ وَخَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَقَدْ مَالَ الدِّينُ مَيْلَةً كَادَ أَنْ يَنْجَفِلَ، فَثَبَّتَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ فَوَطَّدَ الْقَوَاعِدَ، وَثَبَّتَ الدَّعَائِمَ، وَرَدَّ شَارِدَ الدِّينِ وَهُوَ رَاغِمٌ، وَرَدَّ أَهْلَ الرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ الزَّكَاةَ مِمَّنْ مَنَعَهَا مِنَ الطَّغَامِ، وَبَيَّنَ الْحَقَّ لِمَنْ جَهِلَهُ، وَأَدَّى عَنِ الرَّسُولِ مَا حَمَلَهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الرُّومِ عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ وَإِلَى الْفُرْسِ عَبَدَةِ النِّيرَانِ، فَفَتَحَ اللهُ بِبَرَكَةِ سِفَارَتِهِ الْبِلَادَ، وَأَرْغَمَ أَنْفُسَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَمَنْ أَطَاعَهُمَا مِنَ الْعِبَادِ، وَأَنْفَقَ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ الْإِلَهِ»([4]).
ثانيًا: أقر علماء الشيعة بأن الصديق قاتل المرتدين حقيقةً ومانعي الزكاة:
قال الطوسي في المبسوط: «ولا خلاف أيضًا أن قتال أهل البغي واجب جائز، وقد قاتل أبو بكر طائفتين، قاتل أهل الردة، قومًا ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وآله، وقاتل مانعي الزكاة وكانوا مؤمنين، وإنما منعوها بتأويل، يدل على ذلك أن أبا بكر لما ثبت على قتالهم قال عمر: كيف تقاتلهم وقد قال النبي عليه وآله السلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» فقال أبو بكر: والله لا فرقت بين ما جمع الله، هذا من حقها، لو منعوني عناقًا مما يعطون رسول الله لقاتلتهم عليها.
فموضع الدلالة أن عمر توقف عن قتالهم لكونهم مؤمنين، وأيضًا فإن القوم لما أسروا، قالوا: والله ما كفرنا بعد إسلامنا وإنما شححنا على أموالنا، وقالوا حين منعوا: قال الله: }خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم{([5]).
وقال جعفر السبحاني: «بعد رحيل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ارتدَّ كثير ممّن أسلم وآمن به في اليمامة وغيرها بقيادة مسيلمة الكذَّاب وغيره»([6]).
ثالثًا: مانع الزكاة يقاتله الإمام باتفاق السنة والشيعة، أما أهل السنة فقد سبق نقل بعض النصوص، وممن قرر المسألة:
أبو بكر الجصاص الحنفي في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) «قيل في الحرج ها هنا: إنَّهُ الشَّكُّ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّسْلِيمَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ وَلَا ضِيقِ صَدْرٍ بِهِ، بَلْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى أَوْ أَوَامِرِ رَسُولِهِ r فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ فِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْقَبُولِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي حُكْمِهِمْ بِارْتِدَادِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ لِلنَّبِيِّ r قَضَاءَهُ وَحُكْمَهُ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ»([7]).
وعلى القول بعدم تكفير مانعي الزكاة؛ فإنهم يقاتلون عليها اتفاقًا، قال ابن تيمية: «هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَى مَنْعِهَا، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللهُ، وَقَد حُكِيَ عَنهُم أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ اللهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) وَقَدْ سَقَطَتْ بِمَوْتِهِ»([8]).
وقال أيضا: «وَأَمَّا قِتَالُ مَانِعِي الزَّكَاةِ إِذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ عَنْ أَدَائِهَا بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهَا فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ»([9]).
وأمام عند الشيعة فالنصوص كثيرة في تكفير وقتال بل وقتل مانع الزكاة:
قال هاشم البحراني في البرهان في تفسير القرآن: «قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) وهم الذين أقروا بالإسلام وأشركوا بالأعمال، وهو قوله تعالى: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يعني: بالأعمال إذا أمروا بأمر عملوا خلاف ما قال الله، فسماهم الله مشركين، ثم قال تعالى: (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) يعني: من لم يدفع الزكاة فهو كافر»([10]).
وفي الكافي: «مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ فَرِيضَةً لَا يُحْمَدُونَ إِلَّا بِأَدَائِهَا، وَهِيَ الزَّكَاةُ، بِهَا حَقَنُوا دِمَاءَهُمْ، وَبِهَا سُمُّوا مُسْلِمِينَ»([11]).
وفي روضة المتقين: «وفي رواية أبي بصير في الموثق كما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من منع قيراطًا -وهو نصف عشر المثقال- من الزكاة فليس بمؤمن حقيقة؛ لأن الإيمان الحقيقي مقرونٌ بالصالحات كما هو ظاهر الآيات، ولا مسلم»([12]).
وقال الصدوق: «وروى عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: ما من رجل يمنع درهما في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما من رجل يمنع حقًّا في ماله إلا طوقه الله به حية من نار يوم القيامة، وروى أبان بن تغلب عنه عليه السلام أنه قال: دمان في الإسلام حلال من الله تبارك وتعالى، لا يقضي فيهما أحد حتى يبعث الله عز وجل قائمنَا أهلَ البيت، فإذا بعث الله عز وجل قائمنا أهل البيت حكم فيهما بحكم الله عز وجل: الزاني المحصن يرجمه، ومانع الزكاة يضرب عنقه، وروى عنه عمرو بن جميع أنه قال: ما أدى أحد الزكاة فنقصت من ماله، ولا منعها أحد فزادت في ماله، وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قول الله عز وجل: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت). وفي رواية اخرى: «ولا تقبل له صلاة».
وروى ابن مسكان عن أبي جعفر عليه السلام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله في المسجد؛ إذ قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتى أخرج خمسة نفر، فقال: اخرجوا من مسجدنا لا تصلوا فيه وأنتم لا تزكون، وروى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من منع قيراطًا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وسأل الرجعة عند الموت، وهو قول الله عز وجل: (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت)، وقال الصادق عليه السلام: صلاة مكتوبة خير من عشرين حجة، وحجة خير من بيت مملوء ذهبا يتصدق به في بر حتى ينفد، ثم قال: ولا أفلح من ضيع عشرين بيتًا من ذهب بخمسة وعشرين درهما، فقيل له: وما معنى خمسة وعشرين [درهما]؟ قال: من منع الزكاة وقفت صلاته حتى يزكي»([13]).
وقال الحلي في شرائع الإسلام: «خاتمة: من منع الزكاة لا مستَحِلًّا فليس بمرتد، ويجوز قتاله حتى يدفعها»([14]).
فهذا كلامهم، وبه تقوم الحجة عليهم، والحمد لله على نعمة العقل والإسلام.
([1]) أعلام الحديث - شرح صحيح البخاري، الخطابي (1/741).
([2]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر (21/282).
([3]) فتح الباري، ابن حجر (21/277).
([4]) تفسير ابن كثير (4/238).
([5]) المبسوط، الطوسي (7/263).
([6]) مع شيخ الأزهر في محاضراته الرمضانية، جعفر السبحاني (1/17).
([7]) أحكام القرآن، الجصاص (3/181) ت قمحاوي.
([8]) مجموع الفتاوى (28/519).
([9]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (4/501).
([10]) البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحراني (4/779).
([11]) الكافي، الكليني (3/498 – 499) وقال المجلسي في مرآة العقول (8/16): موثق.
([12]) روضة المتقين، محمد تقي المجلسي (3/19).
([13]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق (2/11 – 12).
([14]) شرائع الإسلام (1/257).